جدلية العلاقة بين الآباء والأبناء
لأهمية الدور الأساس للأسرة في بناء المجتمع, ونظرا للتغيرات الاجتماعية التي يمر بها المجتمع, وما تتطلبه من مواكبة تحمي البناء الأسري من سلبياتها وتوطد العلاقة بين الآباء والأبناء وتسهم في التأكيد على المنظور التكاملي للتربية الخلقية بصفتها مسؤولية مشتركة بين الآباء والأبناء تم عقد ندوة «ماذا يريد الأبناء من الآباء؟» بإشراف مؤسسة ديوان المسلم بالتعاون مع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في الرياض عصر يوم الخميس 10/11/1430هـ. وكان الهدف منها بيان سبل توطيد العلاقة بين المربين ومن يربون وتوضيح وإبراز دور الآباء في غرس القيم والسلوكيات الإيجابية للأبناء, ثم التأكيد على المنظور التكاملي للتربية الخلقية كمسؤولية مشتركة بين الطرفين.
شارك فيها عديد من أساتذة التربية وعلم النفس وعلم الاجتماع, وبالطبع بحضور عديد من الآباء والمربين والمسؤولين من الجانبين. والأهم كان للأبناء من الشباب والفتيات مشاركات مسجلة عبارة عن عروض وأسئلة يجيب عنها كل واحد منهم على عديد من الأسئلة المتعلقة بعلاقتهم بآبائهم وأمهاتهم سواء من حيث التفاهم أو أسلوب التربية والتعامل معهم في عديد من الحالات التي كانت محاور للندوة. ولوحظ أن النسبة الكبيرة من إيجابيات التعامل والتفاهم والاقتراب من الأبناء وحل مشكلاتهم كانت من نصيب الأمهات, والآباء دورهم كان ضعيفا! تحدث في الندوة الدكتور عبد الله سليمان الصالحي أستاذ علم النفس في جامعة القصيم الذي أوضح أهمية فهم الآباء احتياجات الأبناء نفسيا واجتماعيا وثقافيا معرفيا, ومعرفة خصائص المراحل التي يمرون بها ابتداء من الطفولة إلى سن الرشد, وأوضح أهمية الاقتراب من الأبناء واحتواء متغيرات المرحلة لبناء الأبناء وتكامل هويتهم. وشارك أيضا الدكتور علي الرومي أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عن (كيف نتعامل مع احتياجات الأبناء؟) من خلال عرضه نتائج دراسة ميدانية أعدها حول الفجوة بين الأجيال والاختلاف في الرؤية بينها حول عديد من القضايا, وكانت نتائج الدراسة مهمة توضح الأهمية لمزيد من إعداد دراسات مماثلة للعمل على تضييق الفجوة بينها.
أما عن مشاركتي فقد أوضحت أنه لا بد من التأكيد على أنه ليس هناك حق بعد الله ــ عز وجل ــ أن يعبد ولا يشرك به شيئا مثل حق الأبوين فالآية الكريمة: «وقضى ربـك ألا تعبـدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانـا» الإسراء: 23 وقوله تعالى: «واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا» النساء: 36 . هذه المكانة لا بد أن نضعها مؤشرا لقضايانا المرتبطة بالتنشئة الأسرية ونحن نستعرض أهميتها فلا ننتقص منها لمصلحة الأبناء أو نتغاضى في البحث والتحليل عن حقوق أي منهما، وامتثالا لقوله تعالي: «المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا» الكهف: 46, وكي يكون هؤلاء الأبناء زينة للحياة الدنيا وليس عبئا على الآباء ثم المجتمع فإن التنشئة الأسرية المأمولة هي التي تحقق المنهج القرآني للتعامل وللتربية وتحمل المسؤولية من قبل الآباء تجاه هؤلاء الأبناء. والتنشئة الأسرية, كما يعرف الجميع, هي المحطة الاجتماعية للفرد, التي تتولي تعليمه مهارات وقدرات تؤهله للقيام بدوره في المجتمع, وأهميتها تكمن في أنها تتطلب ثلاثة أركان أساسية من أجل سلامة أدائها, وهي الأب والأم والأبناء, ولكل عنصر مهماته الأساسية التي تتمثل في تشريعاتنا بحقوق الآباء تجاه الأبناء وحقوق الأبناء تجاه الآباء. ومسؤولية الآباء في هذا الجانب مهمة لأن الخلل في أداء هذه المهمة سيترك آثارا سلبية في سلوك الأبناء وقد تعرقل تنشئته من خلال المؤسسات الأخرى كالمدرسة بل قد تؤدي إلى عدم استقامة نفسيته ومشاعره وتفاعلاته اجتماعيا في الحياة العامة في العمل, و تستمر إلى مرحلة تأسيسه حياة زوجية و أسرية. فما يحفر في الذاكرة من سلبيات قد تتغلب على السلوكيات الأمثل, أو التي يكتسبها لاحقا.لهذا فإن الحديث عن إخفاق الآباء في فهم وتلبية احتياجات الأبناء يعد خللا في الدور التربوي لهم, خصوصا إذا كانت مناقشته ستكون في ظل المتغيرات الاجتماعية المعاصرة التي أحدثت تغييرات جوهرية في المناخ التربوي والأسري المحيط بالجانبين.
ولهذا فإن من الخطأ استمرار الأساليب التقليدية من خلال النصح والإرشاد والوعظ والخطب تجاه الشباب (ضغوط الكبار ونصائحهم)، ومن الخطأ أيضاً العمل على ترتيب أولويات الشباب وحاجاتهم بمعزل عن إرادتهم ورغباتهم.
ولما كنا نعيش في عصر العولمة وما يفرزه من متغيرات وتحولات متعددة ومتنوعة تشمل مختلف مجالات الحياة، فإننا لا بد أن نستوعب جميع القضايا المتعلقة بهذا الموضوع فلا نلقي اللوم فقط على الآباء أو نبرئ الأبناء دون أن يكون للأجهزة التربوية والمؤسسات الاجتماعية الأخرى وأيضا المؤسسات الحكومية ذات العلاقة بالموضوع دور في هذا الجانب, خصوصا أن المجتمع يمر بتغيرات جذرية عميقة شملت الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية, ولعل أكثر المتأثرين بهذه التغيرات المتلاحقة هم الشباب, وأعني بالشباب هنا تلك الفئة العمرية التي تمتد من سن 15 إلى 22 من العمر. واختلف علماء التربية وعلم النفس في تحديد خصائص هذه المرحلة وطولها, ولكنها المرحلة التي تشهد تحوّلات وتغيرات جوهرية في اهتمامات الشباب وسلوكه الاجتماعي واتجاهه نحو الاستقلال والفردية. ولعل هذا هو ما يحدث التناقض بينه وبين البيئة التي تحيط به. فهو يريد أن يحرر نفسه من قيود الأسرة والمدرسة التي قيّدته طويلاً, وهو يريد في تلك المرحلة أيضاً أن يختار محيطه الاجتماعي الذي يندمج فيه ويتكامل معه ويكون قادراً على اتخاذ القرار وتحقيق ذاته.
ولعل هذه الفئة العمرية هي المعنية بعصر العولمة وقضاياه ومشكلاته, فالعولمة مشروع كوني للمستقبل كما يطمح واضعوه ومفكّروه والداعون إليه. لذا فإن الجيل الجديد هو الأسبق بالتعاطي مع هذه العولمة وأدواتها, فالكمبيوتر والإنترنت وشبكات المعلومات المعقدة أصبحت في متناول أيدي الشباب في سهولة ويسر, بينما تعد هذه الأشياء بالنسبة إلى الأجيال الأكبر سناً معضلة لا حلّ لها. كما أن أنماط المعيشة التي تطرحها (العولمة) من مأكل ومشرب وعادات ثقافية موجّهة بالدرجة الأولى لأجيال الشباب, لأنهم الأقدر على الاستجابة والتقبّل السريع لأي مفاهيم جديدة خارجة عن المألوف, خاصة إذا كانت تقدم لهم بوسائل باهرة وبطرق تقنية تؤثر في نفوسهم.
لا ننكر أن هناك آثارا إيجابية لعولمة الإعلام – لا مجال لذكرها هنا - ولكن هناك أيضا آثارا سلبية تتمثل في ما اتفق على أنه غزو ثقافي وهو في الوقت نفسه يمثل معاناة للآباء في تعاملهم مع هؤلاء الأبناء. خصوصا ما يبدو على سلوكياتهم ومصادر معلوماتهم التي تتناقض مع مناخ التربية الإسلامية التي ينشدها الجميع تطبيقا فعليا في الحياة (عملية تسطيح الوعي لدى الشريحة الشبابية، واختراق الثقافة المحلية للمجتمع، واحتواء الخصوصية الثقافية للشعوب، وإخراجها من الأصالة المحلية ومن ثم الذوبان في مشروع ثقافي موحد هي الثقافة المعولمة). الشباب في مجتمعاتنا العربية بشكل عام اليوم يقلدون الغرب في كل شيء، في المأكل، وفيما يسمى تقليعات الموضة والموديل في الملبس، والسيرة والسلوك وهو نتيجة انبهار الشباب بطريقة الحياة الغربية.
وكي نجيب عن سؤال حول هل فشل الآباء في تلبية احتياجات الأبناء؟ فإننا يجب ألا ننسي أن الله جعل للأبناء على آبائهم حقوقا كما أن للوالد على ولده حقوقا. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حديث عبد الله بن عمر: «وإن لولدك عليك حقاً». وسيكون معيار الفشل أو النجاح مرتبطا إلى حد ما بإيفاء الآباء حقوق هؤلاء الأبناء أو الفشل في ذلك, وكما نعرف أن هذه الحقوق منها ما يكون قبل ولادة الولد، كحسن اختيار الزوجة الصالحة لتكون أما صالحة, وحقوق ما بعد ولادة المولود تسمية الولد باسم حسن وحسن التربية على الآداب والأخلاق وتحقيق مبدأ العدل بينهم في تنشئتهم، إضافة إلى مراعاة الفروق الفردية بينهم صغارا وكبارا إناثا أو ذكورا, وبالطبع النفقة عليهم من غير تقتير أو تبذير. والحقيقة أن أهم حق لهؤلاء الأبناء هو حق تعليمهم معرفة الله تعالى، وتعميق الإيمان في قلوبهم وجوارحهم، وتعليمهم سائر أصول الدين لينشأوا على الإيمان بالله وبرسوله وبالأئمة ــ عليهم السلام ــ وبيوم القيامة، ليكون الإيمان عوناً له في تهذيب نفوسهم في الحاضر والمستقبل. قال رسول الله ــ صلى الله عليه وآله وسلم: «أدّبوا أولادكم على ثلاث خصال: حبّ نبيكم، وحبّ أهل بيته، وقراءة القرآن». ويجب الإحسان إلى الأبناء في كل مرحلة من مراحل نموهم وتكريمهم من أجل تعميق أواصر الحبّ بينهم وبين الوالدين، وذلك ضروري في كمالهم اللغوي والعقلي والعاطفي والاجتماعي، فالابن في طفولته يقلد من يحبّه، ويتقبّل التعليمات والنصائح والأوامر ممّن يحبّه.
والمنهج الإسلامي في التعامل مع الأبناء يؤكد التوازن بين اللين والشدة في التربية، ويؤكد العدالة بين الأطفال في الحبّ والتقدير وفي العطاء وإشباع الحاجات لكي يترعرعوا متحابين متآزرين لا عداء بينهم ولا شحناء ولا تقاطع ولا تدابر.
موضوع الندوة مهم والأهم هو الحرص الكبير من قبل المشرف العام على مؤسسة ديوان الإسلام ورئيس لجنة الإشراف على الندوة الدكتور ناصر بن سليمان العمر ونائبه الدكتور عبد الله التميمي, وأيضا الاهتمام الكبير من وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد الدكتور صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ ومتابعته للندوة حضورا لها منذ بدئها إلى أن انتهت, وهي بادرة لم أجدها إلا لدى معاليه, ووزير الشؤون الاجتماعية الدكتور يوسف العثيمين أثناء حضوره ندوة العمل التطوعي الذي أشرفت عليها الغرفة التجارية في المنطقة الشرقية, الذي كان حريصا على البقاء إلى قبل الانتهاء بقليل. كما وعد الدكتور صالح بن عبد العزيز آل الشيخ بمتابعة توصيات الندوة وطباعة أوراقها كي تعم الفائدة منها. فشكرا للقائمين عليها وعلى حسن تنظيمها ونأمل أن نتكاتف جميعا لتحقيق أهدافها السامية.