الاتجار بالبشر ومعيارية الغرب
أحدث إصدار وزارة الخارجية الأمريكية التقرير التاسع حول الاتجار بالبشر دوياً في العالم, تمثل هذا الدوي في نقد هذا التقرير ومناقشته والتعليق عليه, لا سيما من الدول المصنفة في الفئة الثالثة، والتقرير يتكون من 324 صفحة، يتناول تقييم الجهود الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر في نحو 173 دولة في إفريقيا وآسيا وأوروبا, وأبرز صور الاتجار التي تناولها التقرير، العمالة القسرية، الإجبار على الخدمة في المنازل، الاتجار في الجنس، الاتجار بالأطفال لاستغلالهم جنسيا، تجنيد الأطفال لاستخدامهم في الحروب.
وكانت تقديرات منظمة العمل الدولية أن ثمة 12.3 مليون راشد وطفل في العمالة الجبرية والعمل في تجارة الجنس في أي وقت من الأوقات، 1.39 مليون ضحية للاتجار بالجنس، داخل حدود الدول وعلى المستوى الدولي، 56 في المائة من ضحايا العمالة الجبرية هم من النساء والفتيات.
والمطلع على التقرير يلاحظ بجلاء افتقاده المنهجية العلمية, ولا سيما في البيانات والمعلومات التي بني عليها التقرير, هذا من جانب، ومن جانبٍ آخر فإن المعيارية المعتمدة للسلوك والنظام والقانون هي المعيارية الغربية المتشبعة بالانحلال الأخلاقي في موضوع الحرية الشخصية وفقاً للرؤية الغربية، وحسبكم أن التقرير اعتبر قضية عقوبة (المجاهر بالمعصية), الذي كان يتحدث بكل صفاقة عن مغامراته الجنسية في القناة سيئة الذكر أنه نوعٌ من كبت حرية التعبير!
والمتأمل يجد أن الشرق الأوسط والعالم الإسلامي تحديداً أصبح يعيش بين مطرقة (راند كوربوريشن ) وسندان (هيومن رايتس ووتش) ومن ورائهما وزارة الخارجية الأمريكية، فتقرير ''راند'' يمثل الإملاءات والمواصفات التي يجب التقيد بها, وتقرير (هيومن رايتس ووتش) يمثل الوصاية والملحوظات على سلوكنا, وذلك كله بعصا الخارجية الأمريكية. وعلى الرغم من هذا فنحن ضد قضية الاتجار بالبشر جملة وتفصيلاً, وشرعنا الإسلامي جاء من أجل البشر ولحماية البشر (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء:70).
وإذا نظرنا إلى هذه الآية نجد أنها جمعت خمس نعم امتن الله بها على الإنسان وهي: التكريم، وتسخير المراكب في البر، وتسخير المراكب في البحر، والرزق من الطيبات، والتفضيل على كثير من المخلوقات.
ولهذا فالكرامة ومشتقاتها قيمة عليا في الإسلام بدءاً من تحرير الإنسان من العبودية لغير الله وانتهاءً بحفظ كرامته من كل ما يمكن أن يمسها، بل كفل الإسلام حتى كرامة غير المسلم (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ ) (التوبة : 9). وقد أصدر مجلس الوزراء نظام مكافحة الاتجار بالبشر مكوناً من 16 مادة لمكافحة هذه الظاهرة ومحاربتها، ولهيئة حقوق الإنسان جهود مبشرة في هذا الصدد، قبل هذا هناك المحاكم الشريعة والتي تفصل في مثل هذه القضايا.
ومع هذا كله, فالحكمة ضالة المؤمن, ومجتمعاتنا يكتنفها النقص والخلل شأنها شأن أي مجتمع بشري وعلينا لملمة أحوالنا وإصلاح بيتنا الداخلي سواء كانت هذه الملحوظات من الأصدقاء أو الأعداء.
عداتي لهم فـضل علي ومنة
فلا أبعد الله عني الأعـــاديا
همو بحثوا عن زلتي فاجتنبتها
وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
فعلى سبيل المثال: نرى أن ثمة صوراً من الظلم تقع على العمالة المنزلية في بعض البيوت يحسن بنا معالجتها قبل أن تتحول إلى ظاهرة، ومن تداعيات هذا الظلم، هروب الخادمات من المنازل، واستغلالهن فيما بعد في الدعارة من قبل العمالة الوافدة أو غيرهم، من تداعيات ذلك العنف والتعذيب الذي قد يقع على الأطفال كرد فعل وانتقام من قبل هذه الخادمات ، والمؤسف حقاً أن بعض ربات البيوت تعتقد أن هذه الخادمة أمة عندها يجب أن تعمل لمدة 25 ساعة في اليوم، وما علمت أنه يجب أن تلتزم بالعقد وهو العمل لمدة ثماني ساعات بحد أقصى، ولذلك نرى بعض النساء تذهب بخادمتها عند زيارة صديقاتها أو أقاربها لتباشر العمل هناك, وهذه صورة من صور الإخلال بالعقد، والعقد شريعة المتعاقدين! وقل مثل هذا في التعامل مع العمالة المختلفة، وقد رأيت من يجرؤ على صفع العامل المسكين على وجهه!
المؤلم بالفعل في تقرير (الاتجار بالبشر) أن يصدر من جهة ودولة ذات تاريخ أسود في تجارة الرقيق بلونيه الأسود والأبيض، بل وواقع مرير في هذا وما شراء أطفال هاييتي من قبل المنظمات التبشيرية والتنصيرية عنا ببعيد!
أما التاريخ فقد سجل صفحات سوداء بشعة في امتهان البشرية، وحسبكم أنه في عام 1790 كان في ولاية فرجينيا وحدها 200 ألف رقيق زنجي. وجُلب إلى جزر الهند الغربية، بين عامي (1680 ـ 1700)، 140 ألف رقيق زنجي، جلبتهم الشركة الملكية الإفريقية التي تمتلكها بريطانيا، وفي الوقت نفسه، جَلبَ أفراد من المغامرين التجار 160 ألف رقيق زنجي إلى الجزر نفسها، أي ما مجموعه 300 ألف رقيق. وجُلب إلي جزيرة جامايكا Jamaica وحدها 610 آلاف رقيق بين عاميّ (1700 ـ 1786م)، ويقَدِّر برايان إدواردز أن مجموع ما اجتُلب إلى المستعمرات البريطانية في أمريكا الشمالية وفي جزر الهند الغربية، بين عامي (1680 ـ 1786م)، مليونان و130 ألف رقيق زنجي. ويقدّر توماس عدد الرقيق، الذين غادروا موانئ إفريقيا، بـ 13 مليون رقيق. كانوا يشحنون في البواخر كالبهائم, وتشير المصادر التاريخية إلى أن واحدا من بين كل ستة عبيد لقي مصرعه فى هذه الرحلات بسبب الظروف العسيرة وغير الصحية. فهل عرف التاريخ أسوأ من هذه الانتهاكات لحقوق الإنسان فى تاريخ البشرية؟ أما الرقيق الأبيض فحدث ولا حرج!
خاطرة
ولربَّ نازلةٍ يضيقُ بها الفتى
ذرعاً وعند الله منها المخرَجُ