أهي قفزة كبيرة أخرى للأمام؟
تخيل مدينة أو مستوطنة يسكنها 30 ألف شخص، بالقرب من روسيا على الأرجح. ستكون مختبراتها المتطورة ومنازلها الزجاجية الحديثة رائعة للغاية بحيث تجعل مدينة Palo Alto في كاليفورنيا تبدو قديمة مقارنة بها. ويوجد فيها عدد أكبر بكثير من العلماء من أي مكان آخر في العالم. والأجواء في المدينة متحررة وعالمية وإبداعية، تكاد تكون فوضوية أحيانا. وتكون فيها مضايقات الشرطة عند الحد الأدنى, ويرتفع فيها المستوى الأمني بحيث يتم منع دخول الحثالة والسكارى من القرى المجاورة.
وتخيل أيضا أن تكون الشوارع نظيفة والمحال مليئة بالأغذية العضوية لتحفيز الدماغ. وهنا، في ''المنطقة الحصرية التي تلقى اهتماما خاصا''، تستخرج الدولة طاقة خلاقة من العلماء الروس والأجانب تدفع الدولة على طريق التحديث والابتكار.
ليست تلك مجرد محاكاة ساخرة، بل خطة حكومية وضعها Vladislav Surkov، كبير الأيديولوجيين في الكرملين، في مقابلة جديدة له مع صحيفة Vedomosti الروسية اليومية المتخصصة في الأعمال. وقد كان عنوانها: ''المعجزة ممكنة''. والمعجزة التي يتحدث عنها Surkov هي تحويل الاقتصاد الروسي وتوليد تكنولوجيات جديدة، المجال الذي تتخلف فيه روسيا كثيرا - كل هذا دون المساس بأسس النظام السياسي الروسي.
لقد كان التحديث شعارا اقترحه الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف، في مقال له في أيلول (سبتمبر) الماضي بعنوان ''إلى الأمام يا روسيا!''، تم نشره على موقع إلكتروني ليبرالي. وتساءل ميدفيديف ببلاغة: ''هل يجب علينا سحب الاقتصاد البدائي الذي يستند إلى المواد الخام والفساد المستشري إلى المستقبل؟''. وفي حين أنه اعترف بالمشكلات الكثيرة، من الضعف الاقتصادي إلى الإدمان على الكحول، إلا أنه رسم صورة لروسيا التي تملك سفنا فضائية مسلحة نوويا وأجهزة كمبيوتر متطورة للغاية. باختصار، إذا تمكنت روسيا من تحديث نفسها، ستصبح مرة أخرى زعيمة عالمية.
على الرغم من أن مقال ميدفيديف انتقد من قبل النقاد باعتباره مجرد محاكاة للعمل، إلا أنه أثار نقاشا حاميا بين النخبة. ولم يعارضه حتى أولئك الذين يعتقدون أن الشعار مزيف. وهكذا تركز النقاش على طرق التحديث المختلفة، لكنه لم يشكك في الهدف نفسه, فقد فرض الكرملين أجندته الخاصة.
وسارع النقاد الليبراليون إلى الإشارة إلى أن التحديث في روسيا مستحيل دون التحرر السياسي والتغيير المؤسسي. وقالوا إن الدولة التي حقوق الملكية فيها ضعيفة والتي ترسخ البيروقراطية الساعية لتحقيق الربح قادرة على ابتكار طرق جديدة لانتزاع الرشا وسرقة الشركات، لكنها عاجزة عن إيجاد ثروة فكرية. وكان آخر زعيم سوفياتي، ميخائيل جورباتشوف قد قال إن التحديث مستحيل دون تنفيذ إصلاحات ديمقراطية.
إلا أن تجربة البيريسترويكا (إعادة هيكلة الاقتصاد السوفياتي والبيروقراطية) لجورباتشوف- التي بدأت بالحديث عن التجديد التكنولوجي وانتهت بانهيار النظام السوفياتي- أقنعت الكرملين بتعريف التحديث ضمن الحدود التكنولوجية فقط. ولهذا حذر ميدفيديف من الاندفاع في الإصلاحات السياسية. ويقول أنصاره إن الحكومة الاستبدادية هي الوحيدة القادرة على إدخال الدولة إلى القرن الـ 21. وقال Surkov لصحيفة Vedomosti: ''إن سلطة الدولة الموحدة هي الأداة الوحيدة للتحديث في روسيا. ودعوني أؤكد لكم أنها الأداة الوحيدة الممكنة''.
في ظل ستالين
في التاريخ الروسي، يعد بطرس الأكبر وستالين داعيي التحديث العظيمين وليس ألكسندر الثاني الذي ألغى نظام رق الأرض (إجبار الناس على العمل في الأراضي)، أو جورباتشوف الذي جعل الدولة منفتحة. وفي مقاله يصف ميدفيديف سياسات ستالين الدموية بأنها غير مقبولة. إلا أن الفكرة القائلة إن التحديث الشامل هو الخيار الوحيد المتاح لروسيا لا تزال تهيمن على عقول حكامها.
وقد كتب ستالين عام 1931: ''نحن متخلفون وراء الدول بنحو 50 إلى 100 عام وعلينا سد هذه المسافة خلال عشر سنوات... {هذا يتطلب} حزبا قويا وموحدا بما فيه الكفاية لتوجيه كل الجهود في اتجاه واحد''. ويشرح Andrei Zorin، وهو مؤرخ في جامعة أكسفورد، أن جهود ستالين وبطرس الأكبر كانت تنطوي على الإنشاء القسري لطبقة متعلمة قادرة على توليد، أو على الأقل تكرار أفضل الابتكارات الغربية. والمدينة العلمية التي يتحدث عنها Surkov يتشارك في كثير من الأمور مع مدن البحوث السوفياتية المغلقة التي نشأ معظمها في ظل نظام معسكرات العمل أكثر من الأمور التي تتشابه فيها مع مدينة Palo Alto.
وفي سنوات الثلاثينيات، كان المهندسون السوفياتيون البارزون الذين تم احتجازهم من قبل ستالين يعملون في مختبرات خاصة في السجون داخل معسكرات العمل. وبعد الحرب، حين أمر ستالين بصنع قنبلة ذرية، تم إنشاء مدينة سرية خاصة يعيش فيها علماء الفيزياء النووية براحة نسبية، لكنهم كانوا محاطين مع ذلك بأسلاك شائكة. وفي وقت لاحق، تم إنشاء مئات مكاتب البناء ومعاهد البحوث والمدن العلمية السرية في جميع أنحاء الاتحاد السوفياتي لخدمة المجمع الصناعي العسكري. ونشأت أيضا طبقة من المثقفين الفنيين. وفي الثمانينيات، أصبحت هذه الطبقة من الأشخاص المتعلمين - الذين كانوا يتمتعون بحرية أكبر وغذاء أفضل من بقية الدولة، لكنهم كانوا يتلقون أجورا منخفضة وممنوعين من السفر إلى الخارج - قاعدة الدعم للبيريسترويكا. إلا أن هذه الطبقة أيضا هي التي تضررت جراء إصلاحات السوق في التسعينيات.
ويعترف Anatoly Chubais، الذي وضع ونفذ الإصلاحات بصفته المسؤول في عهد بوريس يلتسين عن الخصخصة: ''لقد دعمونا عام 1991 ومعظمهم لم يحصل على شيء من الإصلاحات''. وفي تلك الأيام كان Chubais يرأس مؤسسة حكومية مكلفة بإنتاج تكنولوجيات النانو، وهو مشروع بالغ الأهمية بالنسبة إلى جهود التحديث للكرملين، وكان سيتم تكليفها ببناء سيليكون فالي للكرملين. وهو يقول إن الوقت قد حان لتمكين طبقة المثقفين الفنيين مرة أخرى، وإعادة إنشاء طبقة اجتماعية ستطالب مع الوقت بالتحرير وتصبح، كما فعلت في الثمانينيات، حافزا للتغيير. ويقول Chubais: ''حين يصبحون جزءا من الاقتصاد الروسي، سيصبحون جزءا من الحياة السياسية في روسيا''.
ويقول Zorin إن هذا النوع من الهندسة الاجتماعية هو سر فهم مشكلة اليوم. فالنظام الاستبدادي أوجد طبقة متعلمة تحررت من الدولة بسبب تفوقها الفكري؛ ثم أضعفت الدولة، وغالبا ما دفنت في حطامها. ويؤكد Zorin أن المشكلة هي أن هذه الطبقة لا تستطيع العيش وحدها. ''فهي على صراع مع الدولة، لكنها لا تستطيع الوجود من دونها.'' والمشكلة الثانية هي أن التحديث الذي أحدثه كل من ستالين وبطرس الأكبر كان مدفوعا بأهداف عسكرية واضحة. وفي الاقتصاد الإبداعي الحالي، من الأصعب بكثير الطلب من العلماء ما يجب اختراعه.
رثاء خودوركوفسكي
يقول Chubais إنه من أجل تحديث روسيا، من المفضل تحقيق التحرر السياسي، لكنه ليس ضروريا, فإصلاح القانون الضريبي أو تعديل قانون الجمارك على القدر نفسه من الأهمية. وفي النهاية، حققت الأنظمة الاستبدادية مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية والصين قفزات كبيرة إلى الأمام دون التحرير. لكن كما يشير السياسي الليبرالي الروسي Vladimir Ryzhkov، فإن تحقيق ما حققته سنغافورة يتطلب على الأقل وجود حقوق ملكية قوية، وسيادة القانون، والمنافسة، والقدرة على مكافحة الفساد. ولا يوجد في روسيا أي من هذا.
ويوضح Yegor Gaidar، وهو إصلاحي وصديق قديم لـ Chubais، معضلة روسيا في كتاب تم نشره قبل وقت قصير من وفاته في كانون الأول (ديسمبر) الماضي. فقد كتب يقول إن نهاية الاشتراكية لا تؤدي تلقائيا إلى إيجاد سوق حرة تنافسية، لكنها ربما تؤدي، كما حدث في روسيا، إلى إنشاء نسخة خطيرة من الرأسمالية تعد فيها البيروقراطية الدولة ملكيتها وتستخدم آلياتها لتحقيق الثراء الشخصي.
وتعيش النخبة الحاكمة في روسيا، التي تتكون من بيروقراطية فاسدة والأجهزة الأمنية وبعض أعضاء حكومة القلة، من إيجارات الموارد الطبيعية أو التدخل الإداري في السوق. وتقوض المنافسة وسيادة القانون هذا الترتيب. أما الفساد فيحافظ عليه ويضمن ولاء البيروقراطية.
وأبرز مثال على النزاع بين التحديث الحقيقي والمصالح المكتسبة لهذه البيروقراطية هو ميخائيل خودوركوفسكي، الذي كان في السابق أغنى رجل في روسيا فيما هو الآن أشهر سجين سياسي فيها. وقد رد خودوركوفسكي على بيان ميدفيديف بسؤال مهم: ''إذا تم اتخاذ القرار السياسي المتلعق بالتحديث في روسيا اليوم، فمن الذي سيقوم بتنفيذه؟''.
من الواضح بالطبع أنه لا يمكن للنخبة البيروقراطية الفاسدة أو الأجهزة الأمنية تنفيذ هذا القرار. وكتب خودوركوفسكي يقول إن المطلوب هو ''شريحة اجتماعية كاملة - طبقة تحديثية مكتملة تعد التحديث مسألة بقاء ورد الجميل لدولتها''. وفي الواقع، كان خودوركوفسكي يمثل هذه الطبقة من الناس وقد حاول أن يشجعها حين مول مدارس داخلية للأيتام ودروسا في الكمبيوتر لمدارس القرى وبرامج المجتمع المدني للصحافيين والسياسيين. ولهذا كان خطرا يهدد النظام.
وكانت مشكلة خودوركوفسكي الأخرى هي أنه كان يتصرف كمالك خاص لشركة النفط الكببرة الخاصة به، ورفض تقبل هيمنة بيروقراطية الدولة. وقد حولت مصادرة شركة Yukos من قبل البيروقراطيين خودوركوفسكي إلى رمز لحقوق الملكية، تماما مثلما أصبح Andrei Sakharov رمزا لحقوق الإنسان في الاتحاد السوفياتي.
وكما يقول Gaidar، إذا كان تحديث الدولة أولوية حقيقية، لكان لدى الدولة مساحة اجتماعية واقتصادية واضحة لتنمية المجتمع، ما يعني بدوره التوقف عن الإغارة على الشركات والتركيز على المهام الرئيسية، وهي التعليم والرعاية الصحية ومساعدة الفقراء. ولا يوجد كثير مما يدل على ذلك. وفي الواقع، يعزز كل من فلاديمير بوتين، رئيس الوزراء القوي، وميدفيديف ثقافة عبادة الدولة باعتبارها القوة الوحيدة القادرة على إعادة العظمة والاحترام لروسيا.
ولا يمثل بيان ميدفيديف في أيلول (سبتمبر) اختلافا عن ثراث بوتين, بل على العكس تماما. فطالما ظل الاقتصاد الروسي ينمو، يعطي الخيار الاستهلاكي والاستقرار الدولة الشرعية. وبما أن الأزمة كشفت الآن عن مدى ضعف الاقتصاد الروسي، يوفر التحديث مبررا جديدا لوجود الدولة. والدولة أساسية في كلتا الحالتين, فالتحديث في أحسن الأحوال هو مجرد ستار للحفاظ على الحالة الراهنة، وفي أسوأ الأحوال طريقة للحصول على مزيد من الأموال العامة.
ومع ذلك، أثير الآن نقاش عام غير مسبوق حول ما يجب أن تكون عليه أولويات الدولة. وتحت غطاء هذا النقاش، نشر معهد التنمية المعاصرة، وهو معهد فكري مقرب لميدفيديف، مقالا يدعو فيه لاستعادة الانتخابات الإقليمية واحترام الدستور والقضاء على الشركات التابعة للدولة والشرطة السرية الفيدرالية. ولا يثق مؤلفو المقال كثيرا بأن الكرملين سيوافق على اقتراحاتهم, فبوتين، وليس ميدفيديف، هو الذي يمارس السلطة هناك, لكنهم يشعرون أنه حتى المناقشة المحدودة لهذا الموضوع أفضل من لا شيء.
وكشف النقاش أيضا عن استياء شديد من النظام السياسي الحالي بين نخبة رجال الأعمال, ففي منتدى عقد أخيرا في Krasnoyarsk للاقتصاديين وكبار رجال الأعمال والسياسيين، بمن فيهم بعض أعضاء حزب روسيا المتحدة الموالي للكرملين، كان هناك اتفاق على أن الدولة ليست مستعدة للتفاوض مع المجتمع، ناهيك عن السماح له بالسيطرة عليها، وأن المؤسسات القائمة هي مجرد أداة لإعادة توزيع الملكية. ودون وجود منافسة سياسية حقيقية، ستبدد روسيا مواردها وتصبح عاجزة عن التحديث.
إلا أن المسألة الرئيسية بالنسبة لروسيا هي كيفية تحقيق ذلك. والمشكلة هي أن التبجح بالتحديث، الذي يعني أن النجاحات التكنولوجية ستجعل روسيا قوة عالمية عظيمة مرة أخرى، يعني وضع أولوية خاطئة. وتعلم العيش كدولة إمبريالية سابقة وفقا لإمكاناتها بدلا من طموحاتها، وتعلم إظهار مزيد من الرعاية للحياة والكرامة الإنسانية، أمر أكثر أهمية في مجال تجديد روسيا من الفوز في السباق الجيوسياسي.
لقد كان Surkov محقا تماما حين قال إن الديمقراطية لن تحفز الابتكار الفني. لكن السبب في ذلك هو أنه في ظل الحكم الديمقراطي، قد تجد الدولة التي يتناقص فيها عدد السكان وترتفع فيها معدلات العيوب الخلقية الولادية بصورة مخيفة التي تعاني بنية تحتية متفككة ومدارس متدهورة استخداما أفضل لأموال دافعي الضرائب بدلا من صبه في أحلام Surkov بإنشاء سيليكون فالي