«التورق المنظم» يفاقم الانقسامات بين الفقهاء ويعزز الضغوط الخارجية
أكدت مصادر مطلعة في صناعة المال الإسلامية وجود خلافات داخلية، بدأت تخرج للعلن، بين مجموعة من الفقهاء البارزين حول منتج التورق المنظم، وذلك بعد أن انقسموا إلى قسمين بين مؤيد لتحريمه، تمشيا بقرار مجمع الفقه الإسلامي، ومجيز له.
في حين أكد مصرفي غربي رفيع وجود ما سماه «ضغوطا خارجية» تمارس على صناعة الصيرفة الإسلامية وفقهائها بشأن منتج التورق. وامتنع المصدر عن تقديم تفاصيل أكثر حول نوعية هذه الضغوط.
ويقود نظام يعقوبي، الفقيه المصرفي الأول على مستوى العالم بحسب تصنيف مؤسسة Funds@Work الاستشارية، موجة المعارضين لقرار مجمع الفقه الإسلامي.
وكان يعقوبي قد فجر مفاجأة من العيار الثقيل عندما أكد، بحسب وسائل الإعلام الماليزية، أن الـ 17 بحثاً التي ارتكزت عليها فتوى التحريم الصادرة من مجمع الفقه تكشف عن إجازة هذا المنتج بدلا من تحريمه. يقول يعقوبي خلال تبيينه الطريقة السريعة التي توصل إليها المجمع نحو قرار التحريم: «إذا كان هناك بحث تم إعداده على عجل وقُدِّم إلى المؤتمر قبل ساعة واحدة من انعقاد الجلسة، فكيف يستطيع الحاضرون قراءته؟ لاحظ أنه كان هناك 17 بحثاً حول التورق مقدمة إلى المجمع».
ويتابع في تصريحاته لصحيفة «ذي ماليزيان ريزيرف»: «لقد انتهيت من مراجعة هذه الأبحاث الآن. ومعظم من كتبوها يقولون إن التورق جائز شرعاً. وهم لا يقفون ضده. لكن لم يكن هناك وقت لقراءة هذه الأبحاث ومراجعتها أثناء الجلسة، بل إن الباحثين لم يتسنَّ لهم الوقت لتبيين ما جاء في أبحاثهم. والذين أرادوا مناقشة الأبحاث لم يتمكن الواحد منهم من الحصول حتى على دقيقة واحدة. ويواصل: «فكيف إذن نستطيع التوصل إلى قرار وإلزام الأمة الإسلامية بأسرها، التي تبلغ الآن تقريباً 1.5 مليار نسمة، بقرار من هذا القبيل تم اتخاذه على عجل؟».
يذكر أن الفقيه الماليزي الشهير محمد داود بكر ومحمد أكرم يشاطران يعقوبي في انتقاده قرار تحريم التورق المنظم الصادر من مجمع الفقه. ومما يزيد هذه الأمور تعقيدا أن هؤلاء الفقهاء الثلاثة وغيرهم مما يؤيدون موقفهم بشكل صامت يجلسون في اللجان الشرعية لأكثر من 90 بنكاً على المستوى العالم. أي أن هذه المؤسسات المالية تعمل على فتوى جواز استخدام هذا المنتج وفقا لاجتهادات هؤلاء الفقهاء الثلاثة.
وعن الاختلاف بين الفقهاء حول منتج التورق، يقول المصدر المصرفي: «هذا تطور مثير للاهتمام، وهو تطور ضروري. ليس ما نراه هو اختلاف بين المذاهب، وإنما هو خلاف واضح في الاجتهادات قائم على المصادر نفسها. اختلاف الاجتهادات في الفقه أمر طيب وصحي، طالما كان نتيجة العلم والتطبيق الصحيح لهذا العلم على المسألة موضوع البحث.
الخلاف يتسع
ردا على موقف يعقوبي، قال أحد المصادر المصرفية والذي يترأس قسم هيكلة الأدوات الإسلامية في أحد البنوك الأمريكية «إن فتوى مجمع الفقه الإسلامي كانت ممتازة وشاملة وواضحة، وهي رسالة كانت صناعة المصرفية الإسلامية في حاجة إلى سماعها. وقد أظهرت الفتوى أن أعضاء المجمع يفهمون ما يجري في السوق، ولهذا السبب كانوا صريحين في انتقاداتهم».
وتابع: «ثم يأتي فقيه بارز يتمتع باحترام واسع ويعلن أنه لا يقبل بالافتقار الواضح إلى متانة وعمق الإجراءات التي اتخذها المجمع في سبيل التوصل إلى تلك الفتوى. وأنا أتوقع أن وجهة نظر الشيخ يعقوبي يشاركه فيها عدد كبير من الفقهاء الناشطين في صناعة المصرفية الإسلامية». ويواصل: «معنى ذلك أننا الآن أمام خلاف واضح في الاجتهاد بين جهاز علمي موثوق ويتمتع بالاحترام والمكانة الرفيعة، وبين الفقهاء المتخصصين في المصرفية الإسلامية. إنني أرى أننا سنشهد ضغطاً خارجياً متواصلاً على الصناعة (من الفقهاء الآخرين، أو ربما من العامة)، وهو ضغط سيرغم الصناعة على التصرف والرد على نحو ما».
الإجراءات الداخلية
كان يعقوبي قد قال خلال جلسة خاصة له لدى أحد مؤتمرات الصيرفة في كوالالمبور: «إنه يجب على مجمع الفقه الإسلامي أن يعيد النظر في الإجراءات الداخلية في المجمع بخصوص الفتاوى الذي يصدرها حول المالية الإسلامية والأمور الأخرى». وفي بيان يتسم بالصراحة المباشرة، قال الشيخ يعقوبي، المولود في البحرين، إن المجمع يتعين عليه أن يعود إلى سابق عهده من حيث ما كان يتسم به من دقة وشمول في عملية اتخاذ القرارات.
وقال في تصريحاته الصحافية: «مصدر قلقي ليس فقط الفتوى التي أصدرها المجمع حول التورق. وإنما أشعر بالقلق حول العملية بأسرها التي يمر بها المجمع في الوقت الحاضر».
وأضاف: «لو أن المجمع يريد أن يحظى بالاحترام، كما كان في السابق، فعليه أن يعود إلى عملية التمحيص والمراجعة السليمة التي كان يتبعها في الماضي، وإلى الدقة والشمول بخصوص كل القضايا الحساسة، سواء كانت في الطب الحيوي، أو في القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية».
وحين سئل الشيخ يعقوبي عن هيئة المحاسبة، قال إن معاييرها تمر من خلال أبحاث متينة. في إشارة غير مباشرة منه إلى أن هيئة المحاسبة تتمهل في اتخاذ قراراتها، مقارنة بمجمع الفقه التي يتخذها على عجل.
وقد وصف هذه العملية بالتفصيل، حيث قال إنها تبدأ بإعداد بحث كتابي تتم مناقشته في لجان الأبحاث. بعد ذلك يتم إعداد مسودة معيار بهذا الخصوص، ثم يحال إلى المجلس الشرعي المؤلف من 15 عضواً.
بعدها يقوم أعضاء المجلس بدراسة الموضوع بعناية عند ذلك يعاد ليناقش في جلسة استماع علنية. ويستغرق العمل على كل معيار لدى هيئة المحاسبة ما بين سنتين إلى ثلاث سنوات. هذه هي السبيل السليمة للقيام بالأبحاث».
وبالعودة إلى المصدر المصرفي الذي يمتنع عن كشف هويته نظرا لحساسية الموضوع لدى الجهة التي يعمل لديها، فإن قبول رسالة مجمع الفقه حول التورق، والعمل وِفْقها، خصوصا إذا تم اتباعها حتى نهايتها المنطقية، سيكون من شأنه أن يحدث تحسنا هائلا في المصرفية الإسلامية، ومرة أخرى أقول إنه إذا تم اتباعها إلى نهايتها المنطقية، فإن من شأن ذلك أن ينتج عنه أهم وأبلغ تطور لا يستهان به في صناعة المصرفية الإسلامية منذ نشأتها. الواقع أن مضامين هذه الفتوى (يقصد الخاصة بالتورق) وآثارها ستكون بعيدة المدى بصورة هائلة».
ويتابع: «بعد ذلك سيمتد الأثر إلى الأسواق الرأسمالية، وحين نصل إلى هذه المرحلة، هذا إن وصلنا إلى هذه المسافة البعيدة، سيكون لدينا أنموذج في المصرفية الإسلامية لا يشبه من قريب أو بعيد الوضع الحالي لهذه الصناعة، وعندها فإن هذه الصناعة ستجعل العالم بالفعل يقف على قدميه ويلقي أنظاره إلى ما يحدث فيها. وسيمتد الأثر كذلك إلى صناعة التجزئة، حيث إنه لن يعود بعد ذلك بإمكان المُوْدِعين في البنوك أن يتوقعوا الحصول على فائدة على ودائعهم، بأي شكل من الأشكال».
ويواصل: «قد تقول: هل كل هذا هو نتيجة لتحريم التورق؟ والجواب: نعم، لكن فقط إذا تم اتباع هذه الفتوى إلى نهاياتها المنطقية. من رأيي أن التحديات التي تمت مواجهتها للوصول إلى هذه المرحلة ستفوق تماماً أي شيء سبق لنا أن شهدناه من قبل، ولهذا السبب فإن الأمر يتطلب التنسيق بين البنوك الإسلامية على نحو لم يسبق لنا قط أن شهدنا مثله، مع مساندة ودعم من البنوك المركزية. حتى نصل إلى تلك المرحلة، لا بد من أن تتغير أمور كثيرة للغاية في الصناعة، وكل جزء ولو كان صغيراً من هذا التغير سيكون نحو الأفضل. وأقول إن التحديات هي فعلاً تحديات عظيمة.
ويختتم حديثه قائلا: «لهذا السبب لا يمكن تحقيق التقدم إلا إذا تم اقتلاع الأساس الذي تقوم عليه الصناعة بكامله وتم استبداله بشيء أفضل. وهذا يعني أنه سيكون هناك عدد كبير من الأصوات التي ستعترض على ذلك، وهذا من شأنه إعاقة التقدم المطلوب (وربما إعاقته بصورة نهائية قاضية). من المؤكد، ولا شك في ذلك أبداً بالنسبة لي، أن من الواضح أن هذا النوع من الجدل حول التورق يصل في الواقع إلى قلب كل شيء في المصرفية الإسلامية، وهذا هو السبب في أن هناك الكثير من الاعتراض والرفض نحو فتوى مجمع الفقه الإسلامي حتى الآن».