تغيير خريطة الرعاية الصحية في عصر العولمة
تجرى في أيامنا هذه مناقشة إصلاح نظام الرعاية الصحية بشكل محموم في الأوساط السياسية، والطبية، والتجارية في شتى أرجاء العالم. وفي البلدان النامية، يبدو أن المليارات من الدولارات التي يتم إنفاقها على احتواء انتشار مرض نقص المناعة المكتسبة الإيدز، والأمراض الوبائية الأخرى مثل: السل والملاريا، تظهر بعض النتائج الإيجابية. وفي أوروبا، فإن تكلفة الرعاية الصحية التي تدعمها الحكومة لها تأثير سلبي في الناتج المحلي الإجمالي، بينما في الولايات المتحدة، يمكن القول إن إدارة أوباما نجحت بأكبر الجهود طموحاً في البلاد لتوفير تغطية شاملة لنحو 47 مليون شخص في البلاد لا يشملهم التأمين الصحي.
وكانت معالجة هذه القضايا هي الفكرة الرئيسية في القمة التي عقدها خريجو إنسياد للرعاية الصحية أخيرا.
وأكدت إليزابيث تيسبيرج، المؤلفة المشاركة لكتاب إعادة تعريف الرعاية الصحية Redefining Healthcare، ومستشارة الرعاية الصحية لمجلس الشيوخ الأمريكي في خطابها الرئيسي, اللهجة العملية، والحاجة إلى التغيير. وفي الولايات المتحدة، فإن نسبة 65 في المائة من تكاليف الرعاية الصحية تعود إلى «معالجة الأمراض المزمنة، والرعاية طويلة الأجل»، حسبما تقول تيسبيرج، وهي كذلك أستاذة مساعدة في كلية داردن لإدارة الأعمال في جامعة فيرجينيا. وتضيف: «إن هيكل التكلفة، على أية حال، يعتمد على الرعاية الدقيقة، وهذا يشكل تناقضاً استراتيجياً».
وتتحدى تيسبيرج الجدل حول الرعاية الشاملة الصاخب حالياً في الولايات المتحدة بقولها: «هنالك فعلياً رعاية شاملة في الولايات المتحدة: إنها غرفة الطوارئ، والرعاية المقدمة في هذا المكان. والمراحل الأخيرة من المرض أو الحالة هي الأكثر تكلفة، والأقل فاعلية من الرعاية المبدئية. وإن حقيقة أن عديد في الولايات المتحدة غير مشمولين بالتأمين الصحي تدفع التكاليف إلى أعلى. فتكلفة الرعاية الصحية في الولايات المتحدة أكثر بثلاثة أضعاف من مثيلتها في أوروبا».
يؤكد د. كال شويتزر (خريج إنسياد في الماجستير في إدارة الأعمال عام 1990)، نائب رئيس شركة ميدترونك نورموديوليشن لمنطقة أوروبا، وروسيا، وآسيا الوسطى, أن «الصحة هي ثروة». وكان شويتزر أحد المؤلفين المشاركين في تقرير رسمي يحمل شعار السابق، ويقول: «علينا أن نتخلص من فكرة أن الرعاية الصحية تشكل عبئاً، وأن نركز على زيادة الحياة الإنتاجية للأشخاص».
ويوضح شويتزر إن ميدترونيك التي اخترعت جهاز منظم ضربات القلب الذي يتم زرعه في الجسم في ستينيات القرن الماضي، تركز على جراحة الأعصاب في هذه الأيام، لأنها تسمح لسكان العالم المتقدم في السن بشكل متزايد على العمل بالمزيد من الكفاءة بواسطة الأجهزة المزروعة التي يمكنها أن تحفز الأنظمة العصبية الساكنة، وتحتوي الألم، وحتى إنها تسيطر على الأجهزة التي أصبح من غير الممكن السيطرة عليها (مثل التبول اللاإرادي). وتلقت الشركة حديثاً موافقة وكالة العقاقير الاتحادية، والاتحاد الأوروبي، على جهازها للسيطرة على السلوك العدواني القهري.
لكن في حين أن هذه الأجهزة تفعل العجائب كما تبدو، إلا أن هناك نتيجة قاسية للأمر حسبما يقول شويتزر: «إن كل ما نفعله يجب أن يمر في تقييم الأثر الاقتصادي. ومن وجهة نظر التعويض، هل سوف يدفع تكاليف صنعه؟».
ويذكر أندريه هوفمان (خريج إنسياد في الماجستير في إدارة أعمال عام 1990)، نائب رئيس روش Roche، وعضو مجلس إدارة إنسياد: «إن الرعاية الصحية مكلفة. ولا يستطيع الدافعون زيادة السعر الذي يدفعونه، ولا تستطيع المستشفيات أن تقدم الرعاية المناسبة، وتزيد التنظيمات الحكومية الصارمة من التكاليف، وتؤخر دخول العلاج إلى السوق، وعلى كل جهة أن تقوم بدورها لتقليل التكاليف».
إن هوفمان معني كذلك بما يصفه بالأزمة في الابتكار. ويزعم قائلاً: «إن الحجم والابتكار مرتبطان بعلاقة عكسية»، ويشير إلى أن الشركات الكبرى غير راغبة في أخذ المخاطرة، والوقت، وإشراك الموظفين، في الوقت الذي من الصعب للغاية استرداد ذلك الاستثمار.
ويضيف: «إن أبحاث روش منظمة حول مجالات إدارة على الأمراض من أجل تحديد أهداف جهودنا على نحو أفضل، وسوف نتطلع إلى شركة جينيتك شركة المنتجات الدوائية الأمريكية التي اشترتها روش هذا العام لتنفيذ كثير من الأبحاث والتطوير».
أحد أكبر التحديات التي تواجهها الرعاية الصحية في أيامنا هذه لا يتعلق بالابتكار من أجل المستقبل فحسب، وإنما كذلك احتواء الأمراض الوبائية. ويعتبر مرض نقص المناعة المكتسبة / الإيدز، والسل، والملاريا ثلاثة أمراض من بين الأسوأ. ويقول د. ريفات أتون، مدير الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز، والسل، والملاريا: «هناك أكثر من 30 مليون شخص يعانون مرض نقص المناعة المكتسبة في يومنا هذا، ونحو مليوني حالة جديدة سنوياً. ونحو ثلث سكان العالم مصابون بمرض السل، وثمانية ملايين من هؤلاء يصبح مرضهم نشطاً في كل عام، ويموت نحو مليوني شخص منهم. وتصيب الملاريا 250 مليون شخص سنوياً، والغالبية العظمى من وفيات مليون شخص بسبب هذا المرض هم من الأطفال. ويعتقد الصندوق العالمي الذي تم تأسيسه في عام 2002 أنه أحرز بعض التقدم خلال السنوات السبع التي أعقبت تأسيسه.
على جبهة مرض نقص المناعة المكتسبة، بإمكاننا القول إن الوباء في تراجع، أي أن معدل الزيادة في انخفاض، وكذلك الأمر عدد الوفيات نتيجة الإيدز. ونشهد في عدد من البلدان أن عدد النساء الحوامل ممن يعانين مرض نقص المناعة المكتسبة «الإيدز» في تراجع كذلك، حسبما يقول أتون، حيث يضيف: «فيما يتعلق بمرض السل، فقد وافقت منظمة الصحة العالمية على معالجة 4.5 مليون شخص منذ عام 2004، وفيما يتعلق بمرض الملاريا، فإن تثبيت شبكات معالجة بمبيدات الحشرات على الأسرّة أسهم في تخفيض مستويات الوفيات بشكل كبير.
إن تقديم الرعاية الصحية يمثل تحدياً في كل مكان، ولكنه صعب على وجه الخصوص في بلدان العالم الثالث حيث الفساد، والقلاقل السياسية تضع عوائق هائلة. ويقول أتون إن الابتكار هو الوسيلة لتفادي كل هذا. ويقول: «دعونا البلدان إلى تقديم اقتراحات، ونحن الآن في الجولة التاسعة، وتقوم لجنة مراجعة مستقلة بتقديم التوصيات (أو عدمها) بشأنها إلى المجلس. وهناك عدة أسابيع من التقييم المكثف، ثم التفاوض بشأن العقود بين الحكومات واللاعبين من غير الدول والذي يمكن أن يستغرق عدة شهور. ويستغرق الأمر بعض الوقت لأن هذه مشاريع وطنية، تراوح قيمتها بين عدة ملايين إلى مئات الملايين من الدولارات». ولكن يذهب بعض أموال الصندوق العالمي إلى دفع التكاليف الأساسية، دفع تكاليف العاملين في مجال الرعاية الصحية في أماكن مثل مالاوي. ويقول أتون: «قمنا بتمويل عدد كبير من عمال الصحة في هذه المنطقة. وفي بعض الحالات، فإننا ندفع رواتب العمال الموجودين، وفي أماكن أخرى نقدم الحوافز المالية، والأموال اللازمة للتعيين والاستبقاء. ويشكل استبقاء العاملين في المجال الصحي مشكلة بالنسبة إلينا».
إنسياد والجدل
بشأن الرعاية الصحية
يقول ستيفن تشيك، المدير الأكاديمي لمبادرة إداة الرعاية الصحية في إنسياد، ويشغل كرسي نوفارتيس لإدارة الرعاية الصحية: «إن ابتكار المعرفة والمشاركة بها هما ما نهتم به. وإن قطاع الرعاية الصحية يحصل على علاجات جديدة، ويعمل على التقدم الأفضل، وعلى تحسين إدارة الابتكار والمخاطر في نظام الرعاية الصحية بأكمله».
يأتي معظم أموال الصندوق العالمي من الحكومات (الولايات المتحدة، واليابان، والاتحاد الأوروبي، والبلدان الأعضاء، على وجه الخصوص فرنسا، والمملكة المتحدة، وإيطاليا، والبلدان الاسكندنافية)، ونحو 6 في المائة من القطاع الخاص ومنظمات مثل مؤسسة بيل وميلندا جيتس. وهنالك بعدئذ الأهداف المشتركة في التسويق مع متاجر مثل ستاربوكس Starbucks، وغاب The Gap. ويقول أتون: «مقابل كل منتج يباع في متاجر مثل هذه، تذهب نسبة من العوائد إلى الصندوق العالمي ليتم استثمارها في البلدان المعنية».
تعتبر جنوب إفريقيا أحد هذه البلدان، وهي بلد تجمع بين العالمين المتقدم وغير المتطور ضمن حدودها. وحين وصل غيرت هوغلاند (خريج إنسياد في الماجستير في إدارة الأعمال عام 1985) من موطنه هولندا، قام بتأسيس فارما بلان قبل عدة سنوات لمساعدة شركات المنتجات الدوائية صغيرة ومتوسطة الحجم على الدخول إلى السوق. ويقول هوغلاند: «إن عديدا من هذه الشركات الأصغر حجماً لا يمكنها أن تجتاز بمفردها بعض المتطلبات الحكومية ليكون لها نشاط عملي في جنوب إفريقيا، ولكن لديها الأدوية المناسبة للسوق. وبناءً عليه، فإننا نعمل كنوع من متجر متعدد الأقسام حيث يتم عرض بضائعها على رفوفنا». ورغم أن جنوب إفريقيا موطن لثلاثة أوبئة يعنى بها مزودو الرعاية الصحية أكثر ما يكون: مرض نقص المناعة المكتسبة «الإيدز»، والسل، والملاريا، إلا أن الحكومة لا تقدم أية حوافز مالية إلى شركات منتجات الأدوية. ويقول هوغلاند: «إن الحكومة لا تفرض أي رسوم على الواردات، لذا فإنها سوق مفتوحة. وهنالك مزايا للإنتاج محلياً، وبشكل خاص إذا كان لديك شريك التمكين الاقتصادي للسود».
لا توجد وسيلة لفصل تمويل الرعاية عن تزويدها، حسبما استنتج المشاركون في قمة إنسياد للرعاية الصحية، ولكن يمكن التشكيك في أدوات القياس. ويقول شويتزر من مدترونيك: «إن هذا الجدل حول النسبة الصحيحة من الناتج الإجمالي المحلي التي يجب إنفاقها على الرعاية الصحية جدل خاطئ. والجدل الصحيح هو ماذا علينا أن نفعل لإبقاء السكان منتجين لفترة أطول؟».
تقول تيسبيرج: «إن الرعاية الصحية فعلياً عبارة عن كلمتين، الصحة، والرعاية. وعلينا أن نعمل على تحسين الاثنين».
وانعقدت قمة الرعاية الصحية لخريجي إنسياد في بازل، سويسرا، بمشاركة نحو 150 شخصاً من شتى أرجاء العالم في مناقشات اللجنة حول ثلاثة مواضيع رئيسية: إعادة اختراع ابتكار الرعاية الصحية، الرعاية الصحية للمستهلك – عن قرب وبشكل شخصي، وقطاع عمل الرعاية الصحية في عصر العولمة.