هل فشل بعض الآباء في تلبية احتياجات الأبناء؟

مما لا شك فيه أن من أسباب فشل بعض الآباء (الأمهات والآباء) في تلبية احتياجات أبنائهم ما تمت مناقشته في الندوة التي كتبت عنها في مقالتي التي نشرت منذ يومين ومنها: الفجوة بين الأجيال التي تحدث بسبب الاختلاف الكبير الذي يفصل جيل المتقدمين في السن (الكبار) الذين هم على مسرح النشاط الاجتماعي، وجيل الشباب الذي سيخلف هذا الجيل، هذه الاختلافات تدور حول وجهة النظر حول العالم، ومعنى ومفهوم الحياة، والقيم والمبادئ، وتعدد أنواع المعرفة، ونماذج السلوك اليومي، خصوصا أننا نعيش في عصر العولمة وعصر التطورات المذهلة، ما يسمى الثورة المعلوماتية والتكنولوجيا الحديثة التي أحدثت تغييرات في كل جوانب الحياة ستغيّر تدريجياً أفكارنا وأسلوب حياتنا اليومية. ولتعدد المنشآت المجتمعية (نواد - صالات كمبيوتر- ملاهٍ) التي زادت من تعدد مصادر الثقافات ومنابعها ونوعيتها وحجمها، ما يشكل العبء المضاف إلى كاهل الأب المربي في متابعة الابن وملاحظة سلوكه وظهور أنماط من الفكر لم يكن بعض الآباء بدراية كافية بها (عبدة الشيطان) وسواها من النماذج شبه الثقافية التي سادت مجتمعاتنا العربية، والخليجية على وجه الخصوص.
كما أن التطور المذهل للمعرفة أسهم في هذا الجانب فأصبح الأبناء يملكون من المعرفة ما قد ينقص الآباء، وقد يؤدي إلى الفجوة المعرفية والثقافية . فأصبح الشباب المعاصر لديه خبرات ومعارف غنية ومدهشة ربما لا تتوافر للآباء.هذه الاكتشافات التكنولوجية والكمالية، تجلبان مباشرة شغف الشباب، بينما يظهر الكبار عادة تحفظا ما أو دهشة وربما ترددا في قبولها خوفا من نتائجها أو استعمالاتها السيئة كالإنترنت مثلا وبعض المواقع التي لا قيود عليها. أيضا ازدواجية المجتمع المعاصر - في رأيي - تعد عنصرا مهما يسبب هذا الفشل، فما يحدث حاليا في العالم من تناقضات في مجال حقوق الإنسان، وانتشار الظلم، وطغيان القوى السياسية الظالمة وازدواجية المعايير، احتقار أحكام الضعفاء، ازدراء حقوق الإنسان، وبصورة عامة كل أشكال الظلم الاجتماعي، وتغيير المواقف باستمرار، بل الاستهزاء بمكانة العلماء حاليا، وانتشار مصطلحات لا تستنبت في المناخ التربوي الإسلامي، ويتم الترويج لها بشكل مستمر مما يحدث تقبلا لها لدى شريحة الشباب وبالتالي رفضا لأي نصيحة من الآباء لا تتماشى مع تلك المنظومة المنافية لأبجديات المسلم . جميع هذه المنظومة تقوم بدور سلبي لا يسهم في أداء الآباء لأبوتهم أو أمومتهم بالشكل المرغوب، وبالتالي يؤدي إلى فشل هؤلاء الآباء في إيفاء أبنائهم احتياجاتهم التربوية والأخلاقية، وقد يشكل تقبلا في نفوس بعضهم لهذه القيم المادية والاستهلاكية التي تعصف بعالمنا العربي والإسلامي، فبدلاً من أن يفتخر الكبار بفضائل العدل وتفضيل مصالح الآخرين والصراحة البشرية (الشفافية)، يرى الشباب سيطرة الظلم، ومحبة المال، والكذب، والنفاق، وتفاقم الشر البشري. إنهم يكتشفون بإحباط أن كثيرا من تلك الأمور التي تعلموها وهم أطفال ليست حقيقية. لقد قدمنا لهم عالما لم يروا له وجودا في الواقع, والشباب يعتبرون هذا التناقض والازدواجية من أكثر الخطايا المميتة للكبار لأنهم رأوا ــ ويرون ــ حولهم أن الانتهازيين يتحكمون ويحصلون على المكاسب والربح السريع، وبعض الشرفاء في أسفل السلم الاجتماعي وهذا يجلب لهم حزناً شديداً، وإحباطا، وغضبا، وفى بعض المواقف قد يجلب لهم القهر الداخلي. أما تأثير الإعلام فقوي بكل فروعه وأنواعه ولأنه وسيلة من وسائل الاتصال والتواصل. لذلك فهو يقع في القلب من كل مجتمع. وهو من أهم الوسائل تأثيراً في تربية الأبناء، وأشدها مزاحمة للأسرة والمدرسة على وظيفتهما التربوية والثقافية. ولقد استحوذت تقنيات الاتصال والإعلام على الاهتمام والمتابعة المكثفة من جميع شرائح المجتمع، وبالطبع أصبحت بعض هذه الوسائل وخصوصا القنوات الفضائية وما يبث فيها تنافس الآباء في عملية التربية بتأثيراتها المتعددة الإيجابية والسلبية، وما يهم هنا الآثار السلبية التي تضاعف عبء التربية على الآباء التي أصبحت تشكل تهديداً حقيقياً للهوية الحضارية والثقافة الإسلامية، حيث تؤثر في الثوابت الإسلامية كالدين والعقيدة والأخلاق واللغة والعادات الأصلية من خلال ما تبثه من برامج لا سيئة أو برامج تشجع على العنف والعدوانية ما يؤثر سلبا في سلوك الأبناء، في عاداتهم وعلاقاتهم الاجتماعية، ومظهرهم الخارجي، بل أيضا في عاداتهم الاستهلاكية، ما يضاعف ويضعف من دور الآباء في التربية. ولا ننسى الإنترنت، هذا العالم المذهل الذي أصبح الأفضل للشباب في لقاءاتهم وتعارفهم وتواصلهم بعضهم مع بعض، يزيد من حصيلتهم المعرفية، وهو أيضا قد يحمل جانبا سلبيا يغرق الشباب في مخاطر فكرية لإرهاب الفكر أو تمييعه. جميعها تجعل الأب أكثر خوفا من انفلات زمام الأمور من يده و بالتالي يمكن أن يدفعه هذا الخوف إلى حجب ما هو مفيد بدعوى أن الوقاية خير من العلاج.
أما بعض الآباء فنجدهم لا يهتمون كثيرا بأبنائهم وربما لا يعرفون في أي مرحلة دراسية هم، ولدينا نماذج تمت مناقشتها في الصحف وتعانيها المدارس، فرغم أنهم متميزون في أعمالهم إلا أنهم في جانب الأبوة ومسؤولياتها لا يحققون التميز نفسه ما يسهم في الفشل الحقيقي لإيفائهم احتياجات أبنائهم من الرفقة والصداقة والارتباط بقضاياهم وتطلعاتهم. وهناك من يلقي المسؤولية كاملة على الأم ناسيا أن الابن على وجه الخصوص في مراحل من عمره يحتاج إلى توجيهات الأب ونصائحه ورفقته، والابنة كذلك تحتاج حنان الأب وعطفه. وأسوأ نموذج من هؤلاء الآباء من لا يهتم إطلاقا ويترك المسؤولية على السائق والخادمة، وهذه من المسائل الصعبة والمشكلات التي يعانيها المجتمع أخيرا وأدت إلى وجود جيل من الأبناء، تربيتهم في الغالب تمّت على أيدي الخادمات والسائقين.
كيف يمكن أن ينجح الآباء في فهم احتياجات أبنائهم؟ كان ولا يزال هذا سؤالا محوريا، وإذا قلبنا صفحات التاريخ فسنجد ما ذكره ابن خلدون في مقدمته أن هارون الرشيد لما دفع ولده إلى المؤدِّب قال له: (يا أحمد: إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه، وثمرة قلبه، فصير يدك عليه مبسوطة، أقرئه القرآن، وعرفه الأخبار، وروه الأشعار وعلمه السنن، وبصره بمواقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته، فيستحلي الفراغ ويألفه، وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة). وها هو حجة الإسلام الإمام الغزالي ــ رحمه الله ــ يضيء لنا مرة أخرى مصباحا على طريق التربية فيقول: (الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عُوِّد الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة أبواه، وكل معلم له ومؤدب، وإن عُوِّد الشر وأُهمِل إهمال البهائم شقي وهلك وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له). هكذا اهتم الآباء والمصلحون بتربية الأبناء وتنشئتهم تنشئة سليمة، إنها التنشئة الحقيقية التي يُربى فيها الولد تربية متقنَة، تربية يتعلم فيها القيم الإسلامية الرفيعة، فيغدو عضوًا صالحًا في المستقبل، ينفع مجتمعه ويسهم في نهضة أمته. ولهذا كم هو مهم الحرص من جانب الآباء للقيام بمسؤولية الأبوة والأمومة وإشاعة المحبة والأمن داخل الأسرة وتعويد الأبناء المشورة والحوار, وبناء جسور الثقة معهم. كما أنه مهم أن تنفذ برامج إرشادية وتوجيهية للآباء عند تعاملهم مع الأبناء، حيث يكون العمل داخل الأسرة قائما على تقليل وتجنب السلوك غير المتوافق بين الأبناء, وتقليل الفجوات بين الآباء والأبناء. وأجد أن القيام بمسؤولية التربية تتطلب التوعية المستمرة على أهمية التحاق الآباء بدورات تربوية ونفسية وتعليمية تساعدهم على القيام بالتربية السليمة، فما يلاحظ أن بعض الأمهات في مجتمعنا لديهن اهتمام بهذه البرامج والدورات التربوية والخاصة بكيفية التعامل مع الأبناء، ولكن ما هو مطلوب هو أن تكون هناك العديد من المراكز الاستشارية التربوية والنفسية لتقدم خدماتها للمقبلين على الزواج، وأيضا للوالدين الذين لديهم جهل بأساليب التربية الصحيحة.
** كما أن هناك شرطا لإجراء الفحص الطبي قبل الزواج، فلماذا لا يكون هناك شرط أيضا للالتحاق بدورات للمقبلين على الزواج متوافرة للجميع وبأسعار في متناول الجميع ويلتحق بها الطرفان؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي