المجاهر بالمعصية.. أو المخزومية؟!
لا شك أن التكنولوجيا المعاصرة في وسائل الاتصال ونظم المعلومات تقوم بدور كبير في إحداث تغييرات جوهرية على حاضرنا ومستقبلنا، وستترك هذه التغيرات آثاراً بارزة في البيئة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لمختلف المجتمعات.
والإعلام لم يعد يقتصر على فئة معينة أو يقدم معلومات محددة, لكنه أصبح قادراً على التوجه إلى الإنسان أيا كان وحيثما يكون وبالتالي يقوم بترك الأثر الكبير في الفرد والمجتمع معاً بغض النظر عن نوعية هذا الأثر سلبياً كان أو إيجابياً، إلى الأحسن أو الأسوأ.
وإذا أضفنا ما هو سائد الآن من الاحتكار في وسائل الإعلام وصناعة المعلومات والتوجيه المقصود عبر انتقاء ما يُنشر ويذاع ويُبث وعبر صناعة المعلومات والبرامج والمواد ما يجيّر لمصالح تجارية أو دعائية سياسية أو ترويجية لأفكار وقيم ونظم خاصة لدرجة السعي إلى تشكيل عالم نمطي جديد هويته هي هوية من يصدر هذا المحتوى من البرامج والأفكار من خلال الأفلام والمسلسلات وما يقال إنها برامج الواقع (ستار أكاديمي السيئ وما شابهه).
وأيضا البرنامج الآخر الأسوأ (أحمر بالخط العريض سيئ السمعة) وما أثاره من قضايا لا تتحدث إلا عن اشتعال الغرائز والشذوذ الجنسي والخيانات الزوجية وتحدي القيم وتسهيل جرائم الزنا تحت شعار (الحريات الشخصية) وما قضية المجاهر بالمعصية ببعيدة عن الأذهان, رغم ما يقوم به المحامي من محاولات كي يبرئ هذا المتهم بتبريرات تافهة منها أن المجتمع حاكمه وأصدر الحكم ضده!!
من الذي حاكم من؟ من الذي هتك الأمن النفسي للمشاهدين ومرر تجارب منحطة ستره الله عند قيامه بها وأصر هو والقناة من خلفه على أن يجاهر بها ويسعد بحكاية تفاصيلها بشكل مقزز؟ ثم عندما قام المواطنون بحقهم في الدفاع عن قيمهم الدينية والمطالبة بمحاكمته وعقابه بما يليق بجرمه العلني يأتي صوت بعض من يؤيد هذا النمط من الخروج على النسق الديني والقيمي كي يدافع عن المجاهر بالمعصية وعن المذيع وعن القناة!!
ألسنا في حرب مستمرة منذ أعوام ضد الإرهاب الفكري والعسكري؟ ألسنا جميعا نقف ضد أي فرد تسول له نفسه المساس بأمننا الاجتماعي ممن باعوا أنفسهم لشيطان التفجير والتدمير؟
ألسنا جميعا نكتب ونطالب بإيقاع العقوبة اللائقة بهم؟ بل هناك من يرفض أن يكون هناك أي حوار معهم. في المقابل أليس ما قام به هذا المجاهر بالمعصية ومن رافقه في رحلة الإفساد ونشر الابتذال والترويج له كما يروج المجرمون المخدرات ويكسرون القوانين ويتحدون السلطات في اختراع آلاف الأساليب كي يمرروا جرائمهم وينشروا المخدرات بين جميع الشرائح, وهناك حرب دائرة بينهم وبين السلطات التي لا تنام عينها عنهم وفي كل يوم ينشر خبر عن القبض على كميات المخدرات المتنوعة التي كانت في طريقها للتوزيع ونشر المرض والدمار في النسيج الاجتماعي للمجتمع لولا عناية الله ــ سبحانه وتعالى ــ ثم يقظة العاملين في مكافحة المخدرات وجرائمها. أليست جريمة المجاهر بالمعصية تماثل هذه الاختراقات للأمن الاجتماعي والقيمي والأخلاقي؟
إننا هنا أمام قضية أمنية بالدرجة الأولى وليست قضية خاصة ترتبط بمرتكب جريمة الزنا, وهو متزوج أي محصن, فحسب, بل نحن أيضا أمام اختبار لمدى قدرتنا على عقاب أمثال هؤلاء الخارجين على القانون, سواء منهم من فجّر مبنى بالقنابل والمتفجرات أو روج مخدرات أو تفاخر بجرائم الزنا وإيقاع الفتيات في مصائد الرذائل.
إن الدور الذي يقوم به الإعلام في الأمن الوطني هو الأساس ومن أجله كان هناك عديد من القوانين والأنظمة التي تنظم ما يتم بثه لتحمي المجتمع من جميع ما يمس أمنه السياسي والفكري, والأهم الأخلاقي, وما تم أخيرا من إيقاف بث قناة (العالم) يعد مؤشرا لهذا الدور, ولهذا في السياق نفسه نطالب هنا أيضا بأهمية إيقاف بث القنوات التي لا همّ لها سوى بث ما يتناقض والتشريع الإسلامي وتمرير قضايا الزنا تحت شعار (الصداقة بين الجنسين) والشذوذ تحت شعار (الحرية الشخصية في اختيار الفرد رفيقه في إشباع الغريزة الحيوانية بالطبع)!
إذا عدنا إلى قضية المجاهر بالمعصية التي إلى الآن لم يبت فيها والتي أحدثت شبه إجماع اجتماعي في الرفض والمطالبة بعقاب صاحبها كما طالبنا بعقاب المفجرين أنفسهم لخلخلة أمن المجتمع, فإن رئيس المحكمة الجزئية في الرياض الدكتور صالح آل الشيخ سبق أن ذكر أن عقوبته لا ترقى إلى حد القتل إلا إذا اعترف أمام القضاء وأقر بفعل الزنا وكان بكامل أهليته، فإن العقوبة المقررة هي تنفيذ الحد الشرعي، لأنه محصن خصوصا أنه محصن، وأب لأربعة أطفال, شريطة اعترافه أمام القاضي بالكلام الذي ذكره على شاشة التلفاز وانطبقت عليه الشروط، فإذا ثبت ما قام به فإنه معرض لتطبيق الحكم الشرعي لمرتكب جريمة الزنا عليه، وأضاف آل الشيخ: أما قضية المجاهرة بالمعصية فإن حكمها يختلف عن حكم الزنا، وحكمها تقديري لأنها تدخل في باب التعزير وفقما يراه القاضي.
بالطبع المحامي سيستخدم أكثر من وسيلة كي يبرئ موكله, ولكن السؤال الأهم هو: كيف سيقف المجتمع بعد ذلك أمام من توقع إيقاع الحد الشرعي عليه امتثالا لأوامر الله ـ سبحانه وتعالى ـ ثم سيفاجأ بعكس ذلك؟ هل الامتثال لأوامر الله الأهم أم شطارة المحامي وتعاطف بعضهم؟!
** هل نستذكر هنا قصة المرأة المخزومية التي كانت تجحد العارية وبنو مخزوم أسرة فارهة من أسر قريش المشهورة، فلما جحدت هذه المرأة الحلي، رفع أمرها إلى رسول الهداية ــ صلى الله عليه وسلم ــ فقال: حكم الله ــ عز وجل؛ قطع يدها، فقامت قيامة بني مخزوم، وقالوا: توسمنا العرب بأن امرأة منا سرقت، لا والله لا يكون هذا، واجتمعوا وقرروا البحث عمن يشفع لهم عند الرسول ــ عليه الصلاة والسلام ــ من الذي ينشر القضية؟ أتوا إلى علي بن أبي طالب ــ رضي الله عنه ــ فغضب ورفض واحمر وجهه، وقال: ويلكم أتشفعون في حد من حدود الله، فأتوا إلى فاطمة الزهراء بنت المصطفى ــ صلى الله عليه وسلم، فأخبروها الخبر، فقالت: ويلكم وغضبت وتحرك إيمانها في قلبها، وقالت: من يشفع في حدود الله؟!
وفي النهاية ذهبوا إلى أسامة ــ رضي الله عنه وأرضاه ــ وهو شاب غر فطن في الثالثة عشرة من عمره، فعرضوا عليه الرأي، فاستحسن الفكرة وذهب إلى الرسول ــ عليه الصلاة والسلام ــ فجلس أمامه، فقال له ــ صلى الله عليه وسلم ــ وأسامة خجول لا يستطيع أن يتكلم بما في صدره، فقال له ــ صلى الله عليه وسلم: ماذا في صدرك؟ قال: يا رسول الله! المرأة المخزومية التي حكمت عليها بقطع يدها نريد أن تعفو عنها، فغضب ــ عليه الصلاة والسلام ــ وقام على ركبتيه ورفع صوته على أسامة، وقال: ويحك! وجئت تشفع في حد من حدود الله. وفي أثر عنه ــ صلى الله عليه وسلم ــ أنه قال: «إذا بلغت الحدود الإمام فلعن الله الشافع والمشفع» إذا بلغت السلطان أو القاضي الحدود كحد الزنا، أو حد شرب الخمر، أو حد القتل، أو حد السرقة، فأتى أناس يتشفعون من الوجهاء والمسؤولين، لعن الله هذا الشافع الذي تشفع ولعن الله من قبل الشفاعة، ثم قام ــ عليه الصلاة والسلام ــ فجمع الناس، وأتى الصوت يدوي في المدينة «الصلاة جامعة، الصلاة جامعة»، ولا يجتمع الناس إلا لأمر فظيع خطير في الإسلام، فلما اجتمعوا قام ــ عليه الصلاة والسلام ــ على المنبر ليبين أن هذا حكم الله، وأن هذه فريضة الله، وأن هذه شريعة الله، وقال: «يأيها الناس! إنما أهلك الذين كانوا من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله ووالله وتالله وبالله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها».
قال الزهري: وحاشاها أن تسرق، لكن أراد ــ صلى الله عليه وسلم ــ أن يبين للناس أنه لا تأخذه هوادةٌ في دين الله، وأن الوساطة والشفاعات في تغيير الحدود أو إرباكها أو تعطيلها معناها اللعنة والغضب من الله تبارك وتعالى، ومعناها السخط، والخروج عن شريعته.