لماذا نكتب؟

يسألني الأبناء والبعض من الأصدقاء والزملاء والأقارب هذا السؤال كثيراً، لماذا تكتب؟ ويكون هذا السؤال أكثر إلحاحاً إذا اعتذرت عن مناسبة أو اجتماع بحجة كتابة مقالي الأسبوعي، والحقيقة المرة أنه يصعب على الكاتب أن يجد إجابة جاهزة محددة عن هذا السؤال!!
لا أقصد بهذا السؤال تفاصيل الموضوعات وفروع الغايات والشكاوى والمطالب، ولكن الذي يعنيني هو الباعث الأساسي للكتابة، فهناك من يكتب رغبة في الكتابة وحباً لنشر ثقافته وفكره، وهناك من يكتب حبا في الشهرة والظهور، وهناك من يكتب حرصاً على الثناء والمديح، وهناك من يكتب دفاعاً عن الغير وانتصاراً للحق ودفعاً للظلم، وهناك من يكتب لكسب الآخر أو التزلف لمسؤول، وهناك من يكتب ليكتسب من وراء كتابته، وهناك من يكتب وهو يعرف أنه قد يسجن ويعاقب نتيجة لما كتب، وتطربني مقالة بنجامين فرانكلين: ''إما أن تكتب شيئا يستحق القراءة أو أن تفعل شيئا يستحق الكتابة''.
وأنا بدوري أطرح هذا السؤال إلى أصحاب الأقلام والزوايا، وكتاب الرأي، وكل مهتم بالثقافة والفكر أيا كان تخصصه.. فلماذا نكتب؟ وهل ما نكتبه يستحق القراءة؟
ولما كنت أكتب في الشأن الاقتصادي بمفهومه الشامل، فقد تمحورت كتاباتي في دائرة صغيرة كان محورها دائما ''الاقتصاد''، وكلما تعمقت ممارستي للكتابة اتسعت هذه الدائرة، حيث شملت دائرة الكتابة الكثير من العلاقات المعقدة بالاقتصاد، وبالتالي تنوعت مجالات الكتابة، فسوق المال ونشاط الأسهم ليسا المجال الأوحد أو الأبرز للكتابة الاقتصادية، فقد تشعبت العلاقات، فالحلال والحرام مرتبط بالاقتصاد، والأداء الحكومي مرتبط بالتنمية الاقتصادية، والفساد الحكومي والأهلي مؤثر أساسي في حياتنا الاقتصادية، والتوظيف والسعودة ذوا أثر فعال سلباً وإيجاباً على أداء القطاع الخاص، والإدارة والقيادة سبب للنجاح والفشل الاقتصادي، ثم إن كل ما يؤثر في حياتنا الاجتماعية له أثر اقتصادي ابتداءً من الولادة وانتهاءً بالموت مرورا بالزواج، والأبناء، والتعليم، والصحة، كلها أحداث تؤثر وتتأثر بالشأن الاقتصادي، وبذلك يتحول الكاتب الاقتصادي إلى كاتب رأي.
لا أدعي أنني أحد رجال الإعلام الأشاوس، أو أحد محرري الفكر والرأي، ولكن مجرد نشر مقال لك في إحدى الصحف، أو ظهورك في قناة فضائية، سيكون مدعاة لمن يعرفك حتى من لا يعرفك بأن يطالب ويقترح الكتابة والحديث في المجال الفلاني أو القضية العلانية، وهذه ضريبة يجب أن يتحملها كل من مارس الكتابة، كان ذلك على سبيل الهواية أو الصنعة.
ويجادلني بعض قراء مقالاتي عندما أفاجئهم بمقولتي ''إنني أعتز بأنهم يقرأونني''، فيقولون نحن لا نقرأك ولكن نقرأ لك، وهذا هو الأمر الأبرز في الكتابة، خاصة الكتابة المنتظمة، فالكاتب عندما ينشر ما خطه يراعه فهو يقدم على عمل جلل، وهو عرض نفسه وعقله على جمهوره، وبذلك فهو يكشف عن عيوبه، وعما ستر الله من رأي، وفكر على عباده، فهو من جهة تعرى أمام الجماهير من الناحية الفكرية، ومن جهة أخرى، قد أبرز للناس ما يتيح لهم التعامل معه وقراءته على حقيقته وواقعه، ويجب أن يتذكر الكاتب أن أفكاره التي كتبها لم تعد ملكاً له بعد نشرها فقد وهبها للقراء.
والكتابة بشكل عام أمر مرهق فكيف عندما يلتزم الكاتب بعمود يومي، وإن كان ذلك يسهل ويصعب وفقاً لمهارات ومواهب الكاتب وأعماله الأخرى، أما أنا فأرى أن صاحب العمود اليومي يقوم بأعمال شاقة من الناحية الفكرية، ولأنني لا أستطيع القيام بالكتابة اليومية، وقد يكون سبب ذلك قلة في المهارة أو ضعفا في الموهبة أو مزاحمة الوقت أو لتجمع ذلك كله، فقد آثرت الكتابة الأسبوعية، ومع ذلك يجب علي بذل جهود كبيرة للوصول بالمقال إلى المستوى الذي أعتقد أنه يرضي القارئ.
والقضية ليست مسألة الكتابة فقط، ولكن فكرة المقال هي العقدة التي يجب أن تبدأ كنواة للعمل، يلي الفكرة اختيار أسلوب الكتابة المطلوب جدياً أم ساخراً؟ علمياً أم أدبياً؟ ثم يتيه الكاتب لجمع الحقائق والشواهد والاستشهادات، ثم يبحر في كتابة المقال ومراجعته، والحذف، والإضافة، ثم الاختزال ليتناسب مع عدد الكلمات المتاحة له في المقال والمتفق عليها مع المطبوعة، وأخيراً يبحث عن عنوان معبر جذاب للمقال وفي بعض الأحيان يكون العنوان أشبه بالوحي الذي يأتيك قبل كتابة المقال أو في منتصفه أو قبل الانتهاء منه.
والكتابة انتقائية مثل معظم الصنائع الأدبية والبشرية، بمعنى أن الكاتب ينتقي الموضوع الذي يرى أنه أهم من غيره، وينتقي الحقائق، وينتقي الأشخاص، وينتقي الأحداث، وينتقي الأدلة والشواهد، وينتقي الحلول المناسبة... إلخ، وهذا ما يجعل الكتابة نتاجا فكريا قابلا للأخذ، والرد، والجدل، والحوار، والكاتب يوجه رسالته للقراء من البشر، فيجب أن يتوقع الاختلاف قبل الإعجاب، والرفض قبل القبول، وأستشهد بالأبيات التالية التي لا أعرف قائلها:

ضحكت فقالوا ألا تحتشـم
بكيت فقالـوا ألا تبتسـم
بَسَمْتُ فقالوا يُرَائِـي بهـا
عَبَسْتُ فقالوا بدا ما كتـم
صَمَتُّ فقالوا كَلِيلُ اللسـان
نطقت فقالوا كثير الكلـم
حَلُمْتُ فقالوا صنيع الجبـان
ولو كان مُقتـدِرًا لانتقـم
بَسِلْتُ فقالوا لِطَيـشٍ بـه
وما كان مجترئًا لـو حكـم
يقولون شَـذَّ إذا قلـت لا
وَإِمَّعَـةٌ حِيـنَ وافَقْتَـهُـمْ
فأيقنـتُ أنّـيَ مهمـا أُرِدْ
رِضَى الناس لا بُدَّ مِنْ أنْ أُذَمْ

وبالتالي فالكاتب يجب أن يكون قابلاً للرأي الآخر، والنقاش، والجدل حول ما يكتب، وإذا لم يتمتع بهذه الصفة وبالروح الرياضية للحوار، والاختلاف فليبحث عن أي مجال آخر ليبدع فيه، ويتحدث فيه مع نفسه.
ولأن الكاتب صانع للرأي والفكر، فالكاتب المخلص يضع الله نصب عينيه، ويتعامل بالصدق مع القراء والأمانة معهم كمنهج لا ينبغي الحياد عنه، ومن أبرز ما يجب أن يتمتع به الكاتب المخلص نقل الحقائق المجردة، والابتعاد عن الهوى، وتلافي الكتابة فيما فيه مصلحته المجردة، والحياد في الاستدلال، وذكر المحاسن، والعيوب بتجرد، وبهدف الوصول إلى الحق، وشكر المحسنين حتى لو لم يتفق معهم، والابتعاد عن النفاق شكلاً وموضوعاً، ويجب أن ينتهج الكاتب المخلص منهج الرجوع للحق، فهو خير من التمادي في الباطل، وأهم من ذلك كله إن على الكاتب أن يعلم أنه سيحاسب أمام الله ـ عز وجل ـ على كل مقال كتبه، وكل كلمة خطها قلمه، وسيقف أمام من لا تخفى عليه خافية مدافعاً منافحاً عن كل رأي، أو فكرة، أو اقتراح، أو مديح، أو قدح، أو ذم، أو فتوى، أو معلومة، ولن يشفع له رضا القارئ أو المسؤول، أو رئيس التحرير آنذاك إذا لم يكن مقروناً برضا الله ـ سبحانه وتعالى.
ولا يثير غيظ الكاتب أكثر من نقد شخصي على مقاله أو اعتراض غير مبرر على ما قاله، أو قص مقص الرقيب لجزء مما كتب أو منع كامل لمسؤول في التحرير للمقال الذي كتب.
وإجابة للسؤال الذي بدأته وهو عنوان هذا المقال: لماذا أكتب؟ حقيقة إن السبب الوحيد الذي أجده للكتابة هو ''التنفيس''، فأنا أكتب لأتنفس بعمق.. فإذا انقطعت عن الكتابة أحسست بأن أزمة ربو بدأت تتشكل في عقلي وفكري تكاد أن تخنقني، لا يخفف أثرها سوى كتابة مقال أو نشر كلمة أو كلمة حق تكتب أو تقال.
ومن أجمل ما قرأت إجابة على نفس السؤال ''لماذا أكتب؟'' ما قاله باجين فقد قال ''أمارس الأدب لكي أغير حياتي، وبيئتي وعالمي الفكري''، في حين قال سايفرت: ''أكتب ربما تعبيراً عن الرغبة الكامنة في كل إنسان في أن يخلف وراءه أثرا''، وقد أعجبني مقالة جورج أمادو: ''أكتب لكي يقرأني الآخرون، ولكي أؤثر فيهم''، بينما يصرح توفيق الحكيم: ''أكتب لهدف واحد هو إثارة القارئ لكي يفكر''، ولكن الإبداع يكمن في قول محمود درويش: ''أكتب لأني بلا هوية، ولا حب، ولا وطن، ولا حرية''.
أخيراً.. يقول جين فولر ''الكتابة سهلة، ما عليك سوى الجلوس والبدء بصفحة بيضاء حتى تتكون نقاط الدم على جبينك'' وأزيد أنا وأقول قد يتجلط الدم، وأنت لم تبدأ في الكتابة بعد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي