ما سيناريوهات نمو الطلب على النفط وأسعاره المستقبلية؟

يمر الاقتصاد العالمي منذ الربع الرابع من عام 2008 بأسوأ فترة ركود وانكماش اقتصادي مر بها منذ مطلع القرن الماضي. ومع أن الأسوأ قد مر خلال النصف الأول من العام الجاري بحسب إجماع خبراء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إلا أنهم يجمعون أيضا على أن انتعاش الاقتصاد العالمي سيأخذ شكل الحرف الإنجليزي (U)، ما يعني أن الانتعاش سيكون بطيئا نسبيا ويتطلب وقتا أطول قد يراوح بين سنة وسنتين من الآن. وهذه المعطيات تطرح أسئلة عدة عن سيناريوهات نمو الطلب على النفط في الأسواق العالمية على المديين القصير والمتوسط وتقديرات مستويات أسعار النفط المستقبلية، وهذا ما ستركز عليه هذه المقالة.

هل أصبح الأسوأ وراءنا؟
ونحن على مشارف عام جديد، تتردد على مسامع الكثير منا تساؤلات عدة أبرزها: هل أصبح الأسوأ وراءنا؟ وهل ستحافظ أسعار النفط على مستوياتها الحالية؟
للإجابة عن هذه الأسئلة لعلنا نعود بالذاكرة إلى عام 2008 الذي سيسجل على أنه العام الذي شهدت فيه أسعار النفط أكبر التذبذبات حدة، فبعدما بدأت العام عند مستويات 92 دولارا للبرميل لخامات سلة الأوبك ارتفعت إلى 141 دولارا للبرميل في تموز (يوليو) ثم تراجعت إلى 33 دولارا للبرميل بنهاية العام والتي مثلت أدنى سعر لبرميل النفط منذ عام 2004. وكان معدل سعر البرميل في عام 2008 نحو 95 دولارا لكنه تراجع منذ مطلع عام 2009 وبلغ معدله خلال الـ 11 شهرا الماضية نحو 60 دولارا للبرميل. وكان وراء تراجع الأسعار إلى تلك المستويات الأزمة المالية العالمية التي تأثرت بها كل الاقتصادات العالمية بنسب متفاوتة والتي أدت بدورها إلى ضعف الطلب على النفط الذي تراجع للمرة الأولى منذ الثمانينيات بمعدل 0.3 مليون برميل يوميا في عام 2008. ومن المتوقع وفقا لتقديرات منظمة الأوبك أن يتراجع الطلب أكثر إلى نحو 1.4 مليون برميل يوميا بنهاية عام 2009. وبطبيعة الحال كانت لهذه التراجعات انعكاسات سلبية على صناعة النفط والصناعات المرتبطة بها، حيث قادت إلى تقليص حجم الاستثمارات الرأسمالية في مجالات: الاستكشاف والإنتاج، والأبحاث والتطوير، وفرص العمل. وأمام هذه التحديات لم يكن أمام دول الأوبك من خيارات كثيرة لدعم الأسعار سوى تقليص حجم الإنتاج الذي بلغ في أعقاب قمة وهران في الجزائر في كانون الأول (ديسمبر) 2008 نحو 4.2 مليون برميل يوميا من مستويات إنتاج شهر أيلول (سبتمبر) من العام ذاته وهو الأمر الذي ساعد على تعافي أسعار النفط تدريجيا خلال النصف الأول من عام 2009. وبلغ حجم الإنتاج الجديد الذي تم اعتماده من قبل دول «أوبك» بنهاية عام 2008 نحو 24.8 مليون برميل يوميا. ومع أن نسبة الالتزام خلال عام 2009 لم تتجاوز 58 في المائة بسبب تجاوزات بعض الدول المنتجة لحصصها وفي مقدمتها إيران وأنجولا إلا أن تلك الإجراءات أفلحت في دعم الأسعار والمحافظة عليها بمعدلات تراوح بين 70 و75 دولارا للبرميل خلال النصف الثاني من عام 2009. جدير بالإشارة إلى أن إجراءات تقليص الإنتاج لدعم الأسعار التي تبنتها دول «أوبك» تم اتخاذ إجراءات مماثلة لها في صناعات سلعية أخرى مثل: الحديد، والنحاس، والقصدير، والسيارات لتحقيق قدر من الاستقرار للأسعار التي تراجعت بمستويات كبيرة ولتقليل فرص بناء مخزونات كبيرة تضغط على الأسعار مستقبلا. وتقليص دول «أوبك» لإنتاجها بهذه النسبة أسفر عنه رفع نسبة الطاقات الإنتاجية غير المستغلة (الاحتياطية) من 2.9 مليون برميل يوميا في عام 2008 (جلها في المملكة العربية السعودية) إلى نحو 6.2 مليون برميل يوميا عام 2009. لكن حسب توقعات «أوبك» فإن الطاقات غير المستغلة ستتقلص إلى أقل من ثلاثة ملايين برميل يوميا بحلول 2011 وإلى أقل من مليوني برميل في السنة التي تليها. وهذا يعني في المقابل أن الطاقات المستغلة في الـ «أوبك» ستكون أكثر من 90 في المائة بحلول عام 2012.
سيناريوهات الطلب
على النفط
يرتبط الطلب على النفط بعدد من العوامل، أبرزها معدلات النمو الاقتصادي والنمو السكاني والتنمية الاجتماعية والحضرية. وتشير تقديرات تقرير «آفاق الاقتصاد العالمي لخريف 2009» الصادر عن صندوق النقد الدولي إلى أن الاقتصاد العالمي سينكمش في عام 2009 بنسبة -1.3 في المائة لكنه سينمو إيجابيا بنسبة 2.1 في المائة في عام 2010. ومن المتوقع أن يكون النصف الثاني من عام 2009 قد شهد مرور الاقتصاد العالمي بقاع الدورة الاقتصادية وبدأ في النهوض بنهاية العام الجاري. ويتوقع أن يبدأ الاقتصاد العالمي رحلة التعافي مع دخول عام 2010، لكن عودته إلى كامل عافيته ستأخذ بعض الوقت خصوصا بالنسبة إلى مجموعة دول الـ OECD التي سيكون نمو الناتج الإجمالي المحلي فيها ضعيفا وبحدود 0.4 في المائة قياسا بالدول النامية التي ستسجل نموا يبلغ معدله نحو 4.6 في المائة في الدول النامية. ومن المتوقع أن يحقق اقتصاد الولايات المتحدة ـ المستهلك الأكبر للنفط عالميا ـ نموا إيجابيا وإن كان ضعيفا نسبيا في عام 2010 يقدر بنحو 0.5 في المائة بعد انكماش بلغت نسبته -3 في المائة عام 2009. وتخلص التوقعات إلى أن الاقتصاد العالمي سيخرج من تداعيات الأزمة المالية العالمية وحالة الركود الاقتصادي الذي أسفرت عنه بحلول عام 2012. أما فيما يخص معدلات النمو السكاني فتشير التقديرات إلى أن معدل النمو السكاني السنوي العالمي سيكون في حدود 1 في المائة سنويا خلال السنوات 2008 – 2030 منخفضا عن معدله للسنوات 1990 – 2007 الذي بلغ 1.4 في المائة. وهذا بلغة الأرقام يعني زيادة سكانية تبلغ 1.8 مليار ما سيرفع إجمالي سكان العالم بحلول عام 2030 إلى 8.3 مليار. وجل هذه الزيادة السكانية ستكون في الدول النامية ما يفسر جزئيا نمو الطلب فيها على النفط ومشتقاته لسد حاجات السكان المتزايدة من مصادر الطاقة.
ووفقا لهذه المعطيات فإن التقديرات تشير إلى أن الطلب على النفط سينشط بتعافي الاقتصاد العالمي وسيصاحب ذلك انتعاش أسعار النفط التي ستراوح ما بين 70 و100 دولار خلال العقد المقبل. ويحدد عدد من التقديرات المحافظة أن يكون سعر برميل النفط بحدود 76.50 دولار للبرميل في عام 2010. ومع أن هذه تقديرات محافظة فإن هامش الخطأ أو معدل الانحراف يبقى واردا في ضوء عوامل عدة منها مستويات المخزون الاستراتيجي والعوامل الجيوبولتيكية وسعر صرف الدولار.
ويمثل جدول (1) تقديرات نمو الطلب على النفط في الأسواق العالمية خلال السنوات المقبلة. وقراءة بيانات الطلب المدرجة في الجدول توضح ما يلي:
1- من المتوقع أن يحصل تراجع في الطلب على النفط في أسواق الدول الصناعية (دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية – (OECD والذي ستبلغ نسبته بحلول عام 2030 نحو - 8.6 في المائة نسبة إلى مستوياته عام 2008 بسبب توسع تلك الدول في استخدام الطاقات المتجددة، إضافة إلى تحسين كفاءة استهلاك الطاقة عموما.
2- النمو الإيجابي الأكبر في الطلب على النفط سيأتي من الصين ودول جنوب وشرق آسيا وستكون معدلاته نسبة إلى مستويات الطلب في عام 2008 نحو 99 في المائة و85 في المائة على التوالي. يلي ذلك النمو في الطلب على النفط في الدول النامية الأخرى والذي سيصل إلى نحو 40 في المائة نسبة إلى مستويات عام 2008.
3- عالميا سينمو الطلب على النفط بنحو 23 في المائة قياسا بمستوياته في عام 2008 وصولا إلى 105.6 مليون برميل عام 2030. وهذا يعني أنه على الرغم من ضعف الطلب في دول الـ OECD فإن النمو في الطلب في الصين ودول شرق آسيا سيغطي تلك الفجوة وستكون المحصلة النهائية نموا جيدا في الطلب على النفط في الأسواق العالمية خلال العقدين المقبلين.
من بيانات الجدول المرفق يبدو جليا أن الطلب على النفط سيعاود الارتفاع بانتعاش الاقتصاد العالمي بنهاية 2010. وعلى المدى الطويل سيرتفع مستوى الطلب العالمي عن مستويات عام 2008 بنحو 20 مليون برميل يوميا نحو 80 في المائة منه سيكون من نصيب دول شرق آسيا والصين.
ماذا يعني ذلك بالنسبة للمملكة؟
يشكل النفط في الوقت الحاضر نحو 90 في المائة من إجمالي صادرات المملكة ومن عائدات الدولة المالية وتبلغ مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي نحو 56 في المائة. وأسهمت عوائد النفط القوية خلال السنوات 2003-2008 في تحقيق فوائض كبيرة في الحساب الجاري نسبة للناتج الإجمالي المحلي بلغت نسبتها في العام الماضي 28.9 في المائة، وهي الأعلى منذ منتصف السبعينيات الميلادية. وهذه الفوائض ساعدت المملكة على تخفيض الدين العام مما نسبته 105 في المائة نسبة للناتج الإجمالي المحلي في عام 1999 إلى 13.5 في المائة في عام 2008، إضافة إلى بناء احتياطيات نقدية تقدر قيمتها بنحو 450 مليار دولار. وبفضل أسعار النفط القوية تراوح النمو الحقيقي في الناتج الإجمالي المحلي خلال السنوات الخمس الماضية ما بين 7.7 في المائة في عام 2003 و4.2 في المائة في عام 2008. ومن المتوقع أن يواصل الاقتصاد الوطني عام 2010 أداءه القوي محققا نموا يقدر بنحو 3.8 في المائة وهو الأعلى من بين معدلات نمو اقتصادات دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا باستثناء اقتصادات تركيا وقطر.
ووفقا لتقديرات وكالة الطاقة العالمية فإن عوائد دول «أوبك» الـ 12 بلغت عام 2008 نحو 965 مليار دولار كانت حصة المملكة منها أكثر من 250 مليار دولار. ومن المتوقع أن تتراجع عائدات دول «أوبك» بنهاية العام الجاري بنسبة 40 في المائة عن مستويات عام 2008 إلى نحو 575 مليار دولار، علما بأن عوائد مبيعات 11 شهرا من عام 2009 بلغت 512 مليار دولار تقدر عائدات المملكة منها بأكثر من الربع أي نحو 139 مليار دولار. ووفقا للوكالة أيضا فمن المتوقع أن تعاود عوائد دول «أوبك» الارتفاع لتصل إلى نحو 759 مليار دولار عام 2010 بافتراض سعر يبلغ 72 دولارا للبرميل ستكون حصة المملكة منها أقل بقليل من 200 مليار دولار.
وعلى المدى الطويل وتحديدا بعد عام 2016، تشير كل المعطيات إلى أن الطلب على النفط سيزداد بقوة وتتوقع بعض المراجع العالمية أن ذلك سيدفع بأسعار النفط إلى مستويات غير مسبوقة تتجاوز ما وصلته في صيف عام 2008. وما يرجح هذا الاحتمال تراجع حجم الاستثمار في مشاريع الصناعة النفطية من قبل عديد من الدول المنتجة للنفط والشركات النفطية العالمية IOC والتي تتطلب مدى زمنيا طويلا نسبيا قبل دخولها مرحلة الإنتاج يراوح عادة ما بين أربع وسبع سنوات إما بسبب ضعف الطلب وإما جفاف مصادر التمويل في ظل الركود الاقتصادي الحالي.
وتمتلك المملكة في الوقت الحاضر طاقة إنتاجية تصل إلى 11.3 مليون برميل يوميا ومن المتوقع أن ترتفع إلى نحو 16 مليون برميل بحلول عام 2025. وعلى افتراض أن الطلب في عام 2011 سيكون قويا ما يدفع المملكة لاستغلال جزء من الطاقة الاحتياطية لرفع مستوى الإنتاج إلى عشرة ملايين برميل يوميا، وبافتراض سعر 85 دولارا لبرميل النفط، فإن عائدات النفط الإضافية من هذه الزيادة ستكون في حدود 60 مليار دولار وبإجمالي عائدات سنوية تصل إلى 310 مليارات دولار في ذلك العام. ووفقا لهذا العلاقة فإن زيادة سعر برميل النفط بمقدار دولار واحد ستعني إضافة 3.6 مليار دولار للناتج الإجمالي المحلي. ومع أن هذه الافتراضات لا تأخذ بنظر الاعتبار تسابق عدد من الدول الأعضاء في «أوبك» إلى رفع حصتها الإنتاجية ما قد يسفر عنه ضخ كميات إضافية من النفط بما يضعف الأسعار، إلا أن معظم تلك الدول تنتج حاليا بكامل طاقاتها الإنتاجية، وبالتالي فإن المملكة هي الوحيدة المهيأة لتلبية ارتفاع مستويات الطلب في حينها دون ضخ استثمارات رأسمالية ضخمة تستغرق زمنا طويلا قبل أن تدخل مرحلة الإنتاج.
هذه المعطيات تجعلنا ننظر إلى المستقبل بتفاؤل حذر يقوم على أن السنوات العجاف التي مرت بنا ستتبعها سنوات سمان، بإذن الله. وهذه الرؤية يبررها أن النفط سيبقى المصدر الرئيس لما يزيد على 80 في المائة من احتياجات العالم من الطاقة، ولن يكون بمقدور أية بدائل للطاقة منافسة النفط من حيث الأسعار والجدوى الاقتصادية على الرغم من النمو السريع في مستويات إنتاج الطاقة المتجددة خلال السنوات المقبلة مدفوعة بسياسات الدعم والحوافز التي تقدمها الدول الصناعية المستهلكة للنفط.
يبقى من المهم القول إن المطلوب وضع تصور شامل للتنوع الاقتصادي الرامي إلى التقليل من الاعتماد على عائدات النفط يشمل بلورة استراتيجيات وخطط عمل تنفيذية للاستفادة القصوى من الثروة النفطية كمصدر للدخل وكمادة أولية لتطوير عديد من الصناعات التحويلية التي تتوافر لها ميزة نسبية في المملكة مثل الصناعات البتروكيماوية والكيماوية والمعدنية.. وتسريع عملية الانتقال بالاقتصاد الوطني إلى طور آخر يعطي دورا أكبر للقطاع الخاص في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ويبقى من المهم القول إن تراجع العائدات النفطية في عام 2009 لم يكن له أثر يذكر في النشاط الاقتصادي في المملكة بفضل السياسات المالية الجيدة والحزمة التحفيزية التي تبنتها حكومة المملكة لـ 2009 و2010 والتي تمثل نحو 7 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي. ومن المرجح أن تشهد فترة الـ 5 - 10 سنوات المقبلة قيام الحكومة بضخ مزيد من الاستثمارات لتحفيز القطاعات الاقتصادية وتبني عديد من المبادرات باتجاه تنويع القاعدة الاقتصادية. وما يزيد جرعة التفاؤل لدينا التزام الحكومة مطلع عام 2009 بإنفاق 400 مليار دولار في مشاريع البنية التحتية وهو ما سيكون له، بإذن الله، أثر فعال في نقل الاقتصاد الوطني خلال السنوات المقبلة إلى مدارات أرحب من النمو المستدام.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي