ضحايا جدة واقتراب الفرج

منذ يومين أعلن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ــ حفظه الله ــ تقديم تعويض مالي لأهالي الضحايا، وإصراره على محاسبة المقصرين، وهذا ما يبشر بالخير للجميع وننتظر تفعيله لدى كل مسؤول في الجهات ذات العلاقة لحدوث هذه النكبة.
وجاءت هذه التوجيهات الملكية الكريمة نابعة من الحرص الدائم لولاة الأمر في بلادنا والاهتمام بالرعية وتقديم كل ما يمكنهم من مواجهة صعاب الحياة وتهيئة العيش الكريم السهل لهم.
ما يتطلب فعله أيضا هذه الأيام عقب صدور هذه القرارات هو إبلاغ الأهالي عن الخطر الذي يتهددهم خصوصا بعد ما ذكر من خطورة انهيار السد الاحترازي لبحيرة المسك (وتوفير خط ساخن) للإجابة عن تساؤلاتهم وعن استفساراتهم لحمايتهم من الأخطار المحتملة.
وجميعنا يؤمن بالقضاء والقدر ولله الحمد، ولكن أن تتحول جميع الكوارث التي تحدث في مدينة جدة على وجه الخصوص، إلى كتف آمن نلقي عليه رؤوس المتسببين في هذه الكوارث، كي يرتاحوا ويطمئنوا إلى أننا صابرين على قضاء الله وحكمه، ومؤمنين بالقدر خيره وشره، فأثق أنه لا أحد يرضى بذلك.
كوارث جدة كانت مرعبة بكل المقاييس، فالسيول العارمة حطمت السدود، وأغرقت الأحياء وهدمت المباني، واقتلعت الأشجار ناهيك عن أسفلت الشوارع الذي انحسر تماما وبقيت الشوارع عارية إلا من التراب والحصى! فكيف بالبشر الذين كانوا آمنين في منازلهم أو المتوجهين إلى الحج أو المتوجهين لقضاء حوائجهم اليومية، حيث الغرق كان هو النهاية المحتومة، فالسيل الجارف الهادر الذي نشأ من المطر ومن انهيار السدين الأول والثاني حول بحيرة المسك فجرف هؤلاء الأبرياء إلى عشرات الكيلو مترات عن مواقع سكناهم فكم من قصص تروى عن هذه المآسي التي يبدو أن لا أحد صدقها أو أن المعلومات عنها كانت مغيبة، فقد نشرت وكالة الأنباء السعودية عشية الكارثة أن الأجواء ربيعية في جدة بعد المطر وأن الأهالي خرجوا لاستقباله فرحين به!! فهل هذا إعلام لديه مصداقية؟؟ أم أن الذي كتب الخبر وعممه كان يقطن في مدينة أخرى ولم يكلف نفسه عناء المتابعة لرؤية جثث الضحايا تطفو على مياه المجاري والسيول وبين كتل الأخشاب والأثاث الذي جرفته الأمطار في رحلتها التي طافت بالمدينة المنكوبة لتلقى بما تحمل في نفق جسر الملك عبد الله الواقع في أرقى أحياء جدة، أي ليس في منطقة عشوائية!! أو تكمل رحلتها المرعبة إلى نفق جسر الأمير ماجد!! كانت دوامة المياه الهادرة لا ترحم ترتفع وتهبط بالأطفال والنساء والشيوخ والشباب كما يلعب الأطفال بالكرة في أيديهم!! كان المنظر مرعبا كما يقول شاهد عيان من أحد سكان الشقق المفروشة في مخطط المساعد، حيث رأى كيف تحول المطر إلى هدير سيول جارفة تماثل تيارات تسونامي!! ورأى أحد الشباب يعتلي سيارته، حيث دهمه السيل وهو مثل غيره يقود سيارته فأخذت السيارة تدور مع تيارات السيل يمنة ويسرة وهو فوقها ينتظر أن تقترب من حائط أو أي شيء يمسك به كي ينجو، ولكن السيارة انقلبت رأسا على عقب وغاب الشاب في السيول!
رحلة الموت هذه قذفت بالمئات بعيدا عن منازلهم وإلى الآن البعض لم يجدوا عائلاتهم، وآخر إحصائية إلى وقت كتابتي هذه السطور مساء الإثنين عن المفقودين تجاوز الثلاثة آلاف شخص! هذا يعني أن حصيلة هذه الكارثة لن تتوقف عند 110 التي أعلن عنها، فاليوم هو اليوم السادس للكارثة، والجثث طمرتها القاذورات التي حملتها مياه الصرف الصحي مع الحيوانات الميتة، والقاذورات التي امتلأت بها الحفر التي واكبت تهدم الأرصفة والجسور وسقوط المركبات بمن فيها! الوضع كان جحيما لا يصدق. ورغم هذا أخفق الإعلام لدينا في نقله إلى المشاهد، ونجحت (مواقع اليوتيوب) عبر تصوير من كانوا في الأحداث من المواطنين ممن أسهموا في إسعاف الناس لأن أعداد فرق الدفاع المدني كانت أقل من حجم الكارثة.
القضاء والقدر مسلمة إيمانية، لا نختلف عليها إطلاقا، ولكن الاستسلام للتلاعب بحياة المواطن والمقيم، خوفا من المساءلة واللجوء إلى عدم الوضوح في الإفادات عن الخسائر وعدم المصداقية أحيانا، وللتقليل من حجم الكارثة فذلك أمر غير متوقع، ويتنافى مع مستوى أمانة أي مسؤول أو مواطن لحرمة (دم المسلم والحفاظ على ماله)، جميع الشواهد تؤكد أن أمانة جدة لديها خلل في الأداء والإنجاز، وعدم تجاوب مع التحذيرات التي وجهت إليها لأخذ الحيطة من أخطار بحيرة المسك، ومن أخطار أخرى أطلقها الجيولوجيون ونشرت في عديد من الصحف وأقيمت حولها ندوات علمية كما ذكرت ذلك في مقالتي السابقة، وآخرها ما نشر في الصحف على لسان الدكتور سعد محلفي الوكيل المساعد لشؤون الأرصاد في الرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة أن المناطق المنكوبة شرق الخط السريع لم تستخدم النماذج الهيدرولوجية المخصصة لقياس مستوى الخطر في المنطقة المقامة عليها المباني, حيث إن هذه النماذج تقوم بتحديد المسارات المائية للمياه الهاطلة في المناطق وأن هذه الظاهرة تم رصدها منذ عام وكان من المتوقع حدوثها في عام 2008 و2009 وتم إرسال (تقرير إلى الجهات المعنية)!
منذ عام والتقرير عند الأمانة, وحديث الأمين عادل فقيه في شهر رمضان 1430هـ كان مخالفا لكل هذه الخطورة، بل كان يشير بمستقبل (وردي لمدينة جدة)!! وهون من تحذيرات الآخرين ومطالبتهم بحملة إغاثة لجدة!!
ومنذ أعوام وعقود وجدة ترزح تحت مشكلات خلل إداري ومالي وتدن في مستوى الخدمات على اختلافها ونحن سكانها الأعلم بما يدور فيها وما يشكل عبئا ماليا واجتماعيا ونفسيا على كاهل المواطن والمقيم. وكانت كرة الكوارث تكبر حتى انفجرت أخيرا وتطايرت أشلاؤها على المناطق المنكوبة شرقي مدينة جدة وحولت أحياءها إلى دمار ومرتع للأوبئة والأمراض التي لم تخل منها مدينة جدة.
في هذه الكارثة نجد من لا يزال (يقلل) من ضخامتها ويهون من أسبابها بل يعتبرها أخطاء (المواطن)!! ووجدنا أيضا أن هذه الكارثة كشفت عن النفوس اللامبالية التي لم تنظر للكارثة إلا أنها (هدر مالي)!! نسوا أن الكارثة هي في حق البشر الذين ماتوا والذين فقدوا وافتقدوا إلى الآن. فهل وصل بنا الأمر أن نتأسف على (هدر مالي) ونغيب (دم الضحايا)؟!
لم نتوقع هذه الأخبار المتناقضة عن الكارثة التي لا تبقي للحرف موقعا. فعندما نقرأ في الصحف أن فرق الإنقاذ تستخدم أجهزة متطورة للكشف عن الضحايا وفي الصحيفة نفسها نجد أن (الروائح التي تنبعث من الجثث هي التي ترشد فرق الإنقاذ إلى مكانها) ندرك هنا أن هناك مبالغات الهدف منها إعطاء القارئ معلومات منافية للواقع, وعندما نجد من يجلس على كرسي مريح يتناول القهوة ويبعد آلاف الكيلومترات عن مدينة جدة يتحدث عن عدم وعي المواطنين وأنهم كانوا السبب في المزيد من الضحايا لتجمهرهم في المواقع التي اجتاحتها السيول، أو يتحدث عن الكارثة بأسلوب ساخر وفي سطرين وكأنه يحكي قصة لأطفاله عند المساء!! وكأنه في الوقت نفسه يرقص على جثث الضحايا، ذلك اعتبره (سفه إعلامي) لا يرقى إلى مستوى الكارثة.
مر أسبوع على الكارثة وأخفق الإعلام المرئي والمكتوب ما عدا قلة من الصحف التي واكبت الحدث ونزل محرروها إلى أرض الواقع يقابلون أهالي الضحايا وهم يبحثون عن جثث موتاهم أو يتزاحمون في طوابير عند بوابة موقع حصر الأضرار لصرف الإعانات لهم. هناك كتاب أجادوا في الكتابة عن الكارثة وهناك من دافع دفاعا أعمى عن المتسببين في الكارثة وهناك من لا يستحق أن تقرأ ثرثرته!
الكارثة تعصف بنا نحن سكان شرق جدة وأعضاء المجلس البلدي يستمتعون بإجازاتهم خارج المملكة ولم تهزهم الكارثة للعودة سريعا، لهذا لن يجتمعوا كما نشر إلا يوم الثلاثاء (قبل يومين). ماذا نسمي هذا؟
الكارثة تسحق المشاعر والأنفس وتدمر الأحياء بكاملها ونواح الأرامل والثكالى والأيتام يصم الآذان ولا يزال البعض يغيب الحقائق في محاولة للتنصل من المسؤولية وإلقائها في ملعب أجهزة أخرى. ماذا نسمي هذا! أيضا نجد في خضم المأساة من يردد أنها أمر طبيعي ويحدث في جميع الدول. نعم يحدث في جميع الدول ولكن يختلف من دولة إلى أخرى. فالدول المتقدمة نجد من يعلن عن حالة الطوارئ منذ الساعات الأولى وليس بعد أيام من حدوثها مع أن هناك جانبا وقائيا كبيرا وخدمات متكاملة. ونجد أيضا المصداقية والشفافية في نشر جميع ما يتعلق بها, وليس تبرير الفشل والإخفاق كما حدث لدينا.
نسأل الله أن يرحم الغرقى الشهداء ويجبر مصاب أهلهم ويحفظ جدة وأهلها من هذه الابتلاءات, إنه سميع مجيب.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي