الأمن الفكري مشروع وطني أبعد من كونه مواجهة موجة إرهابية
الباحثة في الشؤون الأمنية والفكرية، بينة بنت فهد الملحم، تبنت قضية الأمن الفكري كقضية شخصية وسعت لتقويم اهتمامها بهذه القضية من خلال الكتابة عن التأهيل الأكاديمي كباحثة متخصصة في قضايا الأمن الفكري والإرهاب .
أعلن عن فوز بحثها المعنون بـ (الجامعات وصناعة الأمن الفكري « قراءة سوسيولوجية في علاقة الجامعات بالأمن الفكري في المجتمع السعودي») في مسابقة جائزة كرسي الأمير نايف بن عبد العزيز لدراسات الأمن الفكري لأفضل عشرة بحوث مشاركة في المؤتمر الوطني الأول للأمن الفكري الذي عقدته جامعة الملك سعود ونظمه كرسي الأمير نايف بن عبد العزيز لدراسات الأمن الفكري، وإعلان اسمها قبل ذلك ضمن 11 امرأة سعودية وعربية يشخصن واقع الأمن الفكري. كما أنها تعد أصغر باحثة تقدمت للمؤتمر الوطني الأول للأمن الفكري .. وقد مثلت المنطقة الشرقية من ضمن 56 باحثاً مشاركاً ببحوث محلية ودولية، توجت هذا بدعوة كرسي الأمير نايف بن عبد العزيز لدراسات الأمن الفكري وتوجيه الدكتور عبد الله العثمان، مدير جامعة الملك سعود، باستقطابها كإحدى الكفاءات الوطنية. «الاقتصادية» التقت الباحثة وكان الحوار التالي:
«الأمن الفكري « .. مصطلح يمكن توقيت ظهوره مع تواتر أزمة الإرهاب كمفهوم حديث استدعته الأحداث وبين الجدل الدائر حول تعريف هذا المفهوم .. هل لك أن تسلطي الضوء على ذلك ؟
في البدء لا بد من إيضاح اللبس في الجدال حول مفهوم الأمن الفكري كمفهوم ملتبس يصل لحد التناقض أحياناً، وذلك يعود لفكرتين: هل الأمن يؤدي إلى الفكر أم أن الفكر يؤدي إلى الأمن وكيفية اتساقية «الأمن» و«الفكر» كمفهومين مستقلين. الأمن الفكري حقيقة مختلطة في مجتمعنا مع مقومات الأمن المختلفة التي يسعى المجتمع لتحقيقها, ولكن السمة المختلفة لقضية الأمن الفكري هي ما أستطيع تسميتها (الطارئية). إن فكرة الأمن الفكري لها وجودها التاريخي العميق إلا أنها فكرة طارئة على مجتمعنا ارتبطت بممارسات فكرية ظهر الإرهاب كنتيجة لها. فالإرهاب هو نتيجة لخلل في الفكر ومقومات أمنه وكيفية إدارتها في المجتمع.
فلسفة مفهوم الأمن الفكري ليس عملية بناء لأنظمة أو قوانين يمكن أن يتم سنها في المجتمع, ولكن الأمن الفكري عملية ثقافية مرتبطة بشكل مباشر بالثقافة السائدة ونوعية البدائل الموجودة فيها, الأمن الفكري هو حالة ثقافية وليس قانوناً أمنياً كما قد يتصوره الكثير, فبالفكر نحقق ونعزز الأمن ولا يمكن أن يتم فرض الأمن الفكري بمناقشته كموضوع مستقل عن الثقافة السائدة. فتحقيق الأمن الفكري مرتبط بمعالجة فورية وحاسمة للثقافة السائدة, ولذلك يصبح من الخطأ الكبير أن تتم مناقشة الأمن الفكري على أنه حالة تستدعى إصدار القوانين والأنظمة, إنه حالة تستدعي إعادة تشكيل مدخلات الثقافة السائدة ومراقبة مخرجاتها المستقبلية.
الأمن الفكري كموضوع أبعد من كونه مواجهة موجة إرهابية هو مشروع تنموي وطني بعيد المدى عبارة عن عملية لتجديد الفكر وتقويمه، لذا هو يسعى إلى صياغة جديدة للهوية الفكرية السعودية تجمع بين الثوابت الدينية والوطنية والانفتاح الإيجابي على العالم.
قلت صياغة جديدة للهوية الفكرية للشباب السعودي .. هل تعتقدين أنه بالثقافة سنقتلع جذور الإرهاب؟
إذا سلّمنا بأن الإرهاب يستقي مصادر الفراغ الفكري والإبداعي والعاطفي فسيكون الجواب نعم وبالتأكيد. الآليات الثقافية هي التي تدعم وعي الإنسان بنفسه وبغيره وتشكل عنصرا من عناصر الإدماج الاجتماعي وسندا لحوار الحضارات والأديان في عالم مفتوح يسوده التشدد والانغلاق من جهة والانصهار والتنوع من جهة أخرى ... وهنا يأتي دور الثقافة في تجذير الهوية الفكرية الجامعة بين الثوابت الدينية والوطنية وبين الانفتاح الإيجابي على العالم سعيا لتحقيق العقلية المؤمنة والمتفاعلة مع التعددية الثقافية.
في وقت سابق ذكر صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية أن استراتيجية الأمن الفكري التي يتم إعدادها من قبل فريق علمي متخصص في كرسي الأمير نايف للأمن الفكري بجامعة الملك سعود هي استراتيجية سعودية الدراسة والفكر .. كونك عضوة وباحثة في كرسي الأمير نايف بن عبدالعزيز لدراسات الأمن الفكري .. هل صياغة الهوية الفكرية بحاجة إلى استراتيجية .. لماذا ؟ وكيف تبنى الاستراتيجية الفكرية من وجهة نظرك؟
بالتأكيد نعم, ذلك أن فلسفة الأمن الفكري ليست قضية بحثية إنما هي مشروع تنموي وطني شامل تشترك فيه كل أطراف الثقافة، ولا يمكن أن تحدث عملية نقل النظري إلى الواقع في الأمن الفكري إلا من خلال برامج وأنشطة تصاغ في نمطية استراتيجية وفق مسار علمي محكم.
بالنسبة لبناء الاستراتيجية الفكرية فهي تتكون من كثير من الخطوات والمهام الدقيقة. ولكن قبل ذلك ومن خلال الأدبيات التي تحدثت عن الكيفية التي يتم بها بناء الاستراتيجيات يمكننا القول إن أبرز مقومات الاستراتيجية هي تحديد أهدافها من خلال تجارب سابقة ومن خلال الأنظمة والقوانين القائمة وكذلك من خلال اللقاءات واجتماعات العصف الذهني. كل هذه المقدمات تتحول بعد ذلك إلى مبادرات تشمل برامج وأنظمة وسياسات يمكن بناؤها من خلال خطط عمل وبرامج تتحول إلى خطط تطبيقية يتم تطبيقها على الواقع ومن ثم مراقبة أدائها وقياس مدى تحقيقها الأهداف. مع التأكيد أن صياغة الاستراتيجية الوطنية الشاملة للأمن الفكري تتقاطع مع أدق التفاصيل في الثقافة والحياة الاجتماعية.
في تكليف سمو النائب الثاني ووزير الداخلية فريقا من الأكاديميين السعوديين ببناء هذه الاستراتيجية الفكرية .. ما دلالتها لك كمواطنة وأكاديمية؟
على إيمان سموه المستمد من رؤية القيادة الحكيمة بدور الجامعات في أنها الميزان الفكري والمصدر الموثوق لتحليل الظواهر المجتمعية والقضايا الوطنية ودراستها وتحليل نتائجها.
هل كان في تشرف جامعة الملك سعود باختيار سمو النائب الثاني ووزير الداخلية لها في احتضان كرسي بحثي يختص بدراسات الأمن الفكري ومن ثم توجيه سموه بوضع الاستراتيجية الوطنية الشاملة للأمن الفكري من قبل الجامعة والكرسي تحفيزاً لك بالانتساب إلى جامعة الملك سعود؟
جامعة الملك سعود هي الرائدة الأولى في مجال الأمن الفكري عبر رعايتها (لكرسي سمو سيدي النائب الثاني ووزير الداخلية للأمن الفكري ) فهي البيئة الوحيدة والمناسبة للأخذ بيدي كباحثة وتحقيق طموحاتي في خدمة وطني في هذا المجال المهم, بل إن من ينتسب إلى هذه الجامعة العريقة يشعر بالفخر والاعتزاز كونها من أعرق الجامعات وأبرزها في وطننا الغالي، فضلاً عن التطور المتنامي الذي تشهده الجامعة وقفزاتها المتوالية للمنافسة في تحقيق الريادة والتطور العالمي، فما تشهده الجامعة من تطور في مجالات كثيرة ومنها البحث العلمي عبر نشر (ثقافة الكراسي البحثية) يدل بشكل أكيد على وعي دقيق بالمهمة العلمية للجامعات ودورها في دعم المجتمع بالمتطور والجديد، ومن منطلق رسالتها أننا نعيش عصر اقتصاد المعرفة حيث تشكل المعرفة وتقنياتها أهم مصادر التغيير في الحياة البشرية.
بحثك الفائز بجائزة كرسي الأمير نايف بن عبد العزيز للأمن الفكري .. ما صعوبة البحث في موضوعك؟ وما مدى أهميته بالنسبة لخريطة الأمن الفكري؟
الصعوبة كانت تتمثل في أنه ليس هناك قضية أعقد منهجية من تحليل سوسيولوجي ثقافي لعلاقة جانب تربوي يعتمد على منح المساحات الكبيرة للفكر وحرياته، وبين منهجية أمنية للفكر نبحث فيها دائماً عندما نرغب في تقييد المسافة الفكرية التي نريد أن نصل إليها أو نحدد منطقتها الجغرافية. هذا التحدي ليس طبيعياً بقدر ما هو معضلة في إمكانية رسم خطوط فكرية تفصل بين التعليم والمجتمع في علاقة أيهما أخطر على الآخر, ومن يجب أن يساهم في بقاء خدمة الآخر. جاءت أهمية البحث من هذه المعضلة ونتائجه التي خرج بها البحث، ومن أهمها اكتشاف المجتمع أن غياب مقومات الأمن الفكري عملية أساسية لإعادة تأهيل وبناء ثقافة فكرية آمنة في المحيط الاجتماعي بجميع عناصره, ولهذا السبب كانت الجامعات من أكثر المساحات التربوية حضوراً في الخريطة الاجتماعية، وهذا ما جعلها مساحة صالحة لاستنبات مقومات مجتمعية إيجابية, وفي الوقت مفسه يمكن للظواهر المجتمعية السلبية أن تبني فيها الفرص نفسها وتساهم في التدمير. كذلك تم رصد المعايير الأساسية لقيام جامعات حقيقية يمكن لها من خلال تطبيق كثير من المعايير أن تصبح حصناً اجتماعياً ودرعاً يقي المجتمع من كل مظاهر انحراف محتملة. وفي الوقت نفسه تم رصد مؤشرات انحراف يمكن أن يستند إليها في بحوث مستقبلية تهدف إلى تصميم مقياس للمهددات الفكرية في الجامعات السعودية.
هل لك أن تطلعينا على أبرز مؤشرات الانحراف التي كشف عنها البحث؟
أبرز هذه المؤشرات أن يساهم تصنيف الجامعات بتخصصاتها ووفقاً لمسارها الفكري والتربوي في جعلها تتبنى بعض الأفكار دون غيرها مما يجعل احتمالية نشوء ظواهر فكرية سلبية فيها أمراً محتملاً، لذلك لا بد من جعل الجامعات تحصل على فرصة كبيرة لتنوع التخصصات فيها وتنوع البيئة الأكاديمية وجلب الخبرات من كل مكان. أيضاً, محاربة الفكر المنحرف ليس بوضع قوانين صارمة, ولكنه يتم من خلال زرع بيئات ثقافية متنوعة في الجامعات وتعددية فكرية متوافقة مع القيم الاجتماعية وتنشيط الجوانب الثقافية والفكرية في الجامعة من خلال التأسيس لمنهجية الحوار وقبول الآخر.
كما أن علاقة الجامعة بالمجتمع قضية أساسية لا بد من تفعيلها من خلال التأكيد على خطورة استقلال الجامعات عن المجتمع وأهمية لعبها دوراً بارزاً في التأصيل لتحديد اتجاه المجتمع ومقوماته الفكرية. فلذلك يتوقع من الجامعة وخبراتها المحلية والدولية أن تلعب دوراً بارزاً في عدم اعتناق ثقافة فكرية واحدة دون غيرها, وهذا الدور سوف يساهم في تحقيق الأمن الفكري المتوقع.
المؤسسات التعليمية .. في رأيك ما ترتيبها في خطوط الدفاع عن أمن المجتمع وسلامته؟
بالتأكيد نعم. فالمؤسسات التعليمية ذات أثر كبير في عمليات تشكيل الفرد لهذا السبب تعتبر الخط الثاني بعد الأسرة في تحديد الكيفية التي يجب أن تكون عليها مخرجات تلك المؤسسات التعليمية. فعلى سبيل المثال لو نظرنا إلى الإرهاب كموجة عالمية لها آثار سلبية على المجتمعات وثقافتها نجد أن كثيرا من المؤسسات التعليمية ممثلة في إداراتها العليا أصبح لزاما عليها بناء خطط استباقية لمواجهة خطر تداخل الفكر المتطرف مع الثقافة السائدة من خلال بعض القنوات الممكنة, خاصة أن كثيرا من القيم التراثية للمجتمعات وخصوصا الإسلامية تتداخل في كثير من القيم التي قد يتبناها الإرهاب. مثلاً قضية موقف المسلمين من غير المسلمين من القضايا التي يمكن أن تشكل قلقا للمؤسسات التعليمية. هذه المعطيات التي قدم بها الإرهاب نفسه إلى المجتمعات تشكل نقطة مهمة تتمحور حولها ضرورة أكيدة من المؤسسات التعليمية لمواجهة الأخطار التي من الممكن أن تتركها ظاهرة الإرهاب على الثقافة الاجتماعية.
لقد أصبح من الضروري مواجهة هذا التداخل بين معطيات الإرهاب والثقافة المجتمعية وأهمية فصل الحقيقة عن غيرها بعمليات فكرية مماثلة، مهمة تربوية مناط أمرها بإدارة السياسات التعليمية بالدرجة الأولى, مما يعني أهمية بناء خطط واستراتيجية محكمة لمواجهة نماذج فكرية متطرفة يمكن أن تترك أثرا في مستويات الأمن الفكري في المجتمع وتجعله يختل ويفقد توازنه وهذا بالضرورة يعيد حسابات المرجعية الفكرية للواقع الاجتماعي والثقافي.
هناك اتهامات تطول مؤسسات التعليم والمطالبات لا تزال بأن يؤدي التعليم دوره من خلال عمليات الإصلاح والتطوير في مكافحة التطرف والإرهاب .. ما رأيك في هذه الاتهامات وما سببها في رأيك؟
في البداية من الخطأ اتهام مؤسسات التربية والتعليم كونها ضحية مثل غيرها من المؤسسات الاجتماعية فقد فوجئت كما غيرها بتنامي ظاهرة الانحراف الفكري بين مجموعات من الشباب الذين مارسوا الإرهاب في المجتمع. السؤال الذي يجب طرحه هنا: هل هناك جهود فكرية من قبل مؤسسات التربية والتعليم لتعزيز الأمن الفكري أم لا؟ لا يمكن إنكار وجود جهود من قبل مؤسسات التربية والتعليم. صحيح أنها قد تكون غير كافية وكفيلة لكن على الأقل هي موجودة. السؤال الثاني الذي يجب أن يحظى بالإجابة: هل هذه الجهود بنيت وقدمت وفق منهجية واستراتيجية علمية مدروسة ..؟ .في الحقيقة أن المفاهيم الخاصة بالأمن الفكري لا تضخ مباشرة في المعلم أو المنهج أو الأنشطة الطلابية ما لم تكن هناك استراتيجية مبنية أساساً على تحقيق مفاهيم الأمن الفكري بين عناصر العالمية التربوية جميعها، لأنه من الخطأ أن نعتقد أن المعلم أو المنهج أو الأنشطة الطلابية هي وحدها عناصر العمل التربوي الفلسفة التربوية الناجحة هي التي تستطيع أن تبني سياسات واضحة ومتينة قادرة على ضبط عناصر العملية التربوية. كذلك يجب التأكيد على أن التربية والتعليم سواء في جانبها النسائي أو الرجالي لا يمكن فصل مساهمتها عن بعض فكلا الجانبين هما ضمن إطار الثقافة الاجتماعية ولذلك من الخطأ أيضا التركيز على جانب واحد منهما دون الآخر.لأن المشكلة أعمق بكثير فهي موجودة، غياب الاستراتيجيات والسياسات الموجهة نحو تفعيل الأمن الفكري، وهذا هو السبب خلف العقبات التي تواجه مؤسسات التربية والتعليم في تعزيز مفهوم الأمن الفكري بطريقة سليمة مما قد يترك ثغرات عديدة قد يستغلها الفكر الإرهابي وتدفع بالنقد الموضوعي للاستمرار في مطالباته بتأدية تلك المؤسسات دورها تجاه هذه القضية.
أما سبب تلك الاتهامات فأرجعه إلى عبء التاريخ. وكما يقال « التاريخ لا يموت بسهولة «. فإن كانت الرؤية لعملية التعليم والتعلم وللمؤسسات التعليمية ودورها قد تشابكت فيه رؤى شخصية وجماعية وشعبية ودينية وسياسية واقتصادية ومن زوايا متعددة، فإن الواقع قد تشابك مع مختلف السياقات التاريخية والأزمان الثقافية والسياسية. فمهما طرأ من تطورات على بنية نظام التعليم لا تزال الآثار السلبية المترسبة في تفكير منظومة التعليم وفي تفكيرنا نحن أيضا باقية، أقصد ظروف بنائه. هي عوامل واعتبارات وإن كانت تاريخية لكنها لا تزال متجسدة في أبعاد الحاضر، لذلك لا بد أن يقتضي الأمر العمل على معالجتها بما يضمن تجاوزها في أي رؤية مستقبلية لتطوير التعليم.
كيف تغذى الفكر الضال من خلال مؤسسات التعليم؟
قضية الأمن الفكري بمعاييره المختلفة ومنها الأمن الفكري السياسي والأمن الفكري الاجتماعي والأمن الفكري الاقتصادي وغيرها من المجالات كلها عمليات دقيقة تحدث خلال عمليات التفاعل المتوقعة بين الثقافة والمجتمع. إن دور المؤسسات التعليمية يتمثل في رسم معايير كل جرعة فكرية يتم تقديمها للمجتمع من خلال الأجيال ذات العلاقة المباشرة بما تقدمه المؤسسات الفكرية. اختلال المعايير وعدم دقتها في الجرعات الفكرية المقدمة للأجيال وخصوصاً من هم على مقاعد الدراسة يتسبب في خلل تظهر نتائجه بسرعة على تلك الأجيال، هذا إذا كانت المؤسسات التعليمية تفتقد المعايير المناسبة والموازين الدقيقة للجرعات الفكرية. على الجانب الآخر هناك مهمة أساسية لتلك المؤسسات التعليمية تتمثل في حماية تلك الأجيال من المؤثرات الفكرية السلبية التي قد توجد في الفضاء الاجتماعي بشكل عام, ويخشى أن تنتقل إلى الإطار التربوي من خلال تلك الأجيال، مما يعني ظهور مؤثر جديد قد يغير مسار الفكر في المجتمع وينتج مخرجات فكرية قد تشكل خطورة على المجتمع.
كيف يمكن في رأيك تحديد كفاية جهود مؤسسات التربية والتعليم تجاه قضية الأمن الفكري وتعزيزه؟
تتحدد من خلال معرفة حجم المعرفة البعدية التي تلي تنفيذ البرامج والأنشطة الموجهة لمعالجة وتعزيز مفاهيم الأمن الفكري وتحديد مسار تلك البرامج وأثرها المعرفي الذي تركته على الطلاب والطالبات على حد سواء . ومدى استجابة الثقافة التربوية لتطبيق مثل هذه البرامج وتنفيذها بمنهجيات تترك أثرا ولا تخفي معرفة دقيقة يمكن أن تؤثر في فهم هذا المدلول وإدراكه من جانب الطلاب والطالبات. لذلك أنادي بضرورة حصر تلك البرامج وشرح كيفية بنائها من الناحية الفكرية ومعرفة أهدافها ومعايير اختيارها ومن ثم يتم بناء استمارة يتم بناؤها وفقا لمكونات تلك البرامج والأنشطة العلمية والعملية وتحديد عينات مختارة من الطلاب والطالبات للإجابة عن تلك الاستمارة.
لماذا يجب بناء استراتيجية تربوية للأمن الفكري؟
الأحداث الإرهابية التي اجتاحت العالم خلفت ضرورة قصوى لمراجعة البنية الفكرية في المجتمعات ومنها مجتمعنا وخصوصا مشاركة أبناء المجتمع في عمليات إرهابية داخل المجتمع وخارجه.
ظاهرة الإرهاب تم تقديمها تحت عنوان إسلامي ومصادر إسلامية وتحوير واضح لآيات قرآنية وأحاديث نبوية مستمدة من التراث، وبنفس التوقيت هذه الآيات متداولة في المجتمع وهي جزء من تركيبته الفكرية ولكن التطرف أساء إليها من خلال عمليات تفسيرية تخدم الإرهاب كظاهرة، هذا التداخل استوجب تجلية الحقيقة وضرورة اللجوء إلى منهجية تربوية تكشف الاختلاف في كيفية التعاطي مع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
المؤسسات التعليمية ذات أثر كبير في عمليات تشكيل الفرد لهذا السبب تعتبر الخط الأول في تحديد الكيفية التي يجب أن تكون عليها مخرجات تلك المؤسسات التعليمية.
قياس الأثر الفكري الذي يمكن أن تحدثه ظاهرة الإرهاب يجب ألا ننتظره من خلال الأعمال الإرهابية التي تحدث وكيفيتها ونوعها ولكن يجب أن تكون هناك استراتيجية واضحة المعالم والبرامج تستبق النتائج السلبية وتقضي عليها.
المجتمع بحاجة إلى معرفة الكيفية التي يتم من خلالها التعامل مع الفكر الديني في المجتمع التعليمي وخصوصا في القضايا المشتركة مع الفكر المتطرف مثلا موقف المسلمين من غير المسلمين وموقفهم من المخالفين وموقفهم المختلفين معهم، وهذا سوف يوفر أرضية صلبة لمعرفة الواقع والتعامل معه.
تحسين الصورة للفكر الإسلامي لا تتم إلا من خلال واقع مناسب يعكس الفكر الإسلامي المعتدل والوسطي وهذا لن يتحقق ما لم يكن هناك بث فكري قائم على منهجية علمية وعملية يصل إلى الأجيال من الطلاب والطالبات.
تغيير الأجواء المتوترة حول الإسلام والثقافة السائدة لا يمكن أن يتحسن في المجتمع إذا لم يكن هناك أدوات لتغييره وتحسين مساره وهذا تحققه استراتيجية تربوية تعنى بالأمن الفكري.
الحد من تنامي الأفكار المتطرفة التي قد تجد لها بيئة مناسبة في بعض المؤسسات التعليمية لا يمكن أن يتحقق دون مسار ومنهجية تحد منه وهذا ما يمكن تحقيقه من خلال برامج تتبناها استراتيجية فكرية.
لك اهتمامات بحثية بدور وعلاقة الأسرة بالتطرف والإرهاب وقد قدمت بحثا بعنوان: «أبناؤنا بين ثقافة الأسرة وثقافة الانحراف الفكري»، هل هذا يعني أن هناك علاقة بين انحراف الأبناء والأسرة التي ينشأون فيها؟
نعم , وبحسب البحث وما أثبتته الدراسات. فلو أخذناها من منظور الأمن الفكري سنجد أن قضية الأمن الفكري موجودة في معايير وقيم اجتماعية مختلفة ولكنها ذات علاقة مؤكدة بجانب التنشئة الاجتماعية التي كما نعرف تتقاسمها مؤسسات فاعلة في المجتمع. المؤسسة الأولى هي الأسرة بما تتركه من آثار تسهم في نقل الثقافة كقيمة إنسانية لذلك المجتمع أو ذاك.
الجديد في هذا البحث أنه محاولة لتشخيص واقع الأسرة السعودية وفهم علاقة الأسرة في المجتمع بالثقافة من خلال أبنائها الذين يشكلون الركيزة الأساسية في رسم هذه العلاقة.
هل تعتقدين كفاية نتائج مثل هذه البحوث كموجّه علمي للقائمين أو المعنيين بشؤون الأسرة في القيام بدورهم تجاه قضية الأمن الفكري؟
في رأيي ليست كافية. مشكلة عملية البحث في قضايا الأمن الفكري أن مجالاتها متداخلة ومتشابكة مع كل مؤسسات المجتمع والدولة. الآخر لا ننسى أن هذه الأسرة جزء من مجتمع كبير فليس من المعقول أن نبحث في علاقة الأسرة بأبنائها عازلين الأسرة عن المجتمع, ثقافة الأسرة هي وليدة ثقافة مجتمع تنتسب إليه .
أرى أنه كي يقوم هؤلاء المعنيون بدورهم بشكل سليم ومنهجي لا بد من بناء مقياس علمي مقنن لمؤشرات المهددات الفكرية بناء على الخريطة الفكرية السعودية من خلال رؤية سوسيولوجية. مع التأكيد على استلزام إجراء دراسات حالة لأسر المطلوبين أمنياً أو الموقوفين.
مثل هذا الخلل في الأسرة الذي يتسبب في الانحراف الفكري لدى الأبناء، ألا توجد مؤسسات في المجتمع المدني يفترض كشفها لمثل هذا الخلل ومعالجته قبل استفحاله؟
بالتأكيد هناك كثير من المؤسسات في المجتمع المدني يمكن أن تسهم وتؤدي دورها في الكشف عن هذا الخلل كمراكز الأحياء السكنية والمراكز الأسرية. سوى أنه في عدم وجود مقياس علمي مقنن (كما أشرت سابقا) لمؤشرات الانحراف والمهددات الفكرية سيجعل من عمل هذه المؤسسات مجرد اجتهادات فردية، فضلاً عما لو تم ذلك أيضا في ظل غياب التنسيق والتكامل مع بقية الجهات والمؤسسات الحكومية ذات العلاقة والصلة وعدم الاسترشاد باستراتيجية وطنية شاملة.