ارتباط المصرفية الإسلامية بالقيم والأخلاق والعقيدة

يتميَّز الاقتصاد الإسلامي عامة والمصرفية الإسلامية خاصة، ومجموعة من الأصول المستمدَّة من القرآن والسنة، والبناء الاقتصادي المترجِم لهذه الأصول, بكونـه اقتصادا روحانيا يرتبط بالعقيدة من حيث إنَّ الله وحده هـو الرزَّاق القابض الباسط، المحيي المميت، وإنَّ كـل شيء في هذه الدنيـا مخلوق بقدر، ولهذا أثار تحكُّم طبيعة العلاقات القائمة بيـن الأفراد والمعاملات الجارية بينهم حيث إنَّها تُبنى دائماً على أساس الحلال والحرام وهي من شقَّين مهمين في حياة المؤمن، حيث إنّ القاعدة في تصرفات المسلم تقول: "ولا بدَّ في التصرفات من رضا المتعاقدين وموافقة الشرع" فالتراضي لا عبرة له عند مخالفة الشرع والقاعدة أيضاً: "إذا اختلط الحلال مع الحرام غٌلِّب الحرام احتياطاً". والقاعدة" أنَّ الأصل في العبادات التحريم إلاَّ إذا ثبت ما يوجِب الحل بدليل، والأصل في المعاملات الإباحة إلاَّ إذا ثبت دليل التحريم".
وقد وضع الإسلام كثيراً من الضوابط المهمة التي هي قيود تحدٌّ من غُلو الإنسـان المسلم في تصرفاته لتصل به إلى دائرة الحل بدلاً من الحُرمة، وهي قيود علـى الحريَّة الفرديَّة التـي وازن الإسلام بينهـا وبيـن الحريَّة الجماعيَّـة، بحيث إذا تعارضت مصلحة الفرد مع مصلحة الجماعة قُدِّمت مصلحة الجماعة. تُترك للإنسان حريَّة العمل والتعامل والتصرُّف بشـرط عدم الإضـرار بالغيـر والنفس والمال والعِرض والعقـل والدنيـا، فهذه الكليات الخمس حرصَ الإسلام على صيانتها، فنجد أنَّ الإسلام حرَّم الغش والغُبن والاحتكار والغـرر والضـرر والتدليس والنجش، والتطفيف في الميزان.
وحرَّم كثيراً من البيوع فنهـى عن بيع الميْتة والخمر والخنزير والأصنام، وذلك للنجاسة ولعدم المنفعة المباحة. ونهى عن بيـع المجازفة والمنابذة والملامسـة وبيع الحصاة لما فيها من جهالة وغرر تؤدي إلى نزاع. فضلاً عن ذلك حرَّم الربا وهي أداة التدمير والتدهور في الاقتصاد بما تسبِّبه من أزمات ومشاكل اقتصادية لقوله تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ" (279) سورة البقرة.
والمجال لا يتَّسع لذِكر أضرار الربا، ولكن يكفي أن نقـول إنَّ الله بشـؤون عباده خبير بصير، فشرع لهم ما ينفعهم وحرَّم عليهم ما يضرُّهم وهو ماتستند إليه المصرفية الإسلامية لقوله تعالى: "أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ"(14) سورة الملك, فهو المتصرِّف الوحيد في هذا الكـون. والمتبصِّر والناظر في أمور الدين يجد أنَّ الله شرع ما فيه مصلحة عباده، ويقع تحت نطاق قدرتهم على تنفيذ أوامره ، لأنَّ الشريعة جاءت بدفع الحرج فقد قال تعالى: " لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا "(286) سورة البقرة, وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول:" ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم..." كما قال العلماء حيثما وُجدت المصلحة- المشروعة- فثمَّ شرع الله، وشرع الإسلام الصدق في الكلام والتعامل، فعدَّ التاجـر الصَدُوق مع النبيين والشهداء والأخيار يوم القيامة, حيث قال صلى الله عليه وسلم ناهيا التجَّار عن كثرة الحلف:" الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة".
وشرع توثيق العقود وذلك حفظاً للحقوق بين الأفراد فقال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ " (282) سورة البقرة. وشَرع الرهن لقوله تعالى: " فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ "(283) سورة البقرة, لأنَّ المعروف أنَّ حقوق العباد مبنية على المشاححة وحقوق الله مبنية على المسامحة. ولا شكَّ أنَّ التزام المسلم بالأخلاق والقيم الإسلامية وتعاليم الشـرع فـي سلوكه وتصرفاته يكسبه شخصيَّة متكاملة متصلة بالله, يبارك الله لها فـي أوقاتها وأقواتها ، ويشعُر المؤمن بالطمأنينة والسكينة فيصل إلـى مرحلة القناعة التي تولِّد اليقين بأنَّ ما عند الله خيرٌ وأبقى، فيتهذَّب سلوكه وتستقـر نفسه ويفهم معنى قوله تعالى: " مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19) كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا "(20) سورة الإسراء.
وهذا لا يعني أن يبقى الإنسان معتكفاً في المسجد على عبادته، بل مطلوب منـه العمل لتحقيق حد الكفاية له ولمن يعول، لأنَّ العمل عبادة لقوله تعالى:" وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ولا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ " (77) سورة القصص.
فنحن مطالبون بعمارة الأرض وفقاً لأمانة الاستخلاف وقانون التسخير لقوله تعالى: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ"(15) سورة الملك, وقوله تعالى:" هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا"(39) سورة فاطر, وقوله تعالى: " أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ "(9) سورة الروم.
بهذا يكون الاقتصاد الإسلامي شفاء ورحمة لهذه الأمَّة من تخبُّطها في استيراد أنظمة لا تتفق مع قيَمها وأخلاقها وواقعها وصدق الله تعالى فيما قال: " وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا (82) سورة الإسراء, وقال تعالى: " وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى " (124) سورة طـه, وقال تعالى: " مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ " (22) سورة الحديد .

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي