لماذا نجحت صناعة المال الإسلامي في السودان؟ .. الصكوك والأوراق المالية

لماذا نجحت صناعة المال الإسلامي في السودان؟ .. الصكوك والأوراق المالية

قد تسمع عن شهاب ويتبادر إلى ذهنك سلاح من نوع ما مطور في مناطق ساخنة من مثل غزة أو باكستان أو حتى إيران، وقد تسمع عن صرح ليتبادر إلى ذهنك مجمع تجاري ضخم في دبي أو شركة عقارية هنا أو هناك من عالمنا العربي الذي اجتاحته حمى العقار في فترة ما، وقد تسمع عن شهامة ليتبادر إلى ذهنك رواية عربية أصيلة وقصة أحد الفرسان، كل هذه الأسماء، وبغض النظر عما سيتبادر إلى ذهنك، مترجمة بمعان أخرى وعبارة عن أسلحة من نوع آخر تطلق من السودان الذي صنفه البنك الدولي بـ CCC، وذلك على ما أعتقد بسبب المخاطر السياسية التي يتفنن السياسيون الغربيون بتأريقه بها، ولكنها أسلحة من المهم الإشادة بها لأنها أسلحة اقتصادية بمستوى رفيع.

هي أسلحة اقتصادية إسلامية حكومية متقنة الصنع تهدف لإمداد مناطق بالمدارس، والمستشفيات، والمجمعات التجارية، ومصانع المنتجات الزراعية بحسب الخطة التنموية للبلاد، لا تهدف إلى القتل بل إلى الإحياء، لا تهدف إلى الاقتراض من الأجنبي بل تهدف إلى الاقتراض من الشعب لصالح الشعب.

لندخل في تقنيات عملية هذه الإصدارات، إنها تندرج في المالية الإسلامية تحت مسمى الصكوك الحكومية، وهي بديل السندات التقليدية مدعومة بأصول حقيقية وملموسة ومشاريع تنموية ذات ملاءة ذاتية، ومن خلالها يتم إمداد الدولة بتمويل وطني، إضافة إلى أنه من الممكن تداولها في سوق الأوراق المالية.

المعطيات الديموغرافية والاقتصادية في السودان:

يبلغ التعداد السكاني للسودان بحسب آخر الإحصائيات ما يزيد على 39 مليونا و154 ألف شخص، وفي السودان ثروات طبيعية أهمها الثروة الزراعية، وهو يعد من الدول الأولى حول العالم في تصدير الصمغ العربي ومحاصيل مهمة مثل السمسم والقطن وغير ذلك، إضافة إلى زراعة الفاكهة البستانية المتنوعة، أما الثروات الأخرى ومنها البترول فإن السودان قد بدأ مرحلة الإنتاج بالرغم من المعيقات السياسية من حصار وغيره.

تاريخ صناعة المال الإسلامي في السودان

بدأت أسلمة النظام المالي في عام 1984، وكان هذا التوجه مدعوما بقرار سياسي موحد، وكذلك بتنفيذ ممنهج من إدارات المؤسسات المالية الإسلامية، وبالرغم مما يعتري هذه المؤسسات الحكومية من تقصير في متابعة آخر التطورات التقنية في العمل المؤسساتي الحديث إلا أنها ما زالت قادرة على السيطرة على معطيات التنفيذ لأي إصدارات مالية أو مؤسسات تابعة كالبنوك الإسلامية وشركات التأمين والشركات المساهمة المدرجة في سوق الخرطوم للأوراق المالية.

شكل السودان سوق الخرطوم للأوراق المالية في بداية التسعينيات رغم أن الفكرة بدأت منذ عام 1962 (بحسب ورقة قدمها السيد عثمان خير مدير عام سوق الخرطوم للأوراق المالية في ملتقى الخرطوم للاستثمار المالي 2/2010)، وقد أجاز المجلس الوطني الانتقالي سوق الخرطوم للأوراق المالية، وبموجب هذه الإجازة أصبح سوق الخرطوم للأوراق المالية كيانا قانونيا مستقلا وتم افتتاح السوق الثانوية في يناير 1995 وحاليا تتم مدارسة إنشاء سوق للسلع في ولاية القضارف، وهي إحدى أهم الولايات الزراعية، وتم التوقيع على اتفاقية تعاون ما بين ولاية القضارف وسوق الخرطوم للأوراق المالية فيما يتعلق بسوق السلع وتنظيم التداول. بلغ عدد الشركات في السودان ما يقارب 600 شركة، المدرج منها في السوق المالي لا يتجاوز 250 شركة، والسبب في قلة عدد الشركات المساهمة المدرجة أن هذه الشركات في معظمها عائلية وأصحابها لا يرغبون في تحويلها إلى مساهمة عامة خشية الهيمنة عليها من خارج العائلة.

إن المعطيات السياسية الحالية المتوترة الآن لم تؤثر في أداء سوق الخرطوم للأوراق المالية، بل بالعكس فإنها تشهد تداولا محليا نشطا. ومن اللافت للنظر أيضا الوعي النسائي الاستثماري في الأوراق المالية المدرجة. حاليا تعمل سوق الخرطوم للأوراق المالية على تحويل أسلوب التداول القديم إلى أسلوب حديث بقاعات وشاشات إلكترونية، وقُدم برنامج للتداول الإلكتروني والإيداع المركزي كهدية من سوق مسقط للأوراق المالية، إضافة إلى أن السوق قد وقعت في عام 2010 اتفاقية لتركيب وتشغيل برنامج التداول الإلكتروني، ويهدف هذا المشروع - من ضمن أهداف أخرى - إلى تحسين أداء عمليات التداول ورفع كفاءتها، تحسين دقة وكفاءة عمليات التسوية والتقاص، تطوير نظم للمراقبة والتحكم في عمليات التداول والتسوية والتقاص، إضافة إلى تقليل الوقت والجهد المبذولين في عمليات التداول المختلفة، وتشجيع الاستثمار الداخلي والخارجي، وذلك بتوفير البيانات الملائمة والخاصة بتبادل الأسهم والصكوك وكافة المنتجات المالية للمساعدة في اتخاذ القرار.

شهدت سوق الخرطوم للأوراق المالية ارتفاعا في حجم التداول بلغ في عام 2009 ما يزيد على 2.25 مليار جنيه سوداني بارتفاع بنسبة 19.5 في المئة على عام 2008، وقد اعتبر المحللون عام 2008 عاما لصكوك الصناديق الاستثمارية في السودان، إضافة إلى صكوك شهادات المشاركة الحكومية (شهامة) بحجم تداول يعادل 89 في المئة من إجمالي حجم التداول، وقد أطلق المحللون أيضا على عام 2009 عام الصكوك كاستمرارية لنجاح هذه الأداة والإقبال على تداولها.

كيف تعمل الصكوك في السودان؟ وما البنى التحتية الداعمة؟

إن من متطلبات الهيكلة الرئيسية للصكوك توافر أداة خاصة أو شركة بأهداف خاصة لتقوم بإدارة الأصول بما يحقق الأهداف النهائية للتصكيك (SPV)، إضافة إلى شراء بقصد التملك للضمانات الحكومية عن طريق عقد بيع واضح، يصب في مصلحة الحرص على مصالح المستثمرين وكذلك الأصول المدعمة للإصدار، وهذه الأداة المهمة حملت في السودان اسما خاصا وهو شركة السودان للخدمات المالية المحدودة، والبعض يحبذ تسميتها بالوكيل (AGENT)، وتعمل هذه الشركة على طرح وإدارة الإصدار، وقد تم إنشاؤها بواسطة بنك السودان (البنك المركزي) بنسبة 99 في المئة ووزارة المالية والاقتصاد الوطني بنسبة 1 في المئة، وسُجلت لدى المسجل العام للشركات تحت قانون الشركات لسنة 1925 في 16/5/1998، وهي البنية التحتية الأساسية الأولى التي تعنى بأعمال الإدارة والتصرف في الأنصبة والحصص المملوكة للحكومة وهيئاتها عن طريق إصدار الصكوك الاستثمارية الحكومية (صرح) وفقا لعقود التمويل الإسلامي المختلفة، وكذلك تعمل على التنسيق مع الجهات المختصة بوزارة المالية، وبنك السودان، وسوق الخرطوم للأوراق المالية وأي أسواق إقليمية أو عالمية لتطوير الأدوات المالية الإسلامية وإصدارها، وتحدد نسبة ربح الشركة في الغالب على استثمارات الصندوق بمجموع عوائد عقود استثمارية بين رب المال (المستثمر) بنسبة 92 في المئة، والمضارب (الشركة) بنسبة 8 في المئة، نفذت الشركة عن طريق صكوك الاستثمار(صرح) مشروعات تتعلق بتوطين العلاج في الداخل باستيراد المعدات الطبية المتطورة، بناء مشروعات تأهيل النقل النهري والسكة الحديدية بما يعادل نحو 14 مليار جنيه لمواكبة متطلبات ما بعد السلام، ومشروعات المياه بكل من ولاية البحر الأحمر وولاية النيل الأبيض وشمال كردفان وجنوب دارفور، وعملت على تمويل برنامج لمصلحة التعليم وبناء سد مروى ومشروع سندس الزراعي.

أما فيما يتعلق بالإصدارات الاستثمارية الحكومية (شهامة) فهي تهدف إلى إدارة السيولة على مستوى الاقتصاد الكلي عبر ما يعرف بعمليات السوق المفتوحة بالتحكم في السيولة قبضا أو بسطا في ظل أحكام الشريعة الإسلامية، إضافة إلى تغطية جزء من عجز الموازنة، وبذلك فهي تقوم بتجميع المدخرات المحلية، وهذه الأوراق المالية تعتبر أداة مساعدة في تطوير رأس المال وسوق الأوراق المالية كأداة من أدوات السياسة النقدية، وهي بذلك تمكن البنك المركزي من تخطيط وتنفيذ سياسة نقدية فاعلة متطابقة مع الشريعة في إطار السياسات النقدية والمالية للدولة.

هذه الشهادات ذات ميزات منها:

- إنها متطابقة مع أحكام الشريعة الإسلامية.

- ذات مخاطر استثمارية متدنية.

- مدعمة بأصول في وحدات اقتصادية متميزة بربحيتها العالية وإدارة كفؤة في قطاعات اقتصادية استراتيجية منها “سوداتل”، الهيئة القومية للكهرباء، هيئة الطيران المدني، هيئة الموانئ البحرية ....).

- تعد ضمانة من الدرجة الأولى للتمويل الممنوح من الجهاز المصرفي إضافة إلى أنها سريعة التسييل، حيث إنه يمكن بيعها في أي وقت وبسهولة في سوق الخرطوم للأوراق المالية عبر شركات الوكالة.

أما شهادات إجارة البنك المركزي (شهاب) فهي تصدر عن صندوق ليس له نهاية (مفتوح المدة) وهي حصرية على المصارف والصناديق والمؤسسات المالية التابعة للقطاع العام، ويتم تسجيل شهادات الصكوك التي تم تخصيصها باسم الجهة مقدمة الطلب في سجل خاص يتم إعداده بواسطة شركة السودان للخدمات المالية المحدودة (الوكيل عن المستثمرين وهي المؤجر والمدير)، ويتم التداول في هذه الصكوك في السوق حسب اللوائح والإجراءات المحددة، كما يمكن تداولها في سوق ما بين البنوك.

إن إجمالي الإصدارات يُشكل ما نسبته 5.8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، والصكوك تراوح مدتها بين ستة أشهر إلى ست سنوات وهي بذلك ذات حجوم كبيرة، إضافة للآجال المختلفة، وتتمتع الصكوك في السودان برقابة شرعية مستمرة وتنعقد اجتماعاتها باستمرار وتجيب عن أسئلة الجمهور بشفافية، إضافة إلى عملها الرقابي على أدوات التمويل الإسلامي وتحديدا الصكوك في كافة مراحل الإصدار والتداول ولحين الإغلاق.

التحديات التي تواجه الاستثمار في السودان

إن البيئة السودانية تعد من البيئات الواعدة للاستثمار خاصة الاستثمار الزراعي الذي يُعد الذهب الأخضر إلا أنها تواجه تحديات عديدة وأهمها التحدي السياسي الذي ينتظر البت فيه، وفي حال تقسيم السودان لشمال وجنوب بحسب اتفاقية السلام فإن الأمر يتطلب نظاما ماليا مزدوجا تحت مظلة موحدة ومقبولة سياسيا أي بنك مركزي موحد ووحدة نقدية واحدة، وفي حال حدث ذلك بحسب توقعات فئات من الشعب السوداني فإن الأمر يصبح حالة متفردة وغير مسبوقة لغاية اللحظة وهي التحول من النظام الإسلامي بالكامل إلى نظام إسلامي وتقليدي، وكل ذلك يحتاج إلى جهود تنظيمية، إضافة إلى التحديات التقنية والإدارية.

أما التحديات التي تواجه صناعة المال الإسلامي ككل من مثل هيئة شرعية مركزية، إضافة إلى متخصصين في فقه المعاملات المالية الإسلامية والمعاملات التمويلية المعاصرة فإن الخبراء في السودان لديهم إيجابيات عديدة في هذا الاتجاه بخبرات متخصصة رفدت الصناعة ككل بأفكار إيجابية، إضافة إلى دعم بنك السودان (البنك المركزي)، ولكن التحدي الحالي يتوقف على الصورة السياسية للسودان في المرحلة المقبلة، وبالرغم من كل ذلك فقد رسم السودان صورة مشرفة لصناعة المال الإسلامي عبر المؤسسات المصرفية والتكافل، وما لمسناه من الشعب السوداني والمسؤولين فيه، أن الأمر بات عدا للأيام والساعات في سبيل الوصول إلى استراحة المحارب فيما يتعلق بمسيرة مالية إسلامية رائدة لم يتم توثيق تفاصيلها لغاية اللحظة.

الأكثر قراءة