مقارنة بين دول مجلس التعاون الخليجي العربية والدول الاسكندنافية
قبل أن أدخل في خضم هذا الموضوع لدي نقطتان مهمتان أود أن أوضحهما للقارئ. الأولى تخص سبب هذا الاهتمام الكبير من جانب الكاتب بإجراء مقاربات ومقارنات ثقافية وحضارية بين العرب المسلمين وما يسمى بالعالم المتمدن. الأخرى تخص نظرتي الشخصية كأكاديمي وصحافي إلى الواقع العربي.
إجراء مقارنة يعدّ في نظري إحدى الوسائل الأساسية لفهم الطبيعة البشرية وكنهها، فكيف نعرف أن ليلى بنت ذكية وجميلة إن لم نجر قياسات ومقارنات مع المحيط الذي تعيش هي ونحن فيه؟ وكيف لنا أن نستوعب آية الليل والنهار إن لم نقارن بينهما؟ والمقارنة غير كافية وحدها، إن لم نثر حولها أسئلة محددة، كي نستطيع تقديم إجابات شافية للاختلافات الظاهرة والباطنة.
وهذا النهج أتبعه في معظم كتاباتي وجلب لي النجاح الذي تمنيته، ولكن يبقى السؤال: من أين استقيته؟ استقيته من القرآن الكريم، لأنني ربما أقرأه بطريقة مختلفة من أجل مقاربته مع متطلبات العصر. وقراءتي هذه منحتني الخبرة والجرأة كي أنظر دائما إلى الأمام وصوب التطور الفكري والإنساني وليس إلى الوراء. ولنقرأ سورة الضحى معاً. آياتها إحدى عشرة وكلماتها أربعون فقط. تطلب من المتلقي أن يقارن آية الضحى والليل. وانظر كيف يقسم الله بهذين الموجودين وهما من صنعه من أجل المقاربة والمقارنة. ومن ثم هناك الأسئلة التي يطرحها الله على نبيه الأمي، وانظر الجواب للأسئلة المثارة في الآيات الثلاث الأخيرة. وقمت بترقيم السورة (إضافة علامات الاستفهام والتعجب) وتحليل الترابط المنطقي والعقلاني بين الآيات من خلال كلمات وأدوات الربط مستخدما خبرتي اللغوية، فكانت النتيجة مدهشة حقا. علامات التعجب (الآيات 1 و2 و3) وهي للمقارنة والمقاربة. علامات الاستفهام الآيات (6 و7 و8) وهي الأسئلة. والاستنتاج أو الخاتمة (الآيات 9 و10 و11). والإثبات أو التعهد من قبل خالق القرآن لعبده (الآيتان 4 و5) شرط أن يعمل كما أجاب الله بذاته عن الأسئلة التي أثارها. وأعد القراء بالعودة إلى هذه المسألة في مقال منفصل بعون الله.
بخصوص النقطة الأخرى أود التأكيد أن المقارنات التي أجريها هدفها علمي لإثارة النقاش والتأكيد أن العرب بإمكانهم وبسرعة مذهلة اللحاق بمصاف أكثر الدول تقدما في العالم لا بل بزها. مقارناتي من أجل زيادة ثقة العربي بنفسه وإمكاناته. لا علاقة لها بما يثار من دراسات في الغرب تجعل من «التخلف» صفة للعروبة وكأنه واقع نهائي لا يمكن تجاوزه.
من هذا المنطلق لنجر مقارنة بين الدول الاسكندنافية - السويد والنرويج والدنمارك، ودول مجلس التعاون - السعودية والإمارات والبحرين وعمان والكويت وقطر. قد يقول قارئ إن المقارنة في غير محلها، لكن في عالم اليوم تقريبا كل المقارنات تصبح في محلها، لماذا؟ لأنه بإمكان الدولة ذات الموارد أن تفعل الكثير من أجل شعبها ونفسها.
لنأخذ السكان، في الدول الإسكندنافية هناك إحصائيات دقيقة جدا للسكان. آخر إحصائية تشير إلى 19 مليون نسمة، نسبة الأجانب بينهم، بمفهوم مجلس التعاون معدومة. هناك كثير من الأجانب في السويد مثلا، ولكن هؤلاء أصبحوا مواطنين لهم كل حقوق المواطنة شأنهم شأن السكان الأصليين. وإحصائيات السكان لهذه الدول لا تتغير من مصدر إلى آخر، لأنها ذات صدقية كبيرة لا مجال للشك فيها على الإطلاق.
لنأخذ السكان في دول مجلس التعاون، وبما أن قرائي من هذه المنطقة آمل ألا يغضبوا إن قلت إن هناك شكوكا في الإحصائيات الرسمية، فمثلا تقدر قطر عدد نفوسها بنحو 825 ألفاً، بينما تقدر الأمم المتحدة عدد سكانها بنحو مليون و500 ألف. أما بخصوص عدد المواطنين بينهم فهناك تباين كبير بين الأرقام. الرقم الرسمي يقول 300 ألف، بيد أن مصادر أخرى تشير إلى 100 - 150 ألف. وفي صفحة الإنترنت الرسمية لمجلس التعاون خانات جدول السكان الخاصة بقطر خالية من الأرقام، والإحصائيات الموجودة تعود إلى عام 2004، ولكن لنعتمد على الأرقام الرسمية وبذلك يكون عدد سكان مجلس التعاون نحو 39 مليون نسمة بينهم نحو 12 مليون أجنبي، أي تقريبا أجنبي واحد لكل ثلاثة مواطنين.هذه الأرقام قد تبدو بريئة بعض الشيء، ولكن حالما نضعها ضمن سياقها تظهر للتو إشكاليات في التركيبة الاقتصادية وتثير قلقا كبيرا عند المقارنة. إنها تظهر أن مواطني مجلس التعاون لا يعملون بما فيه الكفاية وأنهم خاملون وغير آبهين بمستقبلهم ومستقبل أجيالهم المقبلة ومستقبل أوطانهم في خضم عالم همه زيادة الإنتاج نسبة إلى عدد العاملين. سكان الدول الاسكندنافية الثلاث يشكلون عاشر أكبر اقتصاد في العالم وعددهم 19 مليوناً وهم في غير حاجة إلى العمالة الأجنبية. وبمعنى آخر 19 مليوناً ينتجون أكثر بكثير من الـ 39 مليوناً في دول مجلس التعاون، فالسويد ذات التسعة ملايين نسمة تبلغ قيمة الناتج الوطني الإجمالي لديها (على سعر الصرف) 484.6 مليار دولار مقارنة بقيمة الناتج الإجمالي للسعودية (على سعر الصرف) البالغ 481.6 مليار دولار لسكان يتجاوز تعدادهم 28 مليون نسمة. السويد لا تعتمد على العمالة الأجنبية. هناك نحو ستة ملايين عامل أجنبي في السعودية، أي ما يوازي ثلثي سكان السويد.هذه المقارنة تثير أسئلة كثيرة لا تخص أصحاب الشأن فقط، بل كل مواطن سعودي أو خليجي. الكل يجب أن يعمل كخلية نحل لتصحيح الخطأ في التركيبة الاقتصادية الحالية، وإلا سيظل العالم ينظر إلى العرب من منظار مقارنات كهذه: ثلاثة ملايين سويدي ينتجون ما يوازي إنتاج 23 مليون سعودي. كيف ذلك؟ هذه هي المقاربة العلمية والاقتصادية، لأن السعودية فيها نحو ستة ملايين أجنبي. عندما أخرجناهم نظريا من السعودية وجب علينا طرح العدد نفسه من سكان السويد تحقيقا للإنصاف الإحصائي والاقتصادي. والتباين في المعادلة الاقتصادية أكثر خطورة في اقتصادات قطر والإمارات ولا سيما دبي.
لماذا كل هذا التأبين؟ هناك أسباب كثيرة، فالاسكندنافيون لا يستنكفون من أي عمل، فهم يتنافسون حتى فيما يعتبر في مجلس التعاون من الأعمال «الدنيئة»، التي لا يقترب منها السكان المحليون. الاسكندنافي يعمل زبالا وعاملا في نظم تصريف المجاري الثقيلة ونادلا وموظف استعلامات وحارس عمارة ومنظفا للمرافق الصحية وسائقا في وسائل النقل العامة. يعملون كممرضين وممرضات في المستشفيات وطباخين وطباخات في المدارس وغيرها وقد لا تصدقونني إلا أن المنافسة على الحصول على أعمال كهذه هي على أشدها في الوقت الحاضر. الزوج وزوجته يعملان ويربيان الأولاد ولا يحتاجان إلى خادمات. فكرة الخادمة كما ترد في مفهوم دول مجلس التعاون أو دول أخرى في الشرق الأوسط مرفوضة في الدول الاسكندنافية قانونيا وأخلاقيا وإنسانيا.
أما الشفافية الغائبة في مجلس التعاون ودول الشرق الأوسط عموما فتعد في الدول الاسكندنافية أساس الحكم الصالح. كل مواطن له الحق في معرفة راتب ومخصصات وامتيازات رئيس الوزراء وهي أساسا موجودة على الشبكة العنقودية، وكذلك الوزارات والعاملون فيها والشركات ومديروها، وكل الأرقام يمكن الحصول عليها بسهولة فائقة وباستطاعة المرء تقديم الشكوى إلى المحاكم الخاصة إن كان لديه دليل على سوء استخدام. وهكذا يشعر المواطنون بأنهم أصحاب الدار الحقيقيون. الشفافية الفائقة غرست حب المواطنة والثقة المتبادلة بين الحاكم والمحكوم، قلما تشهدها في أي بلد آخر في العالم.
أنا لا أقول بإمكان دول مجلس التعاون الوصول إلى مصاف هذه الدول في ليلة وضحاها، ولكن لا يجوز القعود والاستكانة. يجب العمل ليلاً ونهاراً من أجل النهوض والتذكر أن المقارنة وإثارة الأسئلة هدفها الوصول إلى إجابات شافية، وعندئذ «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى».
نلتقي وإياكم يوم الجمعة القادم