عودة الغلاء!!
الناظر إلى الأوضاع العالمية بعد الطفرة النفطية الأخيرة يلحظ التغير الدراماتيكي في مستويات الأسعار في جُل البلدان، وبالأخص أسعار السلع الاستهلاكية. في السبعينيات الميلادية وصل التضخم في المملكة إلى مستويات مرتفعة، وعزا أهل الاقتصاد والخبرة هذا الارتفاع إلى التغير في أحد مُكونات الطلب الكلي، وهو فرط الإنفاق الحكومي في ذلك الوقت. البنية التحتية كانت شبه معدومة والتخطيط كان في بداياته ولهذا أخذت الدولة على عاتقها سرعة إنجاز المشاريع التنموية الطموحة بالرغم من أن الطاقة الاستيعابية كانت محدودة جداً وأدت في النهاية إلى مستويات أسعار غير مسبوقة.
وتتجه أغلب النظريات في وقتنا الحاضر إلى تفسير التضخم بفرط الطلب الكلي على السلع والخدمات، فلو زاد الطلب الكلي على العرض الكلي فإن هذا سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار، ومن ثم تضيق الفجوة بينهما مع ارتفاع الأسعار حتى تزول تماماً. بالمفهوم البسيط الزيادة في كمية النقود لا تساويها زيادة في السلع والخدمات وفي هذه الحالة تصبح القيمة الحقيقية للنقود مخالفة للتغير في المستوى العام للأسعار، وبناء على هذا فالتضخم مرتبط بالدخل ويؤثر فيه. غير أنه من الممكن تحديد أحد أسباب التضخم بالزيادة غير المرغوب فيها بكمية النقود، بحيث تؤدي إلى الارتفاع في الأسعار من خلال طرق متنوعة كزيادة الإصدار النقدي او خلق الائتمان المصرفي، وهذه في الحقيقة تفسير نقدي للتضخم. يشار إلى أن قاعدة الذهب فيها من القيود ما يكفي للمحافظة على الإصدار النقدي وبما يتناسب مع موجودات البنك المركزي من الذهب وعلى هذا فإن كان هناك فائض في ميزان المدفوعات فسيؤدي إلى حدوث تضخم نتيجة لزيادة النقود المتداولة. أما التوسع في إصدار النقود الورقية والائتمانية كنتيجة للتوسع في المشاريع التنموية فسيؤدي في النهاية إلى زيادة المعروض النقدي ومن ثم التضخم. بيد أن هناك أكثر من سبب للتضخم غير زيادة المعروض النقدي كارتفاع تكاليف الإنتاج، اتباع سياسات حكومية معينة تؤدي إلى انخفاض أسعار الفائدة، وبالتالي زيادة الاقتراض ومن بعد الزيادة في الإنفاق، أو تمويل عجوزات موازين المدفوعات من خلال الاقتراض من البنك المركزي، وتكون الأموال الساخنة المضاربة التي تدخل بحركة سريعة ثم تغادر أحد الأسباب المؤدية للتضخم.
وقبل الأزمة المالية العالمية، مر عالمنا بفترات من التحسن والانتعاش الاقتصادي على المستوى الكلي نتيجةً لزيادة الإنتاج وتحسن الدخول وقد أدى هذا إلى زيادة الطلب العالمي على مختلف السلع الصناعية والزراعية، ماأدى إلى حصول نقص شديد في المعروض كانت نتيجته ارتفاع الأسعار على المستوى العالمي، ولكن بعد أن حدثت الصدمة المالية العالمية منذ أكثر من عام ونصف، شهد العالم تراجعات في الطلب الكلي على كافة السلع وبالذات السلع الصناعية وخلال هذه الفترة بدأت الأسعار في التراخي وكانت نتيجته إمتصاص الأسواق للفائض من السلع بكافة أنواعها وأشكالها. الطريف في الموضوع أن معدلات البطالة مازالت مستقرة حول معدلاتها المرتفة فعلى سبيل المثال، كان معدل البطالة في مجموعة دول التعاون الاقتصادي والتنمية OECD 8,8 في المائه تشرين الثاني (نوفمبر) 2009، أي 1,2 في المائه أعلى من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) لعام 2008م، أما في منطقة اليورو فقد كانت في حدود الـ 10 في المائه لشهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2009، اي بزيادة مقدارها 2 في المائة مقارنة بشهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2008. وفي اليابان فهي 2,5 في المائه للفترة نفسها أي بزيادة مقدارها 2,1 في المائه مقارنة بشهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2008، وفي الولايات المتحدة كانت في حدود الـ 10 في المائه كانون الأول (ديسمبر) 2009 بزيادة مقدارها 6,2 في المائه بالمقارنة بشهر كانون الأول (ديسمبر) لعام 2008. يجدر بنا الإشارة إلى أن مؤشر أسعار المستهلكين CPI في منطقة اليورو قد ارتفع بمقدار 3,1 في المائه إلى شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2009. لقد انصبت المجهودات الدولية على معالجة آثار الأزمة المالية العالمية وقدمت الدول الكثير من التسهيلات المالية للقطاع المصرفي ليقوم بدوره المطلوب من أجل العمل على وقف التدهور المالي والاقتصادي من خلال محاصرة البطالة والانكماش الاقتصادي وإعادة الثقة إلى الأسواق المالية. ونظراً لأهمية الدور الذي يقوم به القطاع الصناعي بالدرجة الأولى فقد احتل مكانته على خريطة الدعم الحكومي لكن الأرقام التي رشحت من الدول الصناعية على وجه الخصوص تشير إلى أن الإنكفاء الإنتاجي لايزال حاضراً وقد يحتاج لمزيد من الوقت ليعود إلى سابق عهده. بيد أن النتيجة ستكون مزيدا من البطالة ومزيدا من الانخفاضات الإنتاجية ومع بقاء عوامل الطلب الدولية على حالها فسيكون هناك ارتفاعات مستقبلية في أسعار السلع الزراعية والصناعية بخاصة. ضعف التمويل، الإفلاسات، الاندماجات، وتسريح العمالة ستكون حاضرة لعام 2010 و2011. وعلى الرغم من معدلات النمو الدولية المتواضعة، فلاغرابة من حصول موجات تضخمية مستقبلية على المستوى الدولي. لا استثناء لدولة، وعليه فالدور الرقابي الذي تقوم به وزارة التجارة لن يجدي نفعاً في ظل الانفتاح الاقتصادي على العالم، ما لم يكن هناك اهتمام شعبي بالتوجه الجاد إلى البدائل المتاحة والنظرة الحكومية الجادة بموضوع الربط بالدولار.