تعجيل سداد الديون بين الجزاء والمكافأة

تناولنا في مقالين سابقين غرامات التأخير، أنواعها ومشروعيتها في ضوء القانون المقارن والفقه الإسلامي. ونود في هذا المقال أن نسلط بعض الضوء على نوع جديد من الغرامات يسمى (غرامات التبكير في السداد) وقد أشار إليها الأستاذ سعود هاشم جليدان في مقاله بعنوان (مماطلة المصارف في إنهاء إجراءات شراء المديونية) منشور في جريدة ''الاقتصادية'' بتاريخ 1/12/1430هـ الموافق 18/11/2009، حيث تطرق إلى السداد المبكر للديون المترتبة للبنوك والمصارف السعودية، وأن بعض هذه البنوك ابتدع رسوماً تسمى (رسوم السداد المبكر)، واستنكر الكاتب فرض البنوك هذه الرسوم لأنها اعتبرت السداد المبكر جريمة تستحق العقوبة، ثم قال (وهناك معلومات تفيد برفض بعض المصارف السداد المبكر عن طريق مطالبة العميل بسداد كامل الفوائد أو الأرباح المستقبلية، وخصوصاً لدى بعض المصارف التي تتفاخر - ومع الأسف - بأنها إسلامية. وتدعي هذه المصارف أن مطالبتها بسداد كامل الأرباح ناتج عن كون العملية عملية شراء وبيع، وفي هذا الادعاء سوء استغلال للمبادئ الإسلامية السمحة، التي تنادي بتيسير الأمور على أهل الديون).
الواقع أن البنوك والمصارف السعودية لم تبتدع رسوم التبكير فهي قد اقتبستها من بعض الأنظمة القانونية التي تجيز هذا النوع من الغرامات، وأذكر في هذا الصدد أنه في عقد السبعينيات من القرن الماضي أبرمت حكومة دولة عربية إفريقية عقداً مع شركة أمريكية لشراء عدد من الطائرات، ونص العقد على فرض غرامة تبكير إذا سددت الحكومة أي قسط من أقساط الثمن قبل موعد استحقاقه.
وقد أثار هذا الشرط آنذاك استنكاراً واستهجاناً في الأوساط القانونية والصحافية في تلك الدولة لأن نظامها القانوني يعرف غرامة التأخير ولكنه لا يعرف غرامة التبكير. والحقيقة أنه قد استعصى عليّ حتى الآن فهم الحكمة من فرض هذه الغرامة التي يأباها المنطق السليم وتتجافى عن قواعد العدل والإنصاف. ومهما يكن من أمر ففي تقديري أن الأستاذ سعود جليدان أثار موضوعاً مهما يستحق أن يحظى باهتمام المسؤولين في مؤسسة النقد العربي السعودي. وأود هنا أن أتناوله في عجالة في ضوء بعض الأنظمة القانونية والفقه الإسلامي، فأقول بإيجاز شديد ما يلي:
أولاً: تلزم بعض القوانين الوضعية ومنها القانون المدني المصري أن يقبل الدائن السداد المبكر للدين، وتوجب في هذه الحالة أن يخصم من فوائد الدين ما يتناسب مع تعجيل سداد القرض قبل الميعاد المتفق عليه، فإذا كان القرض مليون ريال مثلاً وتم الاتفاق بين المقرض والمقترض بأن يرد المقترض القرض بعد سنتين مليوناً و100 ألف ريال ثم عجل المقترض سداد القرض بعد سنة، وجب في هذه الحالة إنقاص الـ 100 ألف ريال، وهي الفائدة مقابل الأجل، إلى 50 ألفا فقط لأن المقترض رد القرض بعد سنة لا سنتين.
ثانياً: عالج فقهاء الشريعة الإسلامية الغراء موضوع تعجيل سداد الديون الناشئة عن عقود البيع بالتقسيط والمرابحة، وهو ما يطلق عليه الفقهاء (ضع وتعجل). فأجاز بعضهم تعجيل سداد الدين - قبل حلول الأجل - مقابل ألا يؤخذ من المرابحة إلا بقدر ما مضى من الأجل استناداً إلى الحديث الشريف (ضعوا وتعجلوا). ولم يجز البعض الآخر من الفقهاء ذلك لأن إسقاط الدائن من مقدار الدين مقابل تعجيل السداد يعد من قبيل مبادلة الأجل بالدراهم أي أشبه بالزيادة الربوية المجمع على تحريمها، وتأولوا حديث (ضعوا وتعجلوا) على أنه من غير شرط مسبق أو كان ذلك قبل نزول حرمة الربا.
ثالثا: أخذ مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بالرأي الأول وفقاً لضوابط حددها في البند الرابع من قراره رقم 64/2/7 الصادر في دورة مؤتمره السادس التي انعقدت في جدة من 1 إلى 12 ذي العقدة 1412هـ الموافق 9 - 14 أيار (مايو) 1992، حيث جاء نص هذا البند كما يلي:
(الحطيطة من الدين المؤجل، لأجل تعجيله، سواء أكانت بطلب الدائن أو المدين “ضع وتعجل” جائزة شرعاً، لا تدخل في الربا المحرم إذا لم تكن بناء على اتفاق مسبق، وما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية. فإذا دخل بينهما طرف ثالث لم تجز، لأنها تأخذ عندئذ حكم حسم الأوراق التجارية).
كما نص البند السادس من القرار المذكور على أنه (إذا اعتبر الدين حالاً لموت المدين أو إفلاسه أو مماطلته، فيجوز في جميع هذه الحالات الحط منه للتعجيل بالتراضي).
ومما سبق يتضح أنه يحق للمصارف والمؤسسات المالية الإسلامية أن ترفض طلب المدين أن يسدد دينه كلياً أو جزئياً قبل موعد استحقاقه مقابل الخصم من ربحها لأنها غير ملزمة شرعاً بذلك، ولكنها إذا قبلت السداد المبكر فإن مبادئ العدل والإنصاف توجب عليها أن تخصم شيئاً من ربحها مقابل التعجيل في السداد لأن الأجل كان عنصراً جوهرياً في تحديد مقدار ربحها، وتبعاً لذلك فإنه يتعين عليها ألا تأخذ ربحاً إلا بقدر ما مضى من الأجل.
ولعل من المناسب في الختام أن أكرر الدعوة التي سبق أن وجهتها في مقالات سابقة إلى المشرع السعودي بأن يعيد النظر في التنظيم القانوني الحالي للبنوك، وأن يسن قانوناً مصرفياً جديداً شاملاً يتواكب مع معطيات الواقع المحلي والدولي، وعلى نحو يتفق مع مبادئ الشريعة الإسلامية الغراء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي