تحطيم العوائق
بسبب ضغوط الحياة يتصاعد السخط لدى الكثيرين وتعلو نغمة التشاؤم، وما أحوجنا بين فينة وأخرى أن نجلس ونستعرض إنجازنا كبشر، لنعرف ما إذا كنا على الدرب الصحيح سائرين أم أننا في طريقنا – كما يرى المتشائمون – إلى الانهيار.
ومن حسن الحظ أن الظاهرة الأولى والمهمة هي نجاح الإنسان في تحطيم العوائق التي تعترضه تدريجيا وباستمرار، مما يعني زيادة البراعة في الأداء والنجاح في تحقيق مزيد من الراحة والرخاء.
على الصعيد البدني والذهني، نجح الإنسان في زيادة قوة تحمله ولياقته الصحية وسرعته إلى آفاق لم تخطر على بال أحد، بل وكانت ضربا من ضروب الخيال في الماضي. ففي سنة 2003 نجح بطل سباق الماراثون (26 ميلا) في أن يتفوق على مثيله سنة 1897 بنسبة 30 في المائة، أي أنه حقق زمنا أقل رغم أن الماراثون كان وقتها 24.7 ميل فقط. وفي الفترة نفسها زاد الإنسان معدل قفزه العالي والوثب الطويل بنسبة تزيد على 15 في المائة عن مثيله في تلك الآونة. وزاد في القفز العالي بالذات إلى 25 في المائة أعلى من سابقيه. أما سباحة 400 متر حرة فقد نجح إنسان 2003 في أن يتفوق بـ 20 في المائة أسرع. وعلى امتداد الـ 50 عاما الأخيرة تمكن العداؤون من تحقيق 10 في المائة أفضلية على أرقام من سبقوهم. وهذا يعني أن قدرة الإنسان على تطوير قدرته الذهنية والبدنية وهو يتحدى قوى الطبيعة أصبحت هائلة، وما زال في تحسن مستمر. وإذ كانت هذه هي الصورة المضيئة فإن هناك صورة قاتمة تتمثل في الضرر الذي أحدثناه بعقولنا وأجسامنا من خلال استخدام التبغ والمخدرات والمبالغة في تناول الطعام. فخلال القرن الـ 20 وحده توفي 100 مليون إنسان بسبب الدخان والتبغ وما يحدثه من أمراض في جميع بلاد العالم. وفي سنة 2000 أثبتت الإحصائيات أن هناك 200 مليون من البشر يستخدمون المخدرات الممنوعة والمحظورة. وفي الفترة من 1995 إلى 2000 زاد عدد البشر الذين يعانون الوزن الزائد والسمنة والبدانة بصفة عامة من 200 مليون إلى 300 مليون. وما زال التطور مستمرا في إنتاج أدوية ومواد ترفيهية مع استخدام الكيماويات في طعامنا أكثر وأكثر. والسبب أن الإنسان أصبح يلهث وراء استهلاك أي شيء يحبه بغض النظر عن درجة الضرر الذي يمكن أن يلحق به. وبين النقيضين: الإنجاز والنجاح من ناحية والضرر والدمار من ناحية أخرى نعيش في عالم اليوم.
الساحة الثانية التي نجح فيها الإنسان هي ابتكاره واختراعه وتطويره المستمر للآلات، بحيث يمكن القول إننا نعيش فترة رخاء غير مسبوقة بفضل ما توفره لنا هذه الآلات. لقد زاد معدل ظهور واختراع الآلات بصورة لم يسبق لها مثيل، فالزراعة شهدت أول تطوراتها منذ خمسة آلاف سنة مع اختراع الساعة المائية (الصين) ولكن المخترعات الكبرى توالت حتى جاء باسكال بأول آلة حاسبة سنة 1642. ومع الانقلاب الصناعي زاد معدل الميكنة، وفي 1871 مات تشارلز باباج تاركا وراءه مساحة 400 قدم مربعة كمشروع لأول كمبيوتر (الآلة التحليلية). بعد ذلك بدأ سيل مخترعات للآلات التي دخلت كافة مناحي الحياة، مما سمح للإنسان بتحقيق تقدم مذهل في حياته. حقا لقد خلصتنا الآلات من محدودية قوانا البشرية والمعوقات البيئية المتعددة، ولكن هذا التغول والجبروت الذي تمارسه الآلة في حياتنا، أصبح يهدد كيان الإنسان نفسه ودوره وقيمته في المجتمع.
وبين هذين النقيضين أيضا – فوائد الآلة وأضرارها على كياننا نقف حائرين، ولكننا سائرون.
أما الساحة الثالثة التي حقق الإنسان فيها نجاحا مذهلا فهي عالم الكمبيوتر، فسرعة الكمبيوتر تتضاعف كل ثلاث سنوات ومنذ سنة 1950، بل إن البعض يقدر أنها تتضاعف كل عامين منذ السنوات الـ 20 الماضية. وكلنا يذكر كيف نجح السوبر كمبيوتر الذي أنتجته شركة IBM تحت اسم الأزرق العميق من أن يهزم بطل العالم في الشطرنج، وفي السنوات الأولى من القرن الـ 21 نجح العلماء في بناء كمبيوتر عملاق لوزارة الطاقة الأمريكية يمكنه إجراء 100 تريليون عملية حسابية في الثانية، وهي نفس قدرة العقل البشري! ولا يعني هذا أن الكمبيوتر سيتساوى مع العقل البشري قريبا، فعلى أساس كافة الحسابات العلمية تظل عمليات مثل الرؤية والبصيرة واللغة والسيطرة على الآلات في صالح الإنسان، فالعقل البشري يفوق ألف كمبيوتر عملاق في هذه المنطقة أما تفوق الكمبيوتر فهو في مجال عمليات الحسابات والضرب والقسمة والبحث.
ولكن هناك نقطة جديرة بالتوقف وهي أن معادلات الشفرة الجينية وتكوين المادة وطبيعة الوقت والفراغ يجعلنا نتوقع حدوث معجزات علمية. ففي سنة 1980 نجح علماء الفيزياء الأمريكيون في تحويل بضعة آلاف من ذرات الرصاص إلى ذهب، وفي سنة 2000 نجح الصينيون في استنساخ ستة عجول من خلايا جلود أذن الثور. ومن المتوقع – كما يقول العلماء - أننا سننجح في جعل المعوق يمشي والأعمى يرى وتحويل الماء إلى نبيذ وتوفير الغذاء للبلايين وتحويل المعادن الرخيصة إلى معادن غالية .
إن قدراتنا العلمية لا حدود لها، ولكن دعونا نتأمل قليلا في انهياراتنا وفشلنا العاطفي، وخوفنا من بعضنا البعض وشهوة السلطة الكامنة فنيا، فإن ذلك يعني أن نجاحات العلم تتحول إلى أسلحة. وفي الماضي كان هذا الخلل البشري يؤدي إلى أن يقوم رجل بقتل رجل ولكن مع هذا التوحش العلمي يمكن لقلة أن تدمر البشرية وتلوث الهواء والماء والصخور وكافة مقومات الحياة. والأكثر رعبا هو أنه مع مزيد من التفوق العلمي فإن العلاقة بين الزمان والمكان في خطر.
وهكذا نعيش بين نقيضين للمرة الثالثة – حلاوة العلم وطغيانه. فنحن على حافة عصر المعجزات، ربما عصر نهاية الزمان.