المراجحة الشرعية تبعد صناعة المصرفية الإسلامية عن جوهرها الحقيقي
منذ بداية نشوئها في شكلها الحديث في سبعينيات القرن المنصرم والصناعة المالية الإسلامية تسجل نمواً ملحوظاً ومطرداً تجاوز %28 في عام 2008 وفقاً لبيانات (ذي بانكر) في مسحها الذي أجرته أخيراً لتصل الأصول المتوافقة مع الشريعة إلى 822 مليار دولار حول العالم, تملكها مؤسسات مالية إسلامية تعمل بالكامل وفقاً للشريعة أو نوافذ إسلامية لمؤسسات مالية تقليدية. وهذه كلها مؤشرات رقمية جيدة, حيث استطاعت الصناعة أن تثبت ذاتها كجزء من الصناعة المالية العالمية وتلقى قبولا عالميا قبل الأزمة المالية العالمية وبعدها.
وبعيداً عن الأرقام، يرى عديد من الدراسات أن الصناعة المالية الإسلامية تواجهها تحديات متعددة تعتبر ذات أثر جوهري في كينونة الصناعة في المستقبل, ومن جملة هذه التحديات: الموارد البشرية وتأهيلها، والأطر القانونية والتشريعية التي تعمل بها الصناعة، إضافة إلى تحد غاية في الأهمية يتمثل في «المصداقية والاستدامة» كما أوردته الخطة العشرية للصناعة المالية الإسلامية التي أعدها المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع لمجموعة البنك الإسلامي للتنمية ـ جدة.
وعلنا نورد ما ورد في الخطة العشرية نصاً بخصوص مسألة المصداقية والاستدامة:
«بما أن جوهر الصيرفة الإسلامية هو الالتزام بالشريعة، فإن هذا الرابط مع عملاء البنوك الإسلامية يبقى غاية في الحساسية. إن هذا التفضيل لدى العملاء قد يفرض انضباطاً سوقياً بين البنوك الإسلامية لتقديم خدمات ومنتجات ذات مصداقية شرعية عالية»...»وبما أن المصرفية الإسلامية تجربة غير مسبوقة، فإن البنوك الإسلامية لم تمتلك أي خيار إلا البناء على تجربة المصارف التقليدية. وهذا أدى بممارسات المصارف الإسلامية إلى أن تشتمل على درجة معتبرة من التشابه مع الخدمات المصرفية التقليدية, التي هي على الطرف المعاكس بالنسبة لرؤية علماء الشريعة وربما لتوقعات العملاء» ـ انتهى الاقتباس.
وبناء عليه، يرى عديد من الباحثين والخبراء أن المنتجات المالية الإسلامية ما هي إلا نتاج لعملية إعادة هيكلة للمنتجات المالية التقليدية حتى تصبح متوافقة مع الشريعة. ولهذا كان لظاهرة الهيكلة الشرعية تأثير في طبيعة المنتجات المالية الإسلامية التي تتداول في الأسواق حالياً.
الهيكلة الشرعية وأثرها في تطور المنتجات المالية الإسلامية
يستخدم مصطلح الهيكلة الشرعية على نطاق واسع من قبل الممارسين والأكاديميين في الصناعة المالية الإسلامية للدلالة على عملية إعادة هيكلة القوانين والتشريعات والسياسات والإجراءات المتعلقة بالخدمات والمنتجات المالية التقليدية حتى تصبح متوافقة مع الشريعة. وقد أصبحت عمليات الهيكلة الشرعية تشكل «قطاع أعمال» يدر دخلاً لا يستهان به للعاملين فيه من الخبراء الشرعيين. لكن هذا القطاع بسبب طبيعته الربحية (في اعتقادي) جر الصناعة المالية الإسلامية إلى طريق ابتعدت فيه عن جوهرها الحقيقي الذي يخدم مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء.
المرابحة كصيغة لإدارة السيولة الفائضة
ولتوضيح هذا الأمر، علنا نقف على تاريخ تطور الهيكلة الشرعية من خلال ضرب أمثلة من واقع المنتجات المالية الإسلامية. وهنا لنا وقفة مع تطور صيغة المرابحة التي كان الهدف الأساسي من ابتكارها قبل ثلاثة عقود تقريباً يتمثل في إدارة واستخدام السيولة الفائضة لدى المؤسسات المالية الإسلامية وتسهيل تمويل احتياجات الأفراد والشركات. وظلت المرابحة موضع نقاش قبل إقرارها واعتماد تطبيقها من قبل المؤسسات المالية الإسلامية من خلال وضع العلماء ضوابط تحكم عملية تطبيقها ولا سيما أنها تشتمل على أكثر من عقد بين أطراف متعددة.
الهيكلة الشرعية تطول بعضاً من أسس المرابحة!
في بدايات تطبيق المرابحة، كانت المؤسسات المالية الإسلامية توكل مهمة شراء السلعة للآمر بالشراء إلى أحد موظفيها, حتى يقف على طبيعة السلعة والتأكد من أن سعرها المنصوص عليه يساوي فعلاً المبلغ الذي سيدفعه البنك أو المؤسسة المالية الإسلامية. ومع التطور فيما يسمى (إبداع) في العمل المالي الإسلامي، أصبحت عملية الشراء الأولى للسلعة تتم من خلال العميل نفسه, وذلك بتوكيله بشرائها لصالح البنك وقبضها نيابة عنه ومن ثم تحويل ملكيتها له (أي العميل) ربما بموجب التوكيل ذاته.
إن هذا التطور الملحوظ في عملية المرابحة، وإن كان ينظر إليه على أنه واقعي ويسهل الأعمال، فتح الباب على مصراعيه للتحايل من قبل ضعاف النفوس من العملاء من أجل الحصول على النقد ولو كان مبلغاً ضئيلا يضاف إلى قيمة السلعة ويتم التفاهم عليه مع البائع الأصلي.
المرابحة كصيغة للحصول على الودائع!
وأخيراً طور (المهيكلون الشرعيون) استخدام المرابحة لتصبح في حسابات الاستثمار (التي كانت على أساس المضاربة) التي يودعها العملاء لدى مؤسساتهم المالية الإسلامية (المرابحة العكسية إن جاز التعبير) بحيث يصبح العميل دائناً للمؤسسة أو البنك وفقاً لهامش (ربح) محدد ومرتبط بسعر الفائدة السائد تماماً كما هو الحال في نظام ودائع البنوك التقليدية.
وهنا يجب ألا نغفل حقيقة مفادها أن صيغة المرابحة بحد ذاتها حرفت نموذج أعمال المؤسسات المالية الإسلامية من مؤسسات تنموية اقتصادية شاملة إلى مؤسسات وساطة مالية شأنها شأن نظيراتها التقليدية. ويكفي أن نعلم أن صيغة المرابحة بحد ذاتها تشكل النسبة العظمى من محافظ البنوك الإسلامية لنستدل على أن نموذج أعمال المؤسسات المالية الإسلامية انحرف عن حقيقته.
تحول التركيز في التعامل من المرابحة إلى التورق!
وحيث إننا ما زلنا مع المرابحة، التي كانت محل انتقاد بسبب استخدامها على نطاق واسع، فلا بد من ربطها بصيغة جديدة ظهرت في السنوات الأخيرة وهي صيغة التورق الذي أصبح هو محور عمليات المؤسسات المالية الإسلامية ويشكل جزءاً شضخماً من محافظها التمويلية.
ولست هنا بصدد تحريم التورق لأن من أجازه أعلم مني قطعاً، إلا أني أود التطرق ـ كمسلم على الأقل ـ إلى آلياته ومن ثم أربطها بما يسمى (ابتكار) في الهيكلة الشرعية.
من المعلوم بالعموم أن بيع العينة محرم في منطقتنا حيث إن فيه تواطؤا من قبل البائع والمشتري من أجل الحصول على النقد الفوري مقابل نقد مؤجل أكثر قيمة. وبمفهوم المسلم البسيط أرى أن بيع العينة فيه حيلة من أجل تحقيق الهدف. وهنا جاء (المهيكلون الشرعيون) بحل للتغلب على مسألة الحصول على النقد: إنها إضافة طرف ثالث لبيع العينة بحيث يشتري الطرف (أ) سلعة من الطرف (ب) نقداً ويبيعها بيع آجل أو بيع مرابحة وبهامش ربح إلى الطرف (ج) الذي يبيعها بدوره نقداً للطرف (ب). وفي بعض الأحيان يمكن إضافة طرف رابع (د) الذي يمكن للطرف (ج) أن يبيعه السلعة نقداً.
التورق أيضاً يخضع لمزيد من الهيكلة!
وتطور الأمر مع (المهيكلين الشرعيين) ليطول (إبداعهم) التورق بحد ذاته على الرغم مما يثار حوله من جدل واسع, وعلى الرغم من تحريمه من قبل مجمعين فقهيين عالميين. فانتشرت أخيراً في الأسواق عقود ما يعرف بالوكالة بالاستثمار. وهي إضافة لحيلة جديدة على حيلة التورق تتلخص في العملية التالية:
الطرف (أ) يمنح الطرف (ب) وكالة باستثمار مبلغ معين متفق عليه. ثم يقوم الطرف (ب) بصفته وكيلا للطرف (أ) بشراء سلعة نقداً من الطرف (ج) وبموجب تلك الوكالة أيضاً يقوم الطرف (ب) ببيع تلك السلعة لنفسه بيع آجل أو بيع مرابحة مع هامش (ربح) وبعد امتلاكه السلعة يقوم ببيعها للطرف (ج) أو ربما لطرف رابع (د) نقداً فيحصل بموجبها على النقد تحت اسم (وكالة بالاستثمار).
الالتفاف على المضاربة من خلال الوكالة بالاستثمار
لقد تم هنا دمج مفهوم الوكالة مع مفهوم التورق للحصول على النقد وفق هامش ربح محدد مرتبط بسعر الفائدة, ورغم أن تسمية هذه المعاملة (وكالة بالاستثمار) تشير إلى مفهوم الاستثمار، إلا أن العملية برمتها لا تكاد تتعدى كونها عملية تمويل بالدين. وعند مراجعة عديد من العقود المبرمة فعلاً بين عدد من المؤسسات المالية الإسلامية، تبين أن هذه المعاملة بالفعل هي التفاف على المضاربة التي الأصل فيها أن يتحمل رب المال مخاطر الأعمال فيما يتحمل فيها المضارب التعدي والتقصير. وللخروج من مقيدات المضاربة الشرعية، تم التحول إلى الوكالة من خلال فرض رسوم وكالة تمنح للوكيل تقدر بحوالي 4 دولارات منصوص عليها في العقد. وهذا ما أخرج المعاملة من مفهوم المضاربة من أجل منح الوكيل أحقية التعاقد مع النفس فيقوم بالشراء كوكيل والبيع لنفسه ضمن عملية تورق واضحة المعالم. أما الطرف المانح للتمويل أصلاً (وهو رب المال هنا) فقد ضمن تحقيق هامش ربح محدد منصوص عليه في العقد بواقع نسبة معينة فوق معدل الفائدة السائد. ومن هنا أصبح رب المال ضامناً لماله وأصبح الوكيل مديناً.
الالتفاف على الوكالة لتجديد الدين مقابل زيادة في قيمة النقد الأصلية
إن تجديد معاملة الدين في البنوك الربوية تتم وفق رضى الطرفين مقابل زيادة على قيمة الدين الأصلي، وحتى يصل (المهيكلون الشرعيون) إلى منتج مشابه لذلك، قاموا بجعل الوكالة بالاستثمار المذكورة سالفاً وكالة مطلقة تتيح للوكيل حق تجديد (إعادة استثمار) التمويل لنفسه مرة أخرى دون وجود قبض حقيقي للمبلغ الأصلي من قبل رب المال، ومن البديهي أن تتم العملية الجديدة بهامش ربح جديد، وهكذا دواليك.
الهيكلة الشرعية لا تغير من الواقع غير المنطقي للمعاملة!
إن كل تلك العمليات التي أنسب حلها الشرعي للعلماء الذين أجازوها لا تغير واقعاً مفاده أن الأصل فيها هو الحصول على النقد. فهل توفير النقد هو المحور الأساسي لعمل المؤسسات المالية الإسلامية حتى يصبح يشكل أغلبية عملياتها؟ إن كان الأمر كذلك، فلماذا لا تتم تسمية الصناعة المالية الإسلامية بصناعة التورق أو بصناعة الهيكلة الشرعية للمنتجات المالية التقليدية؟ وإن كانت الحيلة (مباحة) في الهيكلة الشرعية، فإن الحيلة عادة تستخدم في حالات خاصة ولضرورة قصوى، لكن يبدو أن أعمال المؤسسات المالية الإسلامية أصبح جلها (ضرورة) بسبب اعتمادها بشكل كبير على التورق!
#2#
منتجات بعيدة عن جوهر الصناعة
لقد أدى الغلو في «الابتكارات» في الهيكلة الشرعية إلى حالة من ذوبان هوية المنتجات المالية الإسلامية في المنتجات التقليدية, ما أدى إلى ابتعاد الصناعة المالية الإسلامية عن جوهرها على مر الزمن وانحرافها عن كثير من المبادئ الأساسية التي تقوم عليها. فالوكالة بالاستثمار والتورق ومن قبلهما المرابحة بعيدة جداً عن مبدأ المشاركة في الربح والخسارة وعن مبدأ العدالة في تحمل المخاطر وتوزيع الأرباح. كما أسهمت تلك الصيغ في نشر الثقافة الترفية وشجعت على الإنفاق غير المبرر وأسهمت في ضخ السيولة للمضاربات غير المؤهلة في سوق الأسهم (على سبيل المثال), ما أدى إلى إحداث حالة من عدم التوازن بين حقيقة ما يملكه الفرد أو المؤسسة وبين الديون التي تترتب عليهما. وعندما حدثت الكارثة العالمية وما تبعها من آثار اقتصادية، كان من الطبيعي أن تكون المؤسسات المالية الإسلامية تحت أثر الانكشاف على الديون المغالى فيها شأنها شأن المؤسسات المالية التقليدية.
المراجحة الشرعية: خطر يتهدد الصناعة
يتمثل الوصف المبسط لعملية المراجحة (arbitrage) في العلم المالي بأنها شراء أداة مالية من سوق ما وبيعها في سوق آخر يكون سعرها فيه أعلى. واللافت في الأمر، أن مفهوم المراجحة مطبق أيضاً على القانون من خلال ما يعرف بالمراجحة القانونية أو التشريعية، ويتم فيها هيكلة منتج مالي معين في بلد ما تسمح فيها التشريعات بهيكلة المنتج وفقاً لما يريده مطور المنتج، ومن ثم يتم بيع المنتج في دولة أخرى لا تسمح فيها التشريعات بهيكلة المنتج أصلاً. ولعل جزر الكيمان وما فيها من تشريعات مرنة برزت كمثال الخيار الأمثل للهيكلة المالية مما جعل منها ملاذا جيدا لكثير من المنتجات المالية التي لا تسمح بلدان كثيرة بتطوير تلك المنتجات على أراضيها. ومن الأهداف الأخرى للمراجحة القانونية توفير تكلفة المنتج وترغيب المستثمرين فيه من خلال هيكلته في مناطق تتميز بقوانين تخفض تكلفة التطوير القانونية للمنتجات. وعند عكس واقع المراجحة القانونية على واقع الهيكلة الشرعية، نجد أن جزءاً كبيراً من الهيكلة الشرعية ما هو إلا عمليات مراجحة شرعية القصد الأساسي منها جعل المنتج المالي التقليدي قابل للبيع والتداول في سوق (الإسلامية هنا) لا تسمح تشريعاتها ببيع ذلك المنتج أصلاً أو تداوله، هذا إضافة إلى تقليل التكلفة المالية والتهرب من تحمل المخاطر والالتفاف على مبدأ المشاركة في الربح والخسارة.
ولتوضيح الأمر، دعونا نعود إلى مفهوم بيع العينة على اعتبار أنه منتج غير قابل للتداول في السوق المالية الإسلامية في منطقتنا. لقد تمثلت عملية (المراجحة الشرعية) هنا في إضافة طرف ثالث لبيع العينة حتى يصبح تورقاً وبالتالي يكون المنتج قابلا للتطبيق في سوق تمنعه أصلاً.
وبعد التورق، جاءت المراجحة الشرعية التي يقوم بها المهيكلون الشرعيون بإضافة عقد جديد إلى التورق (عقد الوكالة) لتقليل التكلفة وخفض المخاطر على الممول الأصلي وفتح مساحات أكبر لطالب التمويل في حرية التصرف في المال. ومن ثم أتت المراجحة الشرعية بالوكالة المطلقة بالاستثمار لتجديد التمويل أو ما يعرف بالتمويل الدوري.
أين الهدف؟
في كل التطورات التي أوضحتها الأمثلة السابقة، لا يستطيع أحد إلا أن يقول إن الهدف الأساس منها هو الحصول على النقد مقابل نقد بقيمة أعلى حتى وإن كانت في إطار من الحل الشرعي أسبغ عليها بتوقيع الهيئات الشرعية المعنية. ولا يستطيع صاحب أي عقل إلا أن يصف ما يحصل بأنه مجرد تحايل على الشريعة الإسلامية من أجل تحقيق الهدف المنشود (النقد). وفي المقابل، هناك كثير من الواقعيين الذين يجيزون مثل تلك الحيل الشرعية من باب أنها ضرورة أو من باب أنها تسد ذريعة. لكن أحجام التعامل في تلك المعاملات التي وصلت في بعض الأحيان إلى ما يربو على %68 من النشاطات التمويلية والاستثمارية في البنوك الإسلامية في إحدى الدول الخليجية في عام 2006، تفضي بنا إلى احتمالين لا ثالث لهما: إن البنوك الإسلامية تمر في تحد بالغ يفرض عليها ضرورة التعامل بأحجام كبيرة في التورق والوكالة بالاستثمار والمرابحة. والثاني، أن البنوك الإسلامية تستغل تلك الصيغ فقط من أجل حمل علامة (إسلامي) لتحقيق الربح شأنها شأن أي مؤسسة مالية تعمل في النظام الرأسمالي. وحيث إننا لا نأمل أن يكون الاحتمال الثاني صحيحاً، فإننا نتوجه إلى كل عاقل يحمل في قلبه ذرة من الغيرة على الصناعة المالية الإسلامية لينقذها من الاحتمال الأول!.