الاقتصاد الإسلامي قادر على تخفيف كوارث الأزمة المالية العالمية

الاقتصاد الإسلامي قادر على تخفيف كوارث الأزمة المالية العالمية
الاقتصاد الإسلامي قادر على تخفيف كوارث الأزمة المالية العالمية
الاقتصاد الإسلامي قادر على تخفيف كوارث الأزمة المالية العالمية
الاقتصاد الإسلامي قادر على تخفيف كوارث الأزمة المالية العالمية
الاقتصاد الإسلامي قادر على تخفيف كوارث الأزمة المالية العالمية
الاقتصاد الإسلامي قادر على تخفيف كوارث الأزمة المالية العالمية
الاقتصاد الإسلامي قادر على تخفيف كوارث الأزمة المالية العالمية

خلال محاضرته التي ألقاها الدكتور سامي السويلم ــ الخبير الاقتصادي في التمويل الإسلامي ــ في إطار ندوة نظمتها كل من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن ومركز التميز للدراسات المصرفية والإسلامية أخيراً تحت عنوان "الأزمة المالية العالمية.. رؤية إسلامية"، تحدث عن حجم وجذور هذه الأزمة ومن أين بدأت، متناولاً تداعياتها إقليمياً وعالمياً، ثم كيفية الخروج منها من خلال تناول مبادئ الاقتصاد الإسلامي، مؤكدا أن النظم والمعايير الاقتصادية التي تتوافق وأحكام الشريعة الإسلامية هي القادرة على تخفيف وامتصاص آثار وانعكاسات تلك الأزمة .. فإلى تفاصيل المحاضرة:

لقد سمعتم الكثير وقرأتم الكثير عن الأزمة المالية العالمية، ولا ريب أنها تستحق ذلك. لقد وصف بول كروغمان الاقتصادي الأمريكي المشهور الذي حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2008م، الفقاعة التي أدت إلى الأزمة بأنها "أكبر فقاعة ائتمانية في التاريخ". بول فولكر الرئيس السابق لـ "الاحتياطي الفيدرالي" الأمريكي وصفها بأنها "أم الكوارث"، والسبب واضح وهو حجم الخسائر الهائلة التي أصيبت بها الأسواق والاقتصادات حول العالم. وفقاً لتقديرات كبير الاقتصاديين في البنك الدولي جوستين لين فإن أسواق رأس المال حول العالم خسرت عام 2008م أكثر من 30 تريليون دولار، بينما خسرت أسواق العقارات في العام نفسه أكثر من 30 تريليون دولار أخرى. المؤسسات المالية حول العالم خسرت ــ حسب تقديرات صندوق النقد الدولي ــ أكثر من 3.5 تريليون دولار. وحسب تقرير شبكة بلومبيرج فإن تكاليف الإنقاذ التي التزمت بها الحكومة الأمريكية بلغت 12.8 تريليون دولار إلى نهاية مارس 2009م، وفي دول الاتحاد الأوروبي بلغت تكاليف الإنقاذ أكثر من 5.5 تريليون دولار إلى نهاية يونيو 2009م.

للمقارنة، إذا حسبت تكاليف تعويضات شركات التأمين لكل أنواع الكوارث الطبيعية وغير الطبيعية بما فيها حادثة 11 سبتمبر، منذ عام 1970 إلى 2007م (أكثر من 37 سنة) لن يتجاوز مجموع التعويضات للكوارث الطبيعية أو الكوارث بفعل الإنسان 750 مليار دولار (أقل من تريليون واحد). هذه مقارنة بسيطة توضح أن تكاليف وخسائر الأزمة المالية بلغت أضعافَ أضعاف الكوارث مثل الزلازل والفيضانات والتسونامي وغيرها.
#2#
قادة وخبراء الغرب الاقتصاديون معترفون بأن هناك مشكلة كبيرة، تيموثي جايتنر وزير المالية الأمريكي قال في شهادة أمام الكونجرس: "لقد أخفق نظامنا الاقتصادي من نواحٍ جوهرية ولقد برهن نظامنا أنه في غاية الهشاشة وعدم الاستقرار". في مارس 2009م قال جين كلاود كريتشيه رئيس البنك المركزي الأوروبي: "يجب تصحيح الاختلالات الكبيرة في النظام المالي التي أصبحت ظاهرة للعيان". أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا قالت: "لا يمكننا أن نقبل الاستمرار في التخبط من أزمة مالية إلى أخرى" لأن الأزمات المالية صارت وتيرتها أكبر وآثارها السلبية تتزايد باطراد.

جذور الأزمة المالية

ترجع جذور الأزمة المالية باعتراف المحللين إلى أمرين: (1) الإفراط في المديونية و(2) الإفراط في المجازفة وتحمل المخاطر. وفقاً للمنطق الإسلامي فإن ضابط الإفراط في المديونية هو الربا وضابط الإفراط في المجازفة هو الغرر، وهذه هي أصول المعاملات المحرمة في الشريعة الإسلامية. الربا والغرر هما جذور معظم الكوارث المالية عبر التاريخ.

الربا باختصار شديد يؤدي إلى انفصال التمويل عن بناء الثروة. من خلال الربا يستطيع المقرض أن يربح دون أن يكون له أي علاقة بالنشاط الاقتصادي الفعلي، لذلك فإن الديون تكبر وتنمو فوائدها على رأس المال وعلى المتأخرات بما يتجاوز رأس المال بأضعاف مضاعفة.

وحيث إن عقد الربا يفصل الربح عن النشاط الاقتصادي الحقيقي، فإن الدين ينمو بمعدل أسرع من نمو الثروة. كم من الجهد تحتاج كي يزيد الدين؟ لا تحتاج إلى أكثر من موافقة الطرفين على التأجيل مقابل زيادة مقدار الدين 10 % مثلاً. لكن كم تحتاج لتزيد ثروتك 10 في المئة؟ تحتاج إلى الكثير من التضحية والإبداع والمعرفة والعزيمة، ولذلك ينمو الدين بسهولة أكبر بكثير من نمو الثروة. وهذا ما يؤدي إلى ما يسمى "الهرم المقلوب": جبال هائلة من الديون على قاعدة صغيرة من رأس المال.

بطبيعة الحال إذا تضاعفت الديون فإن خدمة الديون تتضاعف كذلك، وتنمو بمعدلات أعلى من الدخل الحقيقي، فتصبح نزيفاً في جسم الاقتصاد، فكلما نمت الديون زادت خدمة الديون التي تمتص من الثروة. وإذا استمر هذا الوضع دون تصحيح فإن خدمة الديون ستبتلع الثروة وسينهار الاقتصاد. لذلك فلا بد من تصحيح هذا الخلل، التصحيح هو كارثة مالية. تأتي هذه الكارثة عن طريق إما تضخم جامح في الأسعار لتخفيض القيمة الحقيقية للديون، أو انهيار الأسواق بسبب الإفلاسات العامة. في الحالتين فإن النتيجة هي شطب أهرامات الديون الهائلة التي لا يمكن للاقتصاد أن يتحملها، وهو ما يسمى في الدراسات المالية (deleveraging).

من خلال الانهيار يمكن التخلص من أعباء المديونية وشطب الديون المتراكمة ويتم تصحيح الخلل، فيرجع الاقتصاد إلى وضعه الطبيعي، حيث توجد طبقة ضئيلة من الديون تستند إلى قاعدة أكبر من الثروة. ولكن لأن النظام يسمح بنمو المديونية بأسرع من نمو الثروة، فستعود المشكلة من جديد، ويظهر الهرم المقلوب مرة ثانية، لتأتي كارثة أخرى للتصحيح، وهكذا دواليك.

والمشكلة أن أي محاولة لتأخير وقوع الكارثة تجعل التصحيح أكثر تكلفة، ويصبح حجم الكارثة المتوقعة أكبر. فيصبح الاقتصاد أمام نارين: انهيار الآن أو كارثة غداً، أي أن السؤال: هل تريد الكارثة اليوم أو غداً؟ فإن صححت الوضع اليوم فهو كارثة وإن نجحت في تأجيلها إلى الغد ستكون تكاليف التصحيح أكبر وأكبر، وفي النهاية لا بد من وقوعها ولا يمكن تأجيلها إلى الأبد، وهذه هي مشكلة النظام الرأسمالي.

إذا نظرنا إلى حجم الديون في القطاعين الحكومي والخاص مقارنة بحجم الناتج المحلي في أمريكا مثلا، نجد أن معدل النمو السنوي للمديونية 39 في المئة من عام 1975 إلى 2007م، في حين نجد أن الناتج المحلي ينمو بمعدل سنوي 21 في المئة. أي أن الدين ينمو أسرع من نمو الاقتصاد تقريباً بمعدل الضعف. وهذا يمثل خللاً كبيراً لا يمكن أن يستمر (انظر الشكل 1).
#3#
من ناحية أخرى إذا حسبنا معدل النمو السنوي لحجم المديونية للقطاع المالي نجده يصل إلى 185 في المئة خلال 1975-2007م،، بينما قطاع الأسر والأفراد 54 في المئة، وقطاع الأعمال 34 في المئة، والقطاع الحكومي 32 في المئة (انظر الشكل 2).

فالقطاع المالي ينمو بمعدل أسرع وأعلى من القطاعات الحقيقية الأخرى في الاقتصاد، وهذه هي مشكلة الربا أنه يفصل التمويل والائتمان عن القطاع الحقيقي. وعندما ينفصل التمويل ينمو بمعدلات أسرع بكثير لأنه لا يوجد عليه أية قيود، والقطاع الحقيقي هو الذي يدفع الثمن في النهاية.

الغرر و المخاطرة

المصدر الآخر للخلل في الأزمة المالية هو الغرر. الغرر له تعريف فقهي سهل جامع ومانع لا يختلف عليه أحد. فالغرر هو "ما تردد بين أمرين أغلبهما أخوفهما"، فهناك احتمالان إما المكسب وإما الخسارة، وإذا كان الأغلب هو الخسارة فهذا الغرر الممنوع شرعاً، لأن الخسارة هي الشيء الذي تخافه ولا تريده. السؤال في هذه الحالة هو: لماذا تُقبل على شيء تعرف أنه غالباً سيؤدي بك إلى الخسارة؟ الجواب: حجم الجائزة، فالجائزة تغري الإنسان وتغره للدخول في عقد أو معاملة تؤدي به غالباً إلى الخسارة، كما في اليانصيب.

إذا نظرنا إلى الأزمة المالية وجدنا إحدى أحد أهم المشكلات هي ما يسمى الأصول السامة، إذا عرفت كيف يتم ترتيب هذه الأصول السامة ستعرف ما معنى كونها سامة ولماذا سميت بهذا الاسم. فهم يأخذون محفظة من الديون ويقسمونها إلى فئات كل فئة تصدر بها سندات. فالفئة الأعلى تأخذ تصنيفاً ائتمانياً عالياً، AAA وهذه تمثل نحو 70 % من المحفظة، وتحصل على عائد 7 % مثلاً (أعلى من سندات الخزينة الأمريكية). ثم تأتي الفئة الثانية تصنيف BBB مثلاً تأخذ نسبة أخرى من المحفظة، مثلاً 15 %، وتحصل على عائد 9 % مثلاً. ثم تأتي الفئة الثالثة التي قد لا تتجاوز 5 % من المحفظة، وهي الأعلى مخاطرة لدرجة أنها غير قابلة للتصنيف أصلاً، ولذلك تسمى الأصول السامة. لكن العائد على هذه الفئة أعلى بكثير من العائد على الفئات الأخرى 25 في المئة أو أكثر. فإذا حصلت إفلاسات في الديون المكونة للمحفظة فإن أول من يتضرر هم الفئة الأخيرة، ثم الفئة الثانية، وآخر من يتأثر هم الفئة الأولى، ولذلك كانت الفئة الأولى الأعلى من حيث التصنيف الائتماني، والفئة الأخيرة هي الأكثر مخاطرة.

شركات التصنيف رغم كل ما قيل عنها من مساوئ وعيوب تقول للبنوك إن الأصول السامة هذه غير قابلة للتصنيف بسبب ارتفاع مخاطرها، ولذلك كان يطلق عليها "النفايات النووية"، فهم يعرفون أن احتمال خسارتها أضعافَ احتمال نجاحها. وهذا يعني أنه لو طبقنا هذا المعيار فقط من معايير الغرر، وهو أن احتمال الخسارة هو الأغلب، لما وجدت الأصول السامة ولكان من الممكن تجنب الكارثة وتبعاتها بدرجة كبيرة.

لذلك ينبغي على هيئات أسواق المال أن تمنع إنشاء أو تداول ما يسمى الأصول السامة لأن مخاطرها هائلة جداً. الذين يدافعون عنها يقولون إن هذه حرية فردية طالما أن الشخص يعرف حجم المخاطر التي يقدم عليها. ونحن نقول لا.. الآن اختلف الوضع، فإذا كان الأمر يتوقف عليك فقط فأنت حر، ولكن كونك تؤثر في المجموع فهذا غير مقبول لأنه سيؤثر في الآخرين وسيدمر الاقتصاد كما حصل.

الرهن العقاري

مشكلة الرهن العقاري بدأت في أمريكا بإعطاء البنوك قروضاً لعمال النظافة وسائقي التاكسي بمبالغ كبيرة لشراء منازل، ثمن المنزل أكثر من 750 ألف دولار رغم أن أجر الواحد لا يتجاوز 500 دولار في الشهر، ولهذا سميت بقروض منخفضة الملاءة (subprime loans). ورغم أن المصارف وشركات التمويل كانت تعرف أن هؤلاء سوف لا يسددون هذه القروض، لكنهم كانوا يراهنون على استمرار ارتفاع أسعار العقار ومن ثم بيعها وتحصيل قيمة القرض وأرباحه، وهذا ما أدى إلى تضخم فقاعة العقار.
#4#
فلو طبقنا قاعدة الغرر لكان الواجب عدم منح هذه القروض بهذا الحجم لهذه الفئة لأن الغالب هو عدم قدرة المدين على السداد، فضلاً عن كونه تغريراً بالمدين وتحميلاً له فوق ما يحتمل. أي أن قاعدة الغرر وحدها كان يمكن أن تمنع أصل المشكلة التي أدت للكارثة، ولكن وهم حرية الأسواق هو الذي شجع هذه التصرفات التي أدت في النهاية إلى تدمير الأسواق نفسها التي يزعم هؤلاء أنهم يدافعون عنها.

المشتقات

هذا هو الغرر على مستوى العائد من جانب صاحب القرار، أما الغرر على مستوى العقد بين طرفين فهو مبادلة صفرية، بمعنى أن ما يكسبه أحد الطرفين هو ما يخسره الآخر. والذين يدافعون عن المشتقات المالية يعترفون بأنها مبادلة صفرية، لكنهم يبررونها بأنها تعزز السيولة وتوزع المخاطر وغير ذلك من المصالح التي قد توجد فيها. القرآن الكريم عندما حرم الميسر قال: (قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس) أي أن الميسر فيه منافع لكن أضراره أكبر من منافعه. ونحن نقول: إن المشتقات من الميسر لأنها مبادلة صفرية، ووجود بعض المصالح فيها لا يعني أنها في النهاية مفيدة للاقتصاد، بل هي كما أثبت الواقع أضرارها أكبر بكثير من منافعها.

كم حجم المشتقات في العالم؟ حجم المشتقات حول العالم من حيث القيمة الاسمية 600 تريليون دولار، بينما العالم كله ينتج سنويا تقريبا 54 تريليون دولار من السلع والخدمات. أي أن المشتقات أكثر من عشرة أضعاف الناتج الاقتصادي العالمي. وهذا يعني أن حجم المجازفات أضعافَ أضعاف حجم الاقتصاد، وهذا هو الهرم المقلوب مرة أخرى. فالغرر والربا يؤديان إلى نفس النتيجة.

المشتقات مبادلات منفصلة عن النشاط الاقتصادي لأنه لا توجد قيمة مضافة من المبادلة، لأن أحدهما يكسب على حساب الآخر، وهذا معناه أنك فصلت العقد عن النشاط الحقيقي والاقتصاد الفعلي، والنتيجة هي الهرم المقلوب.

المشتقات والديون كلها تؤدي إلى نتيجة واحدة وهي التزامات مالية. في النهاية أحد الطرفين يدفع للآخر نقداً. ولكن إذا نظرنا إلى الأرقام في الاقتصاد الأمريكي في نهاية 2007م، فإن حجم النقد الذي يمكن من خلاله سداد هذه الالتزامات لا يستطيع أن يوفي بها (انظر الشكل 3).

فلدينا هذه القاعدة الضئيلة من النقد الذي تتزاحم عليه كل الطبقات الكبيرة، كم الالتزامات المالية؟ حجم النقد في نهاية 2007 يصل تقريباً إلى 1.4 تريليون دولار تقريبا (10 في المئة من الناتج المحلي)، وإجمالي النمو لكتلة النقد ما بين 98م و2007م يعادل 25 في المئة. إجمالي الدين الكلي يصل إلى 48 تريليوناً، حجمه ثلاثة أضعاف حجم الاقتصاد، بمعدل نمو إجمالي خلال الفترة نفسها 112 في المئة. أما المشتقات فيصل حجمها في الولايات المتحدة وحدها 165 تريليونا، وهو يمثل 12 ضعف الناتج المحلي الأمريكي، النمو الإجمالي في الفترة كلها من 1998إلى 2007م 400 في المئة، بينما نمو الاقتصاد في الفترة نفسها 56 في المئة. أي أن النمو السنوي للديون والمشتقات أكبر بكثير من نمو الناتج المحلي. هذا يمثل هرماً مقلوباً بامتياز، لذلك فإن هذا النظام غير قابل للاستمرار. الأمر لا يحتاج إلى عبقرية بل هو من البديهيات في التحليل الاقتصادي.

المشتقات الائتمانية

يوجد نوع من المشتقات أسهم بشكل خاص في الأزمة المالية هو المشتقات الائتمانية، وتسمى مقايضات ائتمانية. فإذا أراد البنك أن يقرض عميلاً، فالبنك يشتري تأميناً على هذا القرض. ما هي مصلحة المؤمن الذي باع وثيقة التأمين أو مقايضة الائتمان؟ هناك رسوم يأخذها على التأمين وكلما باع وثائق أكثر زادت الرسوم. ثانياً طالما كانت أسعار العقار ترتفع والفقاعة مستمرة، فلا توجد مشكلة بالنسبة لبائع الوثيقة، فإذا تعثر المقترض عن السداد يعرض منزله للبيع ويتم تعويض القرض. ثالثاً يستطيع مصدر الوثيقة أن يبيع مخاطر القرض لآخرين مقابل رسوم في سوق المشتقات المالية وهكذا.

دوامة الفقاعة

المشتقات الائتمانية كانت من أسباب تضخم الفقاعة العقارية ابتداء. فعندما يؤمن البنك على القرض، فهو لا يتحمل مخاطر القرض بل ينقلها إلى آخرين، فصار التأمين يشجع البنوك والمؤسسات المالية على الإقراض، خاصة إقراض أصحاب الدخول المنخفضة لأن مخاطر هذه القروض يتحملها مصدر المشتقات. فالمشتقات تشجع على الإقراض، والإقراض يساعد على ارتفاع الأسعار لأنه يشجع الطلب على العقار. وإذا ارتفعت الأسعار فإن ذلك يشجع على التأمين على القروض، لأن الذين يبيعون التأمين على القروض مصلحتهم في ارتفاع الأسعار. فنشأت حلقة تسمى حلقة تغذية عكسية (positive feedback). المشتقات تساعد على الإقراض والاقراض يساعد على رفع الأسعار ورفع الأسعار يشجع على التأمين الذي يساعد على الإقراض، وهكذا، ومن هنا جاءت الفقاعة. طبعاً هذه الفقاعة لا يمكن أن تستمر وكان لا بد أن تنفجر وقد انفجرت في صيف 2007م. لاحظ كيف كان الغرر في المشتقات يشجع على الربا في القروض، والربا بدوره يشجع على الغرر. فالربا والغرر يشجع ويغذي بعضهما بعضاً.
#5#
الرهان الجانبي

نسبة كبيرة من المشتقات الائتمانية، تصل إلى 80 في المئة من هذه المشتقات، تعتبر "عارية"، بمعنى أن مصدر التأمين ليس له أي علاقة لا بالمقترض ولا بالمقرض الحقيقي. بمعنى أن بنك (أ) يقرض شخصاً (ب) وأنا أذهب لشخص ثالث (ج) وأقول له إن (ب) مقترض من (أ) وأريد تأميناً على هذا القرض، وبناء عليه أدفع للشخص (ج) رسوماً فإذا أفلس المقترض (ب) وعجز عن سداد القرض فإن (ج) يقوم بالسداد لي ولا يدفع للبنك (أ) ولا للمقترض (ب). فالعملية تصبح رهاناً جانبياً (side bet) بيني وبين الشخص (ج) لذلك لا يعتبر هذا التعامل تأميناً من الناحية القانونية، لأن نظام التأمين يمنع أن يؤمّن شخص على شيء ليس له فيه مصلحة لأن هذا يتحول إلى رهان بحت.

والرهان يؤدي إلى تضاعف المخاطر، فإذا كان هناك 20 شخصاً يراهنون على قرض معين، فهذا معناه أن مخاطر القرض تضاعفت 20 مرة، بمعنى أن المقترض (ب) إذا أفلس لا تقتصر الخسارة على البنك المقرض، بل كل الذين راهنوا على ذلك يخسرون أيضاً، فالرهان يؤدي إلى تضاعف المخاطر بحسب حجم سوق الرهان وعدد العقود المبرمة فيه. وهذا هو الهرم المقلوب مرة أخرى: مقابل كل عقد قرض فعلي هناك عشرات العقود الجانبية التي تتضاعف بسببها المخاطر مرات عديدة.

سر الأزمة المالية

وهذا يفسر سر الخسائر الهائلة الناتجة عن الأزمة المالية. فالأزمة في الأساس نشأت في قطاع القروض منخفضة الملاءة التي لا تتجاوز تريليون ونصف تريليون دولار تقريباً، والقطاع العقاري كله في أمريكا 10 تريليونات دولار. بينما تكاليف الإنقاذ في أمريكا نحو 13 تريليون دولار، وتكاليف الإنقاذ في أوروبا أكثر من 5 تريليونات، أسواق المال والعقار خسرت أكثر من 60 تريليونا .. لذلك نتساءل: كل هذه التريليونات من أين جاءت؟! ما هي المشكلة؟!

السبب يكمن في الأهرامات الهائلة من الرهانات الجانبية التي ضاعفت الخسائر. فحجم سوق مشتقات الائتمان وصل في 2007م إلى 65 تريليونا. فأنت الآن تعرف ما هو سبب تضخم حجم الأزمة .. هذه نتيجة فقاعة حدثت وانفجرت أصلها تريليون ونصف تريليون دولار وصلت الآن إلى أكثر من 70 تريليون دولار.. لماذا؟ السبب تضاعف المخاطر من خلال المشتقات.

أكبر كازينو في العالم

بعض المحللين وصف سوق المشتقات الائتمانية بأنها أكبر كازينو في العالم، الحقيقة أن الكازينو أرحم بكثير، ولكن ما الفرق بين سوق الكازينو وسوق المشتقات المالية؟

الكازينو يخضع لأنظمة الحكومة، أما سوق المشتقات فهي حتى الآن لا تخضع للحكومة ولا يوجد أي إشراف حكومي عليها. في سوق الكازينو كل مجموعة من اللاعبين مستقلين عن الآخرين بعكس سوق المشتقات المالية، حيث الكل مرتبط مع الآخرين، فهناك عقود متعاكسة ومتشابكة. في الكازينو الشخص مستقل بماله يتحمل الخسارة بمفرده، أما البنك فهو يجازف بأموال المودعين والمستثمرين فإذا أفلس فإن الإفلاس أو الانهيار يشمل الجميع ويؤثر في الكل.

السياسة الاقتصادية تجاه الأزمة

بعد الانهيار اضطرت الحكومات أن تتحمل الخسائر وتدفع ثمن المجازفات. في حين إذا صعدت السوق يمنعون تدخل الحكومة ويقولون إن كفاءة السوق تجعلها قادرة على تنظيم نفسها بنفسها، لكن إذا انهارت السوق يطالبون بتدخل الحكومة وتحمل الخسائر. من الذي يدفع للحكومة التي تنقذ البنوك؟ هم الناس دافعو الضرائب، ولذلك صار الوضع يوصف بأنه "خصخصة للأرباح وتأميم للخسائر"، الخسائر تعم والأرباح تخص. فهذه لا رأسمالية حقيقية ولا اشتراكية حقيقية. الاشتراكية هي تأميم كل شيء، والرأسمالية هي تخصيص كل شيء، هؤلاء خصصوا الأرباح وأمموا الخسائر، فهم أخذوا أسوأ ما في النظامين. فإذا كان هناك احترام لآلية السوق كان يجب أن تسمح لآلية السوق بتصحيح هذه الأخطاء، فآلية السوق فيها حوافز وفيها عقوبات وكان يجب أن نجعل آلية السوق تعاقب هؤلاء المجازفين.
#6#
البنك المركزي في أمريكا كان على مدى 20 سنة كلما حدثت هزة أو تراجع ضئيل للاقتصاد يضخ سيولة إضافية لدعم الاقتصاد والأسواق. فالاقتصاد كان تحت تأثير المنشطات لفترة طويلة، لكن المنشطات لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية. الآن عندما انهارت الأسواق، قالوا نعطيها جرعة إضافية من المنشطات من خلال ضخ سيولة إضافية وتخفيض الفائدة إلى قريب من الصفر. أي أن العلاج ببساطة هو المزيد من المنشطات التي كانت وراء استفحال الديون وتفاقم المجازفات. لا يمكن لهذه الآلية أن تؤدي إلى نتائج فعالة.

الحل في الاقتصاد الإسلامي

الحقيقة نحن نحتاج إلى مفهوم جديد ورؤية جديدة في الاقتصاد، هذا ما قاله جين كلاودي كريتشيه رئيس البنك المركزي الأوروبي.

الرؤية الجديدة يقدمها الاقتصاد الإسلامي. فالاقتصاد الإسلامي من حيث المبدأ قادر على الإسهام في إعادة بناء النظام الاقتصادي لتحقيق الاستقرار من خلال ارتباط المديونية بالثروة. فلا يوجد عقد تمويل إسلامي إلا والمديونية مرتبطة فيه بالنشاط الحقيقي وتنشأ من خلاله قيمة مضافة تسهم في بناء الاقتصاد. ولا يوجد دين ربحي منفصل عن نشاط حقيقي، ومن ثم لا يمكن أن ينشأ في الاقتصاد الإسلامي هرم مقلوب. إذا نظرنا إلى واقع التمويل الإسلامي فإن جميع صور العينة ومشتقاتها تؤدي إلى الهرم المقلوب. وإذا كانت مفسدة الربا هي تضاعف الديون كما نص على ذلك القرآن الكريم، فأي منتج يؤدي إلى نفس النتيجة يجب أن يأخذ حكم الربا وإن كان من حيث الشكل يستوفي المعايير الشرعية، وهذا هو الحادث في صور العينة والتورق المنظم. شخص يشتري سلعة بأجل ثم يبيعها نقداً على آخر، ثم يأتي شخص آخر يشتري تلك السلعة نفسها بأجل ثم يبيعها نقداً على آخر، وهكذا. من حيث الشكل الشراء والبيع صحيحان، ولكن من حيث النتيجة السلعة الواحدة تولد عنها ما لا يحصى من الديون. فمثلاً لدينا جهازمكيف بألف ريال، كم حجم الديون التي تتولد من وراء هذا المكيف؟ لا يوجد سقف لحجم المديونية التي تتولد عنه. لأن هذا المكيف يُباع ثم يُشترى آلاف المرات ويترتب عليه أهرامات هائلة من الديون. لا يمكن أن يقال إن هذا تمويل إسلامي، لأن التمويل الإسلامي لا يمكن أن يؤدي إلى تضاعف الديون، فهذه مفسدة الربا التي نص عليها القرآن، ولذلك لا يمكن أن يؤدي التمويل الإسلامي إلى النتيجة نفسها التي حذر منها القرآن. فأي آلية لمضاعفة الديون ستكون آلية ربوية. هناك دراسات حديثة تقول: إن المخاطر أو التقلبات الناتجة عن الأسباب الحقيقية في الاقتصاد أقل أو أخف بكثير من المخاطر الناتجة عن الأنشطة المالية. الهبوط في الاقتصاد الناتج عن كوارث مالية أسوأ بكثير من الهبوط الناتج عن الكوارث غير المالية.

وهناك دراسات أخرى تقول إن معظم التقلبات من القطاع المالي من داخل القطاع المالي نفسه وليست من الخارج. وبما أن التمويل الإسلامي مرتبط ارتباطاً عضوياً وتعاقدياً بالقطاع الحقيقي فالنتيجة هي أن مخاطر التمويل الإسلامي أقل من مخاطر التمويل غير الإسلامي بحسب التعريف. لأن تعريف التمويل الربوي هو التمويل القائم على فصل القطاع المالي عن القطاع الحقيقي، لكن التمويل الإسلامي لا يفصل القطاع المالي عن القطاع الحقيقي. وبما أن مخاطر القطاع الحقيقي أقل فالتمويل الإسلامي سيكون أقل مخاطر أيضاً.

الخروج من الأزمة
#7#
لا يكفي أن نحدد أسباب الأزمة ثم نقف بعد ذلك ونقول: أنتم أوجدتم هذه الأزمة وأنتم تدفعون الثمن. بل يجب أن يكون لدينا القدرة على إيجاد حلول للخروج منها. كيف نخرج من الأزمة؟ هناك عبارة مشهورة للعالم الفيزيائي آينشتين يقول "لا يمكن حل مشكلة على نفس المستوى الذي حدثت فيه". لدينا أزمة حدثت بسبب آلية السوق أو من داخل السوق، فلا يمكن أن نجعل آلية السوق هي نفسها تحل المشكلة، بل يجب أن ننتقل إلى مستوى أعلى. وإذا أردنا أن ننتقل إلى مستوى أعلى من مستوى السوق فيجب أن ننتقل إلى القطاع غير الربحي الذي يكمل السوق ويحقق التوازن في الاقتصاد. لا بد من التوازن بين القطاعين الربحي وغير الربحي، فهما للاقتصاد كالجناحين للطائر، فالاقتصاد لا يحلق إلا بجناحين: القطاع الربحي والقطاع غير الربحي.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية. فهم مني وأنا منهم". فهذا ثناء على المواساة والتكافل الاجتماعي في مواجهة التقلبات والأزمات الاقتصادية. فهو تصرف غير ربحي لامتصاص مخاطر التقلبات الاقتصادية. فالمؤسسات غير الربحية ضرورية لامتصاص آثار الأزمات المالية إلى أن تستطيع السوق أن تصحح اختلالاتها ويعود النمو من جديد للاقتصاد. فينبغي توجيه الدعم الحكومي للمؤسسات الخيرية لأنها توظف هذا الدعم بحسب الحاجة، وليس توجيه الدعم للمؤسسات التي كانت هي السبب وراء الأزمة ابتداء.

الزكاة

الكل يعترف اليوم بأن استمرار الانهيار راجع إلى الامتناع عن الإنفاق وعن تقديم التمويل، وهذا هو ما يسمى الكنز (hoarding)، حيث توقفت البنوك والمؤسسات المالية عن تمويل الآخرين. ونعرف أن ركناً أساسياً من أركان الإسلام يعالج هذه القضية خصوصاً، وهو الزكاة. فالزكاة تمنع الكنز ومن ثم تخفف الآثار السلبية للهبوط الاقتصادي، حيث إن المال إذا مر عليه حول كامل يجب دفع 2.5 في المائة منه للفقراء. فمن يريد أن يبقي ماله ولا ينفقه أو يستثمره عليه أن يدفع نسبة منه للفقراء والمحتاجين. أي أن الزكاة تخفف من مشكلة تكديس المال وعدم إنفاقه التي أدت إلى استفحال الكارثة وامتداد أثرها على الاقتصاد الحقيقي.

في المقابل نجد أن الحكومات تسعى عن حسن نية إلى تشريع إعفاءات ضريبية على الدخل لتشجيع الإنفاق، لكن النتيجة هي أن هذا الوفر في الدخل سيتم كنزه وتكديسه وليس إنفاقه، وهذا ما حصل. الأجدر أن تشرع ضريبة على الأرصدة المجمدة لتحريك عجلة الاقتصاد.

إنظار المعسر

القرآن الكريم ذكر في سورة البقرة شيئين: تحريم الربا، ووجوب إنظار المعسر. هذا دليل على أن هناك فرقاً بين الأمرين. فتحريم الربا يمنع من استفحال المديونية التي تؤدي للكارثة، بينما إنظار المعسر يسهم في تخفيف الهبوط ومعالجة الأزمة بعد وقوعها. وقد تبين ذلك خصوصاً خلال الأزمة الحالية. فالمقترض الذي لا يستطيع السداد يقال له اخرج من المنزل ويعرضون المنزل للبيع، فإذا صارت البنوك تبيع، تتراجع أسعار العقار أكثر، وبالتالي يتعثر المقترضون أكثر لأن قيمة المنزل تصبح لا تفي لتسديد الدين. ومع ازدياد المعروض من العقار تتراجع الأسعار أكثر ومن ثم تزيد نسبة التعثر، وهكذا دواليك.

فما الحل؟ نصبر ونعطي مهلة للمدين، فهو مصلحة للطرفين، البنك والمدين. فالبنك يستفيد المحافظة على قيمة العقار أو على الأقل تقليل معدل تراجع الأسعار، وللمدين من خلال إعطائه مهلة تعينه على ترتيب أوضاعه ومحاولة الحصول على مصادر إضافية لسداد الدين. فالإنظار ليس قيمة أخلاقية أو اجتماعية فحسب ولكنه أيضاً يؤدي وظيفة اقتصادية مهمة في تخفيف الكوارث فهو على الأقل يمتص جزءا كبيراً من آثار الأزمة.

الخلاصة

إذا جمعنا كل ما سبق، سنجد أنه في حالة صعود الأسواق ونمو الاقتصاد، فإن الاقتصاد الإسلامي سيكون أقدر على ضبط نمو الديون من الاقتصاد الربوي، ولذلك فإن احتمالات حدوث الفقاعة في حالة الصعود أقل في ظل التمويل الإسلامي مقارنة بالتمويل الربوي. بينما في حالة الهبوط نجد أن آليات القطاع غير الربحي، كالزكاة وإنظار المعسر، قادرة على امتصاص الصدمات ومن ثم تخفيف آثار الهبوط مقارنة بحالة غياب المؤسسات غير الربحية، حيث يتحول الهبوط إلى انهيار وكارثة اقتصادية.

إذن مبادئ الاقتصاد الإسلامي قادرة على أن تسهم في تخفيف الكوارث وامتصاصها ومن ثم إخراج الاقتصاد من الركود، وهي قادرة على منع هذه الكوارث من الوقوع مجدداً.

والمبادئ التي يقوم عليها الاقتصاد الإسلامي جاءت بها الشرائع السماوية كلها، فهي ليست خاصة بالمسلمين فحسب. فالاقتصاد الإسلامي في الحقيقة اقتصاد عالمي للبشرية جمعاء، كما قال الله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) >

الأكثر قراءة