بيئة العمل في القطاع الحكومي.. الواقع والتحديات
لا شك أن توسيع نطاق القائمة لشمل منشآت القطاع العام من خلال قائمة أفضل بيئة عمل حكومية هو إضافة كبيرة ستكون ذات مردود إيجابي على خطط التنمية متى ما تحررت الهيئات والمؤسسات الحكومية من هاجس الظهور الإعلامي في مثل هذه القوائم وأخذت الفرصة للاستفادة مما تقدمه المنافسة في مثل هذه القوائم من تحفيز للهمم وإيجاد بيئة من التحفيز الإيجابي نحو بناء بيئة عمل منتجة تسهم في تحقيق الخطط التنموية للمملكة. التقييم الذي تم إجراؤه للمنشآت الحكومية المشاركة في القائمة والذي شمل استبيان الرضا الوظيفي وتقييم ممارسات الموارد البشرية كشف عن واقع حال منشآت القطاع العام وعما يعانيه موظفوه وإداراته على حد سواء، وهو الأمر الذي يتوجب على قطاعات الدولة المعنية الوقوف عليه والعمل على وضع الحلول الرامية إلى رفع مستوى التحفيز لدى موظفي القطاع العام وصولاً إلى تحقيق معدلات الأداء المأمولة منهم. ويطيب لي أن أقف معكم في عجالة سريعة على واقع الحال في القطاع العام في المملكة من واقع نتائج التقييم بشكل عام دون الخوض في التفاصيل المتعلقة ببيئة العمل في جهة حكومية معينة بحد ذاتها، مع الإشارة إلى أن هذه الملاحظات لا تخص المنشآت المتأهلة للدخول إلى القائمة ولكن هي ملاحظات عامة لجميع الجهات الحكومية التي شاركت في مشروع القائمة.
كشفت نتائج التقييم أن الكثير من موظفي القطاع العام لا يشعرون بعدالة المعاملة التي يتلقونها من مديريهم أسوةً بزملائهم الآخرين من الموظفين ويتضح ذلك جلياً في وجود نسبة عالية من عدم الرضا عن مدى تطبيق المنشآت الحكومية لسياسات العمل على كافة الموظفين بشكل عادل والتي يصل نسبة عدم الرضا في بعضها إلى أكثر من 50 في المائة ما ينذر بوجود العديد من المنغصات في حياة موظف القطاع العام. ولعل من أبرز النواحي التي يشعر فيها الموظف في القطاع الحكومي بعدم عدالة المعاملة يتمثل في تقييم الأداء الوظيفي والقرارات الخاصة بالترقيات والتي شهدت نسبة عدم رضا عالية في أوساط منسوبي المنشآت الحكومية المشاركة والتي وصلت في بعض الأحيان إلى أكثر من 60 في المائة. ويلي ذلك الكثير من القرارات المتعلقة بالتدريب والانتداب والتي قد تؤدي إلى تنامي شعور الموظف بعدم عدالة المعاملة بينه وبين أقرانه من الموظفين.
وبالنظر إلى أهمية النواحي المالية في حياة كل إنسان، يتنامى في أوساط موظفي القطاعات الحكومية الشعور بعدم الرضا تجاه الرواتب والأجور وبالأخص عند مقارنة ما يتم تقاضيه من دخل بالموظفين من ذوي الخبرة والمستوى الوظيفي ذاته في الجهات الحكومية الأخرى. وهذا التفاوت ولده اختلاف الأنظمة المعمول بها بين الكثير من الهيئات والمؤسسات العامة الحكومية، فالبعض منها ما زال يعمل تحت أنظمة الخدمة المدنية وسلمها الوظيفي وما يترتب عليه من رواتب وبدلات، والبعض الآخر منها مثل الهيئات الحديثة التكوين تتمتع ببمميزات خاصة تحكمها لوائحها الدخلية الخاصة بها بمنأى عن أنظمة الخدمة المدنية. والجدير بالذكر أن بعض الهيئات تعاني الأمرين من وجود مجموعة من موظفيها تحت نظام الخدمة المدنية فيما البعض الآخر ينعم بمميزات أكبر تحت النظام الداخلي الخاص بها، الأمر الذي يؤدي إلى تفاقم الشعور بعدم الرضا الداخلي عن مستوى الرواتب والأجور والنابع عن الشعور بعدم العدالة فيما يتعلق بالنواحي المالية هو ما ينعكس سلياً على أداء الموظفين من ذوي الدخل المنخفض.
وعلى الرغم من إنفاق معظم الهيئات الحكومية الكثير من الموارد المالية في دعم تدريب الكوادر الوطنية العاملة لديها، إلا أن هناك نسبة كبيرة من عدم الرضا عن مستوى التدريب الأولي المقدم للموظف عند الالتحاق بالعمل في القطاعات الحكومية مقارنة بمنشآت القطاع الخاص، فعلى الرغم من وجود البرامج الرامية إلى تعريف الموظف المستجد ببيئة العمل والمطبق في بعض الجهات الحكومية، يفتقر الكثير منها إلى وجود الممارسات الهادفة إلى تقديم التدريب اللازم للموظف للقيام بأداء واجبات عمله على أكمل وجه عند التحاقه بالعمل فيها. إضافة إلى ذلك فإن تحديد الاحتياجات التدريبية في بعض هذه الجهات تغلب عليه العشوائية، فالتدريب قد يتم تقديمه على سبيل الترفيه للموظف والتعويض له على الجهود التي يبذلها في العمل في ظل عدم وجود المحفزات الأخرى التي يمكن تقديمها إليه. شركات التدريب فطنت إلى هذه النقطة فأصبحت تقدم برامجها التدريبية في عواصم البلدان العربية والأجنبية الأخرى على الرغم من إمكانية تقديمها في المملكة وبتكلفة أقل بشكل كبير.
ومن النواحي التي تؤثر سلباً في مستويات الرضا الوظيفي في أوساط المنشآت الحكومية هو عدم وجود الآليات والقنوات الواضحة لمعرفة الموظف بأهم القرارات التي تؤثر على عمله في الجهة، فعلى الرغم من ارتفاع درجة المشاركة في اتخاذ القرار في بعض المنشآت الحكومية، يظل الكثير من موظفي القطاع العام بعيداً عن الكثير من القرارات والتي يتم إعدادها بسرية تامة بعيداً عنهم ما يضعف درجة إيمانهم وتبنيهم لهذه القرارات والتوجهات.
وعلى الرغم من وجود الكثير من النواحي التي تؤثر سلباً في بيئة العمل في القطاع الحكومي هناك الكثير من الإيجابيات في العديد من الجهات الحكومية التي شاركت في مشروع القائمة سواء كانت في تلك التي تأهلت للدخول في القائمة أو التي لم يحالفها الحظ لذلك.
وعلى رأس هذه الإيجابيات اتباع الكثير من الجهات الحكومية لسياسة الباب المفتوح بين المديرين وموظفيهم، فالموظفون بإمكانهم التواصل مع المستويات الإدارية العليا في المنشأة دون الخوف من أي تبعيات قد تنجم عن ذلك التواصل. وإضافة إلى ذلك فهناك إجماع فيما بين موظفي الهيئات الحكومية أن جهاتهم تورد لهم الأدوات والمعلومات اللازمة لأداء أعمالهم ما ينعكس اهتمام الكثير من الجهات الحكومية بالإنفاق في تقديم أنظمة الحاسب الآلي وملحقاتها لموظفيها على النحو الذي يساعدهم على أداء أعمالهم بكل يسر وسهولة. وفي الجانب ذاته، هناك من مستوى عال من الرضا فيما يتعلق بوضوح المهام والدور الواجب على الموظف القيام به في ظل وجود مستوى التوثيق المقبول من سياسات وإجراءات العمل والوصوف الوظيفية لدى الكثير من المنشآت الحكومية.
ولا يسعني عند ذكر هذه الإيجابيات إلى أن أتوقف قليلاً لأشيد بالجهات المتأهلة للدخول القائمة والتي استحقت ذلك عن جدارة عطفاً على نتائجها في استبيان الرضا الوظيفي وتقييم ممارسات الموارد البشرية. فهيئة السوق المالية والحاصلة على المرتبة الأولى في القائمة تقدم لموظفيها من الاهتمام والتدريب وبكل المقاييس ما تعجز عن تقديمه حتى أفضل المنشآت العالمية. والهيئة العامة للسياحة والآثار تحظى بقيادة فريدة من نوعها وبيئة عمل مريحة للموظف جعلت منها من أكثر الهيئات الحكومية طلباُ للعمل فيما تتميز هيئة المدن الصناعية ومناطق التقنية بعمل جميع الموظفين بروح الفريق الواحد نحو تنفيذ رسالة الهيئة وتحقيق رؤيتها، فالكل متحد حول هذا الإطار الاستراتيجي من العمل.
وختاماً، أكرر ما بدأت به من أن بيئة العمل الحكومية في المملكة تواجه عديدا من التحديات والتي يتوجب على قطاعات الدولة المعنية الوقوف عليها والعمل على وضع الحلول الرامية إلى تحسين هذه البيئة لما في ذلك من أثر مباشر على قدرة الجهات الحكومية جميع على اختلافها من تحقيق مستويات الأداء المأمولة منها فالكل يتفق أن العنصر البشري هو أساس تحقيق كل نجاح بعد توفيق المولى عز وجل.