فقهاء الوزن الثقيل جمعهم هاجس تطوير صناعة المال الإسلامية وفرقهم الاجتهاد

فقهاء الوزن الثقيل جمعهم هاجس تطوير صناعة المال الإسلامية وفرقهم الاجتهاد

بعد أن أشعل شرارة إصلاح سوق الصكوك العالمية، يقف العلامة الباكستاني عثماني على عتبة إعادة كتابة التاريخ نفسه. فعندما يتعلق الأمر بإزالة المخالفات الدينية التي كانت ترتكب باسم الدين، فإن فقيه «كراتشي» لا يتردد في الوقوف في وجه زملائه في المهنة من الفقهاء قبل البنوك التي تحاول ثنيه عن قراراته. ووجد محمد تقي عثماني نفسه في دائرة الأضواء بعد أن أمضى على فتوى تحريم التورق المنظم. فأعضاء مجمع الفقه الإسلامي يتكونون من نحو 70 فقيها من جميع الدول الإسلامية. حيث يعد عثماني الوحيد الذي يحظى بعضويتين. فهو ممثل لدولته باكستان لدى مجمع الفقه ويرأس في الوقت نفسه المجلس الشرعي لهيئة المحاسبة والمراجعة في البحرين.
وبالرغم من أن هيئة المحاسبة قد أصدرت منذ سنوات قليلة فتوى إجازة التورق المنظم، فإن ذلك لم يمنع العلامة الباكستاني الشهير من «الترفع» عن «تضارب مصالح عمله» في هيئة المحاسبة، وأفتى بتحريم التورق المنظم لدى مجمع الفقه. وعندما أبلغته «الاقتصادية» هاتفيا بأن بعض البنوك بدأت في تبني فتوى مجمع الفقه حول التورق المنظم، وصف عثماني، الذي كان على وشك مغادرة باكستان للمشاركة في منتدى دافوس العالمي، وصف البنوك التي «أزالت التورق المنظم» من رفوفها «بأن تلك الخطوة جديرة بالثناء». في حين وصف البنوك التي أبقت على التورق المنظم ولم «تلجأ لأي وسيلة أخرى بأن ذلك يعد بالأمر الأسوأ».

بصمة أزمة الصكوك

تعد فتوى مجمع الفقه بمنزلة الصدمة القوية الثانية خلال سنتين والتي سببت نكسة لصناعة المصرفية الإسلامية. وقد اهتزت الصناعة بعنف في أعقاب الفتوى الأولى الصادرة في عام 2008 من هيئة المراجعة والمحاسبة للمؤسسات المالية الإسلامية، والتي قالت فيها إن التعهدات بإعادة الشراء، والموجودة في عقود كثير من الصكوك (التي تتعهد بشراء هذه الصكوك بقيمتها الاسمية عند تاريخ الاستحقاق) مخالفة للأحكام الشرعية وبالتالي فهي باطلة شرعاً.
بعدها تعرض عثماني لوابل من الانتقادات كان أقصاها وصفه «بالمتآمر» لإذابة سوق الصكوك، وذلك لمجرد أنه تجرأ بالإشارة إلى هياكل الصكوك «غير الإسلامية»، أي المحرمة بلهجة أشدّ، والتي كانت تتفشى في نسيج صناعة المال الإسلامية.
وكانت صحيفة «الفاينانشيال تايمز» اللندنية قد وصفت عثماني «بصاحب المعروف» الذي عمَ به قطاع الصيرفة، حيث قالت في حينها «ولكن معظم المصرفيين والمحامين العاملين في الصناعة يرون أن رئيس المجلس الشرعي لهيئة المحاسبة والمراجعة ربما يتضح أنه قدم إلى السوق»، معروفاً كبيرا حين أوضح منذ الآن وليس بعد نوعية السندات المقبولة في أعين الفقهاء من أهل السنة والجماعة.

بروفيسور ينتقد الفقهاء

بالرغم من أن صداقته مع عثماني تجاوزت 35 عاما، فإن ذلك لم يمنع يوسف طلال ديلرنزو، أحد أكبر فقهاء أمريكا الشمالية وأكثرهم تأثيرا في الصعيد المصرفي، أن يعرب عن تحفظه للفتوى التي أجازها عثماني. حيث أعلن الفقيه الأمريكي عبر»الاقتصادية» في الأسبوع الماضي انضمامه إلى جانب نظام يعقوبي بعد أن كشف الأخير حيثيات صدور الفتوى المستعجلة من مجمع الفقه. وبذلك يصبح ديلرنزو الفقيه الثالث من هيئة المحاسبة الذي ينضم إلى جانب يعقوبي ومحمد داود بكر والذين يشككون في فتوى تحريم التورق المنظم الصادرة من مجمع الفقه.
وفي تعليقه على ما ذكر أعلاه، قال محمود الجمل، أستاذ كرسي التمويل الإسلامي في جامعة رايس في هيوستن: «هذا أمر مضحك لكنه يبعث على الأسى. الشيخ نظام والشيخ يوسف يلومان الفقهاء على التسرع في إصدار الفتوى القائلة إن التورق المنظم حرام وغير جائز شرعاً.
لكن حسب علمي فإن الشيخين، إضافة إلى الشيخ عثماني وبقية «فقهاء الصناعة» يبدو أنهم لم ينتبهوا كثيراً إلى ما إذا كانت الأشكال التقليدية من القروض المؤمنة (مثل تمويل القروض العقارية) هي من الربا المحرم. فهنا قد ينقلب منطقهم عليهم أنفسهم، خصوصاً أنه على ما يبدو فإنهم يريدون من العميل أن يبتعد عن تعاملات القروض المؤمنة (مثل القروض العقارية) وأن يدخل بدلاً من ذلك في شراء الألمنيوم بالدَّين ثم يبيعه مرة أخرى مقابل الحصول على مبلغ نقدي للاستفادة منه في شراء (أو إعادة تمويل) العقار بتكلفة أعلى».
ويتابع: «إذا كانت تعاملات القروض المؤمنة هي قروض ربوية، فلا بد أن يكون هذا «التورق المنظم» حتى أكثر ربوية من القروض المؤمنة، لأن التكلفة أعلى، وهو في الواقع أقرب إلى القروض غير المؤمنة التي يتم فيها الحصول على المبالغ النقدية مقابل سعر فائدة معين، أقرب منه إلى تعاملات القروض العقارية، والتي تخلو تماماً من القروض التي تتم بطريقة الحصول على المال مقابل المال».

الفتوى التي قسمت الصناعة

يرى مجمع الفقه أن التورق يكون جائزا شرعاً ضمن سياق محدود، وهو التعاملات لمرة واحدة بين الأفراد، شريطة أن يكون هناك التزام تام بقواعد البيع الشرعية.
في حين أن التورق المنظم والتورق العكسي غير جائزين شرعاً. فقد اعتبر المجمع هذا النوع من التعاملات على أنه «حيلة» للحصول على المال النقدي مقابل دفع قدر أكبر من المال في فترة لاحقة، وهو أمر محرم في الإسلام.
ويعرَّف التورق المنظم على أنه شراء سلع من أسواق محلية أو دولية، ثم بيعها لاحقاً (على أساس الدفع المؤجل) إلى الزبون. بعد ذلك يقوم البائع (بصفته وكيلاً عن الزبون) ببيع السلع فوراً (إلى شخص يجب أن يكون مختلفاً عن الموّرِّد الأول) مقابل سعر أدنى من مبلغ الدفع المؤجل المستحق من الزبون. تكون النتيجة أن الزبون يحصل على مبلغ نقدي لتسيير أعماله أو أغراضه الشخصية.
والتورق العكسي هو نفسه التورق المنظم، لكن الاختلاف بينهما هو أن المشتري في التورق العكسي هو مؤسسة مالية في حاجة إلى السيولة. فإذا تم سحب التورق بصورة مفاجئة، فإن من شأن ذلك أن تكون له نتائج غير إيجابية، لأن كثيراً من العاملين في التمويل الإسلامي يستخدمون هذا الهيكل بصورة روتينية كوسيلة لإدارة السيولة، ولإعطاء عملائهم تسهيلات لرأس المال العامل.

يعقوبي والرسالة الواضحة

أتذكر جيدا المرة الأولى التي سمعت فيها الشيخ يعقوبي وهو يتحدث أمام جمهور من الحاضرين، فقد عرَّفه المسؤول عن الجلسة بأنه فقيه يستخدم دائماً أوصافاً حية وبهيجة لمبادئ المصرفية الإسلامية (وكان يقصد بذلك أن يقول إنه كان غامضاً).. لكن حين يأتي الوقت للدفاع عن التورق المنظم فإن رسالة الشيخ تكون موجزة وواضحة. بهذه العبارات فضل برناردو فيزكاينو المدير التنفيذي لشركة AMSAR للاستشارات الشرعية للمنتجات المصرفية، وصف الموقف الحرج الذي تمر به صناعة الصيرفة مع منتج التورق.
وحين لا يكون يعقوبي مشغولاً بتقديم المشورة حول صفقات بمليارات الدولارات، فإنه يصدر فتاوى حول شؤون الحياة اليومية مثل الطلاق والخلافات العائلية. وتخلى الفقيه البحريني عن نمط من الحياة يدور حول الإفتاء والتدريس حين وافق على الإشراف على أحد البنوك الإسلامية بناء على طلب من أحد أصدقائه في عام 1989، وهو قرار عمل على تحويله «مصادفة» إلى إحدى الشخصيات القوية في عالم التمويل الإسلامي.
ويعزو مراقبون في صناعة التمويل الإسلامي تطور الصيرفة الإسلامية خلال أعوامها الأولى الماضية إلى الـ «20 فقيها» أو من يعرفون «بالشيخ عثماني وزملائه»، بمن فيهم الشيخ القري ويعقوبي وديلورنزو، الذين كانوا يقدمون النصح والمشورة لعدد من البنوك، مثل HSBC و»سيتي جروب». ومن خلال عمل البنوك مع هؤلاء الفقهاء أنشأوا معا سوقاً قيمتها 60 مليار دولار من الصفر تقريباً قبل عقد من الزمن.
ويبقى السؤال معلقا حول كيفية إيجاد الصناعة أرضا مشتركة تلملم بها جروحها التي تولدت من قضايا الاجتهاد في المنتجات المصرفية والتي من دون شك تعطي صورة مشوهة للصناعة نفسها.

الأكثر قراءة