هشيم القنوات الشعبية
ها هي القرية تغفو على هدهدات صدى السواني، صفير الرياح يزمجر في ليلةٍ شاتئةٍ يبث القمر فيها نوره على أعاسيب النخل، يأوي أهل القرية إلى بيوتهم الطينية ينتظرون صلاة العشاء، ليطيب بعدها السمر، وهاهي (المهيلة) منتصبةً وسط (الوجار)، يدوي في المكان قول الشاعر:
املا الوجار وخلوا الباب مفتوح
خاف المسيّر يستحي لا ينادي
يتصدر المجلس كبار السن وأهل التجربة والدراية والذين يجيدون فن (السوالف) ليتحفوا الحضور والسُمّار بالقصص والنوادر والأشعار الشعبية، يبدأ المتحدث في (السالفة)، والآخرون منصتون كأن على رؤوسهم الطير، لا يمكن أن يقاطعه أحد حتى ينتهي فيبدأ الآخر مقدماً بين يديّ سالفته بـ (طراه كذا) كل هذه والأحاديث تنساب في جوٍ بروتوكولي و(سُلوم) معروفة للجميع، بهذه العفوية والتلقائية كانت تزجى الأوقات فيما مضى تنقل من خلالها تجارب إنسانية ثرية فيها المتعة والعبرة والفائدة، ولا تخلو من شيء من (البهارات) أحياناً!
عذراً قرائي الأعزاء إن أنا سحت في عبق الزمان فهذا هو الموروث الشعبي في أوضح صوره، وهو جزءٌ منا، ونحن جزءٌ منه، وهو لا شك جزء من التراث الثقافي للمجتمع فيه السمين والغث، ويبقى دور التربية كوسيط ثقافي في التنقية و(الفلترة) من خلال مؤسساتها المختلفة والتي يفترض أن تكون وسائل الإعلام إحداها!
إن ما دعاني لهذه المقدمة هو قرار وزارة الإعلام بإغلاق مكتب إحدى القنوات الفضائية الشعبية، والحقيقة أنني لم أفاجأ بهذا القرار، وإن كانت معطيات الأرض تؤكد استحالة إغلاق الفضاء الذي أصبحت قنواته أكثر من السيارات في شوارع الرياض، فلم يعد أمر بث قناة فضائية يحتاج أكثر من غرفة وكاميرا خلفها شخصٌ يديرها!
وقد زعمت في مقالٍ سابق أن القنوات الفضائية الشعبية سببٌ ضمن خمسة أسباب لإثارة النعرات القبلية وبعث (الحقبة الجاهلية من مرقدها!)، وهذه القنوات شأنها شأن كثير من القنوات تفتقد الرؤية، وتعاني ضبابية الرسالة، أما أهدافها فلا يكاد يتضح منها سوى الربح المادي! حتى وصل عدد أشرطة (الشات) في بعض القنوات إلى أربعة! تعمل على مدار الساعة، كما تعمل على إدرار الأموال في ظل غياب شبه تام لوعي الجمهور المتلقي، ولعل من الإنصاف قبل الاسترسال في معالجة هذه الظاهرة أن ثمة قنوات فيها نوع من عقلانية الطرح وواقعية المعالجة كما أنها بديل معقول عن فضائيات الابتذال واللحوم الحمراء!
والحقيقة أن الموروث الشعبي تجربة وخبرة تاريخية إنسانية طيفية الألوان تتدرج من قتامة الأسود حتى إلى نصاعة الأبيض، ولذا يمكن لنا اختيار المضمون والمحتوى الإعلامي الهادف من هذا الموروث وترك ودفن ما سواه!
إلا أن المتابع لهذه القنوات يجد إثارة صريحة للنعرات وعزفا متواصلا على القبلية نرى ذلك في القصائد، وفي أشرطة الشات، وتبادل المدح من خلالها أو الذم و(العزاوي) و(كلٍ يعتزي بأخته وأخوه) والصحيح بأخيه!
من أدوات اجترار وبعث الحقبة الجاهلية من خلال هذه القنوات شعر المحاورة (القلطة)، وهو لونٌ من الشعر يعدُ امتداداً للنقائض في الأدب العربي كما تحدثنا كتبه عن جرير والفرزدق والأخطل والراعي النميري، وفي واقعنا المعاصر حفل هذا اللون من الشعر بأسماء جهابذة أضفوا عليه القوة وأكسبوه الشعبية مثل الجبرتي، والمسعودي، وصياف الحربي، ومطلق الثبيتي، وكانت أبرز سمة لهذه المحاورات هي الرمزية أو ما يسمى (دفن المعنى)، وفي هذا يذكر جمهور شعر المحاورة أن مطلق الثبيتي يقول بيتين أو ثلاثة، فإن كان الشاعر المقابل مدركاً للمعنى واعياً لـ (الفتل والنقض) وإلا جلس وتركه، كان هذا المعنى هو نكهة هذه المحاورة وسر عشقها وتذوقها، لا كما يحدث اليوم من السب الصريح للقبائل، والغمز، واللمز، و(الهياط) - والهياط في العربية الصياح والجلبة، وكان لكل شاعر جمهوره ومحبوه من كل القبائل خلافاً لما عليه الحال الآن، إذ تجد السواد الأعظم من جمهور الشاعر أبناء قبيلته:
وما أنا إلا من غزيه إن غوت
غويت وإن ترشد غزيه أرشدُ
ولن أتحدث عن واقع هؤلاء الشعراء وواقع (الصفوف)، لكن أبرز تداعيات هذه القنوات والمحاورات الشعرية هو مزيد من التشقق والفرقة، ومزاحمة رابطة القبيلة للرابطة الأم، وهي الإسلام، وكذلك مزاحمتها لرابطة المواطنة، وشاهدوا شريط الشات في هذه القنوات ترون العجب العجاب، ولعل هذا يفسر ظهور رموز القبائل بالأرقام تجدها ملصقة على زجاج السيارات، وعلى جدران المرافق العامة والمدارس، كما بتنا نسمع مبالغات كبيرة في المدح والذم بين بعض الشعراء في القصائد المتبادلة والمتداولة في مقاطع اليوتيوب والبلوتوث.
هذه أسطر في كشف هذه الظاهرة أسبابها وإضاءات في العلاج، فهل ندرك المشكلة وحجمها أم يجرفنا التيار؟!
خاطرة:
يـا مَن يَعِزُّ عَلَينـا أن نُفارِقَهـم
وَجداننـا كُـلَّ شَيءٍ بَعـدَكـُمْ عَـدَمُ