مصافحة ولكن!

كنت أحد المشاركين في مؤتمر ميونخ للأمن وكنت قريبا من الأمير تركي الفيصل لا يفصل بيني وبينه خمسة اشخاص، وكنت على معرفة بالوفد الاسرائيلي وبالباحثين الإسرائيليين المشاركين بحكم عملي في مراكز الدراسات الأمريكية وبحكم إجادتي اللغة العبرية، وعلى معرفة بدانيال أيالون الشخصية الإسرائيلية التي تحب إثارة التساؤلات وجلب الانتباه، والضجيج الإعلامي، لكنه بالطبع شخصية فجة وأبعد ما يكون عن الدبلوماسية، وأعتقد أن كادره الدبلوماسي حاول جهد إمكانة أن يكون هو والفيصل على منصة واحدة لكنه فشل، وحاول الاصطياد في الماء العكر والإساءة للمملكة، والطبع الاساءة التي كان أيالون يرغب فيها هدية سيقدمها بالطبع للإعلام الغربي واللوبي الإعلامي اليهودي، لكن ذكاء الفيصل أحبط مخططات أيالون لا بل أظهره تافها عندما طلب منه مراجعة استخبارات بلاده لمعرفة حجم الدعم السعودي للأشقاء الفلسطينيين، ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل حاول أيالون إحراج الفيصل بطلبه السلام عليه وعلى المنصة لكن حكمة الفيصل ودهاءه كانا حاضرين عندما طلب من لأيالون السلام عليه في مكانه بين الحضور، الأمر الذي أربك أيالون وهب للمصافحة.
بالطبع صافح الأمير تركي الفيصل نائب وزير خارجية إسرائيل دانيال أيالون، وهي المصافحة التي سخنت أجواء المؤتمر، لكنها في نهاية الأمر كانت مجرد مصافحة لن تغير في الثوابت التي تنطلق منها الرياض، وربما لن تغير كثيرا في مواقف تل أبيب المعادية لفكرة السلام في الإقليم، كانت مصافحة بين شخص رسمي ونائب وزير الخارجية وبين أمير يرأس مجلس إدارة مركز للدراسات والأبحاث في بلاده. تحدث الأمير تركي الفيصل في الجلسة الأولى التي جمعته مع وزير خارجية تركيا ومستشار من وزارة الخارجية المصرية، وفيها قال الأمير تركي كلاما متوازنا يعبر أفضل تعبير عن الإجماع العربي الرسمي الذي يقف خلف مبادرة السلام العربية. حديث الأمير لم يكن مفاجئا إذ ينسجم مع مواقف الرياض المعروفة في مختلف ملفات الإقليم. لكن المفاجأة تلت جلسة الأمير عندما صعد نائب وزير خارجية إسرائيل وتحدث بشكل اتهامي عن السعودية على وجه التحديد وأيده إلى حد ما السناتور اليهودي جو ليبرمان الذي انتقد عزل دانيال أيالون من الجلسة. وهو الأمر الذي استدعى توضيحا من الأمير تركي الذي قال إن وزير خارجية تركيا كان وراء الموقف، وذلك بسبب مواقف أيالون الفظة مع سفير تركيا، كما أن الأمير ركز في تعليقه على أن اتهام أيالون السعودية بأنها لا تقدم دعما للأشقاء الفلسطينيين هو غير صحيح ولا يتسق مع تاريخ السعودية في مد يد العون للفلسطينيين في مختلف مراحل صراعهم. وكان حديث الأمير مفحما، ما حدا بأيالون تحدي الأمير تركي بطلب المصافحة العلنية! كان بإمكان الأمير تركي أن يرفض، وربما هذا ما كان يأمله الإسرائيلي حتى يظهر للعالم أن العرب لا يتقنون لغة الحوار. في رأيي فقد تمكن الأمير تركي من تفويت الفرصة على دانيال أيالون وقبل الأمير تركي التحدي وصافح دانيال أيالون، غير أن الأخير هو من خسر مرة أخرى! فالمصافحة لا تعني أن السلام تحقق ولا تعني أن العمل تطبيعي وذلك للحيثيات التي تمت بها المصافحة. كانت إسرائيل تتعمد أن تكون جزءاً من أي تجمع عالمي أو إقليمي حتى يقاطع العرب هذا أو ذاك التجمع، ما يعني أن وجهة نظر إسرائيل هي ما يستمع لها وليس وجهة نظر العرب. غير أن العرب تعلموا الدرس وبالتالي أصبحت إسرائيل تستفز المشاركين العرب بطرق مشابهة لما قام به دانيال أيالون!
لكن هناك الكثير من الاعتبارات التي يجب التمعن فيها قبل الحكم على أي سلوك. فالرياض كشفت أكثر من مرة عن أنيابها الدبلوماسية عندما تكون هناك حاجة لذلك، وبالفعل هددت السعودية أكثر من مرة وفي أكثر من محفل دولي بأنه طفح الكيل. وأكد على ذلك وزير خارجية السعودية الأمير سعود الفيصل في غير مناسبة في أن للعرب خيارات أخرى إن لم تستبطن الدول الكبرى ضرورة الانتباه لمصالح العرب. وهذا ما يضير تل أبيب، فعندما تتكلم السعودية فإن هذا يعني أن ثمة جدية ما لا يمكن إلا أخذها في الحسبان. وبعيدا عن محاور الاعتدال والممانعة، فالغرب يحسب حسابا كبيرا لمواقف الرياض، وبالفعل عبر الرئيس الأميركي باراك أوباما في أكثر من مناسبة عن ضرورة كسب تأييد السعودية لعملية السلام. الرياض لم تتردد في إعلان موقفها لكنها رفضت أن تكون جائزة التطبيع معها مجانية، فالسعودية لا تريد لنفسها شيئا لكنها غير مستعدة وليست مجبرة لمساعدة الإسرائيليين إلا بعد أن تقبل إسرائيل وتنفذ فكرة حل الدولتين. وبالفعل فشلت كل محاولات إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة في ثني الرياض عن موقفها المستند إلى مبدأ واضح وهو أنه لا تطبيع إلا بعد التوصل إلى حل سلمي شامل. كما رفضت السعودية أن يكون التهديد الإيراني لأمن الخليج في حالة حصول طهران على أسلحة نووية مدعاة لتعاون سعودي إسرائيلي، فالأولوية واضحة في ذهن مطبخ القرار الاستراتيجي السعودي: فلسطين أولا، وهو المبدأ الذي يقود دبلوماسية الرياض في التعامل مع مختلف الملفات على الرغم من تداخلها وتعقيدها. حاولت إدارة الرئيس السابق بوش بتحريض من إسرائيل وأصدقائها في واشنطن أن تقبل الرياض قراءة إدارة الرئيس بوش لمصادر التهديد في المنطقة، غير أن موقف الرياض المبدئي بقي كما هو: حل القضية الفلسطينية هو المفتاح لحل مشاكل الإقليم الأخرى كافة ومن ضمنها الملفات الأمنية الشائكة التي تزداد صعوبة بسبب استمرار الصراع بين العرب وإسرائيل. وبهذا المعنى، فإن الحذلقة الإسرائيلية المتمثلة في خلق انطباع مفاده أن الرياض وتل أبيب تواجهان التهديد نفسه لم تفض إلى تغيير في موقف الرياض الذي إن كان يرى أن هناك مصادر تهديد أخرى في الإقليم إلا أنه يرفض التعاون مع تل أبيب ويرى أن للرياض القدرة على التعامل مع الشائك من هذه الملفات دون الحاجة لإعطاء تل أبيب شرعية قبل أن تستجيب الأخيرة لمعايير العدالة كما يراها المجتمع الدولي ومن ضمنه السعودية.
تثير الرؤية الاستراتيجية الثاقبة للرياض حنق الإسرائيليين الذين لا يتركون مناسبة إلا ويتحرشون بالسعوديين، عل الرياض تلين. وفي ضوء هذا الفهم يمكن تفسير إصرار نائب وزير خارجية إسرائيل على استهداف السعودية في مداخلته التي امتازت بحدة لا تليق بالدبلوماسيين. فكان بإمكان الأمير تركي تجاهل استفزاز دانيال أيالون غير أنه فضل أن يواجه الموقف ويسحب البساط من تحت أقدام من كانوا يخططون إظهار شخصية عربية بوزن الأمير تركي الفيصل وكأنه يتصرف بشكل ''غير حضاري''. الأمير الذي كان سفيرا للمملكة العربية السعودية في واشنطن يفهم جيدا هذه الألاعيب التي باتت مكشوفة، ولهذا السبب تمكن من استباق أن تسجل إسرائيل موقفا قد يراه البعض في الغرب ''مدنياً'' أو لنقل ''حضارياً''. لا أميل لبعض التفسيرات السطحية التي أرادت أن تظهر المصافحة وكأنها شيء مخطط له للتقريب بين الرياض وتل أبيب وبخاصة الموقف المحيط بالملف النووي الإيراني آخذ في الغموض وسط أنباء عن إمكانية أن يحدث تصعيد في المستقبل المنظور. ولو كان هذا الأمر صحيحا لقامت الرياض باتصالات رسمية وسرية وما كان يمكن أن تلجأ إلى مناسبة كمؤتمر ميونخ للأمن للتقرب من إسرائيل. فالسعودية رفضت أن تتقرب من إسرائيل حتى في ظروف أحلك مما تمر بها المنطقة هذه الأيام. بكلمة، كسب الأمير تركي المواجهة مع دانيال أيالون وخسر الأخير لأنه لم يحقق الهدف من تعمده إثارة الزوبعة بالشكل الذي تم، وبصرف النظر عن حصول أو عدم حصول مصافحة فإن موقف الرياض لم يطرأ عليه أي تغيير، فهو موقف متجذر ويعكس مصالح السعودية الحقيقية ويعكس مواقفها من القضية الفلسطينية وهي مواقف لا يساوم عليها صانع القرار في الرياض.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي