أزمة السيولة الخليجية وضرورة العودة للوحدة النقدية!
قد يكون من المنطق الإشارة إلى أن ما حصل أخيراً لإحدى شركات إمارة دبي من شح في السيولة لم يكن مفاجأة من العيار الثقيل لمتابعي الوضع الخليجي بعامة والإماراتي بخاصة أو حتى من قبيل الصُدفة، فصعود النجم الخليجي وتلألؤه أذهل الجميع بهذا الهبوط المكوكي الحاد والسريع لماكينة التنمية على المستوى الاستثماري العقاري والائتماني والمتمثل في طلب شركة دبي الدولية والمملوكة لحكومة دبي تأجيل سداد ديونها المُستحقة والبالغة في حدود 100 مليار دولار لمصارف وشركات متنوعة الأعراق والبلدان حسب تقديرات «موديز». ففي مقال لي في هذه الجريدة الغراء قبل عام، وبالتحديد في 23 كانون الأول (ديسمبر) من عام 2008، ذكرت فيه « التنسيق الاقتصادي العملي على كافة الصُّعد بين دول المجلس أثناء وبعد الأزمة المالية العالمية مطلب استراتيجي وذلك لمواجهة احتمالية أي أزمة مالية في إحدى دوله والمتمثلة في توفير السيولة للقطاعات المصرفية والعقارية فيما بين دوله دون أدنى حاجة للجوء إلى إجراءات فردية مع دولة خارجية، بحيث يكون من أولويات القمة المقبلة». وثمة مسألة أخرى مازالت تنتظر التدقيق والتمحيص وهي حتى وإن تمت الترتيبات لسداد الديون المستحقة فستكون سابقة خطيرة لسوء التخطيط الخليجي بعامة لكثير من المشروعات التنموية الحيوية ولعدم التقيد والاكتراث لكثير من الأضرار الاقتصادية الناجمة عن هذا التخطيط، ولكن يبدو أن هذه المسألة لم تكن مُستغربة لا بالتوقيت ولا بالحجم فقد كانت متوقعة إن لم تكن أسوأ من ذلك. ولعل من نافلة القول الإشارة إلى أن الإمارات وبالذات إمارة دبي من الدول الخليجية التي لحقها ضرر غير محسوب جراء الأزمة المالية العالمية وتبعاتها في ظل أجواء الانفتاح التي عاشها ويعيشها اقتصادها مع تسارع وتيرة المشاريع الاستثمارية التي تعتمد على التمويل من القطاع المصرفي وبالذات في المجالات العقارية، وقد اختطت لنفسها سياسة قائمة على مواجهة تبعات الأزمة المالية من خلال تشكيل فرق عمل لتولي مهام إحداث تغييرات وتطويرات الهدف منها مقاومة هذا المد من خلال تسخير إمكاناتها وقدراتها المالية والإدارية لعلاج الخلل الحاصل نتيجة لذلك، ولعل هذه الإرادة القوية والثقة بقدرتها وإمكاناتها على العمل الانفرادي من الأسباب التي دعتها إلى صرف النظر عن الوحدة النقدية الخليجية من خلال ربط العودة للوحدة النقدية الخليجية بعزوف قادة دول المجلس عن الرياض كمقر للبنك المركزي الخليجي متذرعة بطلبها استضافته منذ العام 2004، زد على ذلك، بأنها لا تحتضن أيا من المؤسسات التابعة لمجلس التعاون الخليجي. وبالنظر إلى الدور الكبير الذي تقوم به الدولة، إلا أن ما يلفت الانتباه هو الفهم الخاطئ لقدرات الدولة الخارقة على معالجة الاختلالات الاقتصادية الهيكلية بكل سهولة ويسر، حيث أدى إلى الإفراط في تنفيذ الكثير من السياسات التنموية التطويرية السريعة دون أخذ الحيطة والحذر من التقلبات الاقتصادية العالمية، فعلى سبيل المثال، وجهت إمارة دبي جُل اهتماماتها لمشاريع البنية التحتية من مبان فارهة ومكاتب وشقق لتكون بيئة جاذبة للاستثمارات الأجنبية من خلال الإفراط في الاقتراض دون الاهتمام بالقدرة على تسويقها محليا، وحتى تكون دبي الوجهة المالية العالمية المستقبلية كنموذج عالمي كهونج كونج وسنغافورة وغيرها من النماذج الناجحة ودون وضع الحسابات الكافية لما قد يطرأ من تغيرات إقليمية ودولية منها السياسية والاقتصادية. ولم تكتف بذلك، بل سارعت وبخطوات جريئة وغير مسبوقة لمعالجة آثار الأزمة المالية العالمية على اقتصادها بالرغم ما قد ينتج عن هذا من سياسات قد تكون متضادة في بعض الأحايين وما تُفرزه من خلل وفساد مالي وإداري كبير وبالتالي هدر للفُرص المالية والاقتصادية، فدعمت الاقتصاد الكلي عبر زيادة الإنفاق الحكومي لعام 2009، بالرغم من أنه لا يصل في أحسن أحواله إلى مستوى الإنفاقات في السنوات السابقة بحكم التراجع الكبير في إيرادات النفط واستنفاد جزء كبير من المُدخرات الحكومية في السياسات التحفيزية العام الماضي التي قد لا تؤتي ثمارها في القريب العاجل، وعليه فمن المؤكد وجود فجوة تمويلية كبيرة قد تؤدي إلى ضعف النمو الحقيقي للاقتصاد الإماراتي هذا العام والعام المقبل على أقل تقدير. ولاشك أن مثل هذا الوضع المالي الصعب سيُسعد كثيراً ممن يفت في عضد مسيرة التكامل الخليجي، فوجود الإمارات ضروري ضمن المنظومة الخليجية كتجربة تنموية ونهضوية حديثة ورائدة شدت أنظار الكثير من المهتمين بالتنمية حول العالم مع العلم أن الإمارات تُشكل ثاني اقتصاد خليجي وبناتج وطني إجمالي يعادل 7.198 مليار دولار عام 2007. وبغض النظر عن تحديد الأسباب لما حصل فهي واضحة وضوح الشمس في رائعة النهار، يجدر بنا التذكير بضرورة وضع استراتيجية خليجية موحدة ضمن إطار مجلس التعاون يتم بموجبها احتواء أي أزمة مالية خليجية ضمن المجلس وإيجاد حلول تكاملية لا انفرادية لها، وليس بمُستغرب أن تقوم بعض الدول الخليجية بشراء بعض أو كل الأصول المتعثرة، وتقديم المساعدات المالية والقروض مع إعادة جدولتها مستقبلا أو حتى الضمانات الخليجية للمؤسسات المالية الدولية تحت مظلة خليجية مُوحدة. حاصل ما تقدم يكشف لنا ضرورة عودة الإمارات للوحدة النقدية الخليجية حتى لا تتضرر خطواتها الطموحة ومسيرتها التنموية، وهذا ما نشاهده الآن، فقدرتها على المفاوضات الدولية الاقتصادية لوحدها سيُضعف موقفها بشكل كبير كون العمل الانفرادي غير مجدٍ في عالم التكتلات الاقتصادية، كما أن آفاق الأزمة المالية العالمية قد تبقى لردح من الزمن ولذا فقد تكون هي واستثماراتها بأمس الحاجة إلى التمويل والذي قد يأتي من أخواتها الخليجيات وعلى رأسها المملكة، يضاف إلى ذلك وجود استثمارات خليجية وبالذات سعودية كبيرة فيها ما قد يجعل هذه الاستثمارات عرضة للبحث عن أماكن أُخرى أكثر جذباً وأمناً. فهذه الأزمة وإن كان السياسيون يقللون من شأنها وتأثيراتها الاقتصادية إلا أن الواقع ينطق بغير ذلك، فالسياسة والاقتصاد لا تنفصم عُراهما بحيث إن القرار السياسي سيكون له صدى اقتصادي واسع على المَديات الثلاثة، وعليه فإن هذه الأزمة وغيرها من الأزمات الاقتصادية في المُستقبل يتحتم حلها داخل أروقة البيت الخليجي من خلال التجمع الخليجي المأمول في الاتحاد النقدي مع التأكيد على عودة الغائب عنه سيساعد، خاصةً أنها لا تمثل قدرا كبيرا بالنسبة لعوائد وموجودات الدول النفطية ولله الحمد، فمن المتوقع أن تصل عوائد النفط وحدها ما يُقارب 900 مليار دولار عام 2010 إذا بقيت التوقعات لأسعار النفط على حالها.