الصيارفة وأحكامهم عند الكناني الأندلسي
الصيرفة في اللغة مشتقة من الصرف، وهو صرف الذهب والفضة في الميزان، أي فضل الدرهم على الدرهم، والدينار على الدينار؛ لأن كل واحد منهما يصرف عن قيمة صاحبه، ويقال بين الدرهمين صرف أي فضل لجودة فضة أحدهما، والصرف أيضاً بيع الذهب بالفضة، ويقال صرفت الدراهم بالدنانير، أما في الاصطلاح فهي وظيفة من وظائف كتاب الأموال في الدول الإسلامية، وقال المطرزي: للدرهم على الدرهم صرف في الجودة والقيمة؛ أي فضل. وقيل لمن يعرف هذا الفضل ويميز هذه الجودة صراف وصيرف وصيرفي. وأصله الصرف، وهو المفضل، لأن ما فَضَلَ صُرفَ عن النقصان، والصرَّاف والصرِّيف والصيرفي هو الذي كان يتولي قبض الأموال وصرفها ونقدها، والجمع صيارف وصيارفة، وقد يجمع شخص واحد مهمة الصيرفي والجابي.
ونظراً لأهمية وظيفة الصيرفة ألفت كتب لإرشاد الصيارفة، منها كتاب "المختار في كشف الأسرار" للجويري، وهو من علماء النصف الأول من القرن الهجري، وقد تناول هذا الكتاب كشف أسرار الغش والتدليس في الصناعات، وعني بصفة خاصة بأعمال الصيارف، ومنها كتاب "الباهر في الحيل والشعوذة" لأحمد بن عبد الملك الأندلسي، واهتم بتنبيه الصيارفة إلى تجنب التصرفات المخالفة للشرع، فحذرهم من خلط أموال الناس بعضها ببعض، وعدم بيع النقدين بالآخر نسيئة، بل نقداً، وذكرهم أيضاً بأن من حق الصيرفي معرفة عقد الصرف، وألزم بضمان ما يتلف في يده من النقد لغير، ومن الأمور التي لفت نظر الصيرفي إليها أنه إذا سلم صبي درهما إلى صيرفي لينقده لم يحل للصيرفي رده إليه، وإنما يرده إلى وليه، وحدد ديوان الإنشاء في عصر المماليك ألقاب الصيارف من اليهود والنصارى، وذكر أنها تصدر "بالشيخ" كما كانوا يتخذون ألقاباً مضافة إلى الدولة مثل ولي الدولة وشمس الدولة، وربما قيل: الشيخ الشمسي للتفخيم.
ومن الكتب التي فصلت في أحكام الصيارفة، كتاب " أحكام السوق" لأبي زكريا يحيى بن عمر بن يوسف الكناني الأندلسي، حيث أورد مجموعة من المسائل التي تخص الصيارفة وعملهم في السوق، ومن ذلك أن رجلا اشترى من صيرفي دراهم مسماة، فأراه المشتري الدينار فنقره بائع الدراهم، فتلف الدينار أيضمن أم لا؟ والرجل يشتري من الرجل الدينار فينقره فيتلف، أيضمن أم لا؟ وأجاب عن تينك المسألتين بقوله" أخبرنا يحيى بن عمر، قال: أخبرنا عبيد، عن أصبغ بن الفرج، قال: قال لي ابن القاسم عن مالك: في رجل دفع إلى صراف ديناراً على دراهم فنقره فضاع إنه ضامن، وقال أصبغ: لأنه وجه بيع وشراء فهو ضامن" ولم يكتف بإيراد الإجابة مختصرة بل فصل فيها وبسط فيها الآراء، فزاد من أقوال العلماء بقوله" قال ابن القاسم في الدينار يعطيه الرجل للصراف على دراهم فينقره فيذهب: إنه ضامن، قال أصبغ: وهذا أصوب، لأنه قد صار منه حين قبضه ليصرف، فهو بيع وشراء بمقبوض.
ويبدو أن مسائل الصيارفة كانت تخلق مشكلات متعددة لمراقبي السوق من المحتسبين، ولذلك فإن الكناني حاول في كتابه أن يتطرق إلى كبائر الأحكام وصغائرها، ليكون كتابه بمثابة الدليل الذي يستنير به المحتسبون لمحاسبة الصيارفة وقضاء أحكامهم، ومن ذلك ما أورده بقوله" قال أصبغ: وكذلك لو غصبه الصراف أو اختلس منه، وسواء في هذا عندي نقره نقراً يتلف من مثله أو خفيفاً لا عطب من مثله إلا بالقضاء والقدر، إلا أن يؤذن له في نقره فينقره نقراً لا يعطب من مثله، فطار في ذلك فلا شيء عليه وإن خرق ضمن، وقال أصبغ: وإنما الذي لا يضمن من الخفيف في النقر الذي يشتري ولا يشترى منه دراهم.
وسمعت يحيى بن عمر وقد سئل عن رجل تعدى على دينار فكسره، فقال له يحيى: يغرم مثله في وزنه وسكته، قال له السائل: إنه ليس يوجد مثله في وزنه وسكته، لرداءته ونقصه، إذ ينقص ستة قراريط، فقال له يحيى: يمضي به إلى أهل المعرفة بالدنانير فيقال لهم: ما يساوي هذا الدينار بنقصه وهو صحيح من الدراهم؟ فإن قالوا: يساوي كذا وكذا قال يحيى: فيعطى من الدراهم ما يسوى به، قلت ليحيى بن عمر: فلو أن رجلاً مر بدينار إلى رجل ليريه إياه، فأخذه الرجل فجعله بين أسنانه لينظر ذهب الدينار ليناً أو يابساً فكسره؛ لأن سنة الدنانير إذا وزنت أن تجعل بين الأسنان لتختبر – فإن كان الذهب ليِّنا علم أنه جيد وإن كان الذهب يابساً علم أنه رديء، فلا ضمان عليه.