جدة تحتضر .. من المسؤول؟
أمام الأمير نايف بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية في 8/9/1430هـ ألقى المهندس زكي الفارسي مدير التخطيط سابقا في جدة والمطور العقاري حاليا, خطابا في الغرفة التجارية الصناعية في جدة كان بمثابة استعراض لما حصل ويحصل في مدينة جدة, مع استشراف مستقبلي لما قد تؤول إليه الأمور مستقبلا في حالة أن الأمور الإدارية والتنظيمية لم تتغير, تحدث عن أمور عديدة منها كارثة الصرف الصحي موضحة بالأرقام والصور الخطيرة التي لم تنشر في الصحف! واستنجد بسموه وطالب بـ (حملة وطنية لإنقاذ جدة). كان الرجل يتحدث عن واقع نحن سكان جدة نعيشه ونعانيه, فمدينة جدة التي يقال إنها (عروس البحر الأحمر)! مثقلة بالمشكلات، التي تراكمت عليها عبر السنين، سواء في البنية التحتية أو الأوضاع البيئية، أو الاحتياجات الأساسية للحياة الإنسانية، وهو أمر لا ينكره أحد، وعبر عنه المهندس الفارسي بوضوح ومصداقية وشفافية, رغم محاولات البعض التقليل من محتوى هذا التقرير ورسم صورة وردية عن مشاريع جدة, وأن تقرير المهندس الفارسي فيه مبالغة! بل اعتبر أمين مدينة جدة المهندس عادل فقيه تصوير جدة بشكل قاتم والإيحاء بأنها تحتضر «ظلما للواقع الجديد القائم». في لقاء نشر له في «الوطن» في الفترة نفسها, وذكر أن التفاؤل بمستقبل جدة هو المطروح!
كنت أقرأ تلك الكتابات غير الحقيقية عن واقع نعيشه نحن السكان في جدة عبر عنه المهندس الفارسي (واستشهد بصور حقيقية وواقعية عن بحرها الملوث وبحيرتها (بحيرة المسك) التي باتت تهدد حياة سكان جدة وشوارعها الضيقة ونظافتها السيئة واختفاء أكثر من سبعة مليارات ريال كانت قد اعتمدت للصرف الصحي الذي ما زال كما هو).
جدة تعاني حمي الضنك, واختناقات المرور ومن تردي أوضاع الشوارع, وأكوام القمائم, حيث أصبحت تعرف بيننا بأنها (مكب القمائم) ! ناهيك عن مشكلات شح الماء النظيف من شبكة المياه, وأصبح التعامل لدى أهل جدة مع (الوايتات) لشراء الماء وأيضا لتصريفها! المدينة في الواقع كانت تحتضر, كما ذكر المهندس زكي فارسي ـ جزاه الله خيرا ـ على مصداقيته. جدة دخلت (مرحلة الاختناقات) منذ ما يقرب من 20 عاماً. خدماتها، مرافقها، وشوارعها كانت تسد حاجة مليون ونصف مليون وعدد السكان الآن يتجاوز ثلاثة ملايين نسمة (بين مقيم نظامي، ومقيم غير نظامي). هذا العدد أصاب الخدمات والمرافق والشوارع بالخلل والخطر على صحة سكانها, هذا الواقع هو الذي تحدث عنه المهندس الفارسي.
الكارثة التي تم التحذير منها حدثت من جراء الأمطار بشكل متواصل لمدة ست ساعات يوم الأربعاء الماضي, والسيول التي اجتاحت شوارعها نتجت عنها حالات وفيات تجاوزت الـ 100 الآن مع نشر هذا المقال, فيما رحلت قوات الدفاع المدني المئات من أماكنهم لعدم مواءمتها للسكن في الظروف المناخية السيئة. وشهدت أحياء العدل ومشروع الأمير فواز السكني وأحياء شرق جدة، موجة سيول غزيرة سحبت سيارات عديدة من أمام المنازل إلى باطن الأودية القريبة وخرج المواطنون في حي العدل وقويزة ليجدوا سيولا غزيرة تسد الطرقات المحيطة بمنازلهم فيما فقد عديد منهم سياراتهم, وشلت الحركة المرورية في خمسة طرق رئيسة، إضافة إلى تجمع بحيرات من مياه الأمطار في عديد من الشوارع الفرعية في معظم شوارع أحياء جدة. إن غزارة الأمطار تركزت على المناطق الجنوبية والشرقية ومركز بحرة, حيث بلغت في معدلها العام 90 ملم, وتسببت هذه الأمطار في إحداث سيول منقولة عبر الأودية دهمت الأحياء الشرقية والجنوبية الشرقية من محافظة جدة. هذه الكارثة إلى الآن نجد أن التغطية الإعلامية عنها لا ترتقي إلى مستوى ضحاياها كأنها (عيبا نداريه)!
أعلنت «صحة جدة» حالة الاستعداد والتأهب» اللون الأصفر» في كل المستشفيات وبكامل الطاقم الطبي والإداري لاستقبال الحالات، وأعلنت حالة الطوارئ في عديد من الجهات الرسمية ذات العلاقة تحسبا لأي تطورات أخرى على الموقف، فرق الإنقاذ من الدفاع المدني بمشاركة الهلال الأحمر لا تزال تباشر أعمال رفع الأنقاض وإسعاف المصابين. ثلاجة الموتي في جدة فاضت بما فيها وهناك 351 مفقودا! وبالأحرى هم شهداء الكارثة. هذا هو حال جدة في أيام العيد كانت تودع شهداء الكارثة بدلا من أن تستقبل التهاني بعيد الأضحى المبارك!
من المسؤول عن هذا؟ هل مناشدة المهندس زكي فارسي بإنقاذ جدة كانت وهما؟ أو إلغاء لإنجازات أمانة جدة كما قيل؟ نصدق من .. تقارير الإنجازات ومحاولات إلصاق التهم بالسكان وما يتم ترديده إعلاميا بأنها مناطق عشوائية؟ أم ما حدث الآن؟ وما سبق أن تلقته الأمانة من تحذيرات الشهر الماضي من أن أمطارا غزيرة متوقع هطولها؟ ما الذي قامت به الأمانة لمواجهة خطر هذه التحذيرات؟ وما دورها سابقا في التقارير التي نشرت في صحيفة «الحياة» بتاريخ 24/6/1430 هـ وفي صحيفة «المدينة» وأيضا «عكاظ» 1/7/1430 هـ وفي «الوطن» في 5/7/1430هـ عن الأخطار التي تحيط بسكان جدة من الصرف الصحي والأوبئة والمواد المسرطنة في بحيرة الصرف الصحي (الكارثة الحقيقية). وما واكب استشهاد الفتاة فاطمة التي غرقت من جراء ضخ مياه الصرف الصحي في الكورنيش! ويومها نشرت الصحف أن موتها بسبب أنها كانت تسبح في منطقة ممنوع فيها السباحة!
إذا عدنا إلى تحذيرات المتخصصين وما جاء بالتفصيل في تقرير المهندس الفارسي سواء ما يتعلق بالتشغيل أو الصيانة والاعتمادات المالية, وخطورة الوضع . نجد أيضا أن المهندس الدكتور علي عدنان عشقي من كلية البحار في جامعة الملك عبد العزيز في جدة حذر منذ شهور من أخطار بحيرة الصرف الصحي شرق الخط السريع وآثاره المستقبلية في بيئة جدة وبنيتها التحتية مع تزايد ارتفاع منسوب المياه الجوفية ومستوى المياه في البحيرة والسد الاحترازي وتوقع أن تحدث البحيرة الصناعية هزات أرضية محدودة بسبب تفاعل مياه الصرف الصحي بين الطبقات الصخرية أسفل البحيرة ما قد يتسبب في تغيير خواصها الفيزيائية والكيميائية, والثاني النقل للمياه على الطبقات الصخرية التي يزيد وزنها على 40 مليون طن, وكلا العاملين ينشطان في خطين متوازيين ما يزيد من احتمال تعرض مدينة جدة والقرى المحيطة بها لموجات من الهزات الأرضية.
ويرى عشقي أن بحيرة المسك هي السبب لمشكلة المياه الجوفية في مدينة جدة وتأثيرها يظهر جليا في مطار الملك عبد العزيز والمناطق والأحياء التي تقع شرق الخط السريع.
وبيّن أن الحل هو نقلها إلى شرق موقعها الحالي في مكان لا يقل 50 كيلو مترا عن المحافظة في منطقة منبسطة ارتفاعها لا يزيد على مستوى سطح البحر, مؤكدا أن تكلفة ذلك الحل تقل كثيرا عما تم إنفاقه في مكافحة حمى الضنك الذي تجاوز مليار ريال . أشارت دراسات قامت بها هيئة المساحة الجيولوجية إلى أن سطح تلك البحيرة ارتفع إلى 135 مترا فوق مستوى سطح البحر وباتت تحجز نحو 17 مليون متر مكعب من المياه الملوثة نتيجة التفريغ اليومي المتكرر للعدد الهائل من صهاريج مياه الصرف والمجاري فيها بعمق يصل إلى سبعة أمتار في بعض المواقع.
يوم السبت نشرت «عكاظ» إجابات الأمين عن هذه الكارثة لم أجد فيها ما يقنع اعتمادا ومقارنة بما سبق أن نشره من تفاؤل بمستقبل جدة الوردي في شهر رمضان الماضي! وكرر التبريرات نفسها بأنها مناطق عشوائية! وبكل موضوعية سأساله من واقع قراءة الخريطة الجغرافية لمواقع الكارثة التي حدثت: هل الخط السريع الذي يربط جدة بمكة من العشوائيات؟ هل حي السليمانية وحي الأمير فواز من العشوائيات؟ هل نفق جسر الملك عبد الله ونفق جسر الأمير ماجد من العشوائيات؟
لقد كان التركيز في إجابات الأمين على أن تنفيذ مشاريع تصريف الأمطار جدة تحتاج إلى ثلاثة مليارات ريال, رغم أنه خلال العامين السابقين كانت هناك تصريحات وبيانات نشرت في الصحف من الأمين عن تسلم الأمانة مبالغ كافية لتنفيذ هذه المشاريع!
بل ذكر أيضا في اللقاء: إن المشاريع الجاري تنفيذها وما اكتمل منها لدرء مخاطر السيول تغطي نحو 30 في المائة فقط من جدة، أي أن هناك 70 في المائة من جدة من دون شبكات تصريف!
إذا لماذا استاء الأمين من تحذيرات سابقة بخطورة الوضع في جدة؟
مرة أخرى, من المسؤول عن هذه الكارثة؟
ونحن نطالب بإجراء عمليات الإنقاذ للوضع الحالي لا نزال نخشى كارثة أخرى قد تغرق أحياء كاملة غير عشوائية إذا تهدم السد الاحترازي لبحيرة الكوارث (المسك), هيئة الأرصاد وحماية البيئة وصفت الأمطار بالغزيرة وتوقعت أن تكون هناك أمطار أخرى في اليومين المقبلين، ولكن بشكل أقل، وأضافت أنها توقعت هذه الأمطار منذ أسبوعين، وأبلغت الجهات المعنية حتى تستعد!
ما دور الجهات المسؤولة في هذا التجاوز؟ لماذا لم يكن هناك أي استعداد يماثل على الأقل الضجة الإعلامية عن إنفلونزا الخنازير؟ خصوصا أن ما سيلي هذه الكارثة هو مزيد من التلوث البيئي, فقد جرفت السيول التي لم تكن (تتوقعها الأمانة كما يصرح بذلك مسؤولوها) البشر والحيوانات والقمائم والقاذورات واختلطت مياه الأمطار بمياه الصرف الصحي وبالجثث التي لا يزال البحث عنها جاريا.
هنا في جدة كارثة بيئية تضاف إلى الكوارث السابقة التي كانت ظاهرة للجميع ونشرت تقاريرها في جميع الصحف ومن خبراء متخصصين في التلوث البيئي.
لا يكاد يخلو شارع من شوارع جدة ولا ميدان من مجموعة من السيارات المتعطلة التي خلفها أصحابها بعد أن أطفأت الأمطار محركاتها، ونفدوا بجلدهم قبل أن تحصد السيول الجارفة أرواحهم كغيرهم. على جوانب أغلبية الطرق تكدست أطنان مما جرفته الأمطار والسيول ومياه الصرف الصحي من أخشاب وأحجار وأجزاء من المركبات وبعض أثاث المنازل والمحال، وقد تكومت على أطراف الطرق وداخل أحياء جدة، مشهد يطلق عليه الآن (تسونامي جدة ) بدلا من (جدة غير)!
من فضل الله أن هذه الكارثة حدثت خلال إجازة الحج وإلا لكانت النتائج مدمرة لطلاب المدارس والجامعات وللجميع.
هناك حالة استنفار من قبل خادم الحرمين الشريفين ـ يحفظه الله ـ الذي أمر بإعانات فورية, وهناك طلب من الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة من أمانة جدة بأن توافيه بجميع الخطط التي وضعتها الأمانة للتصدي لمخاطر السيول والمشاريع المستقبلية التي تخطط الأمانة لتنفيذها وحجم الاعتمادات المالية المطلوبة، ووجه بتشكيل لجان تضم إلى جانب الإمارة القطاعات ذات العلاقة لدراسة أسباب المشكلة ومدى قدرة مشاريع تصريف السيول على استيعاب كميات مياه السيول والأمطار، وتحديد الأحياء غير المشمولة بشبكات تصريف. وفي شأن ذي صلة، باشرت لجنة تضم إلى جانب أمانة جدة والدفاع المدني، خبراء جيولوجيين دراسة وضع السد الترابي لبحيرة الصرف الصحي شرق مدينة جدة.
باسم سكان جدة سأسمح لنفسي وأنا من نسائها أن يواكب الإغاثة السريعة لهؤلاء الضحايا فتح (ملفات الخلل الإداري والتهاون الذي تسبب في هذه الكوارث ومحاسبة المسؤولين عنها مهما كانوا), فأرواح البشر ليست مرهونة برضى هذا وإبعاد المسؤولية عن ذاك.
** اتكاءة الحرف
قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه: (لو تعثرت بغلة في العراق لكنت مسؤولا لِمَ لم أمهد لها الطريق), والضحايا اليوم هم مئات الموتي من البشر ـ يرحمهم الله ويرزقهم الفردوس الأعلى وجبر مصاب ذويهم ومصابنا فيهم.
د. نورة خالد السعد
أكاديمية وكاتبة