توسع الخدمات المالية الإسلامية يزيد الاهتمام بالقانون الإسلامي
يقول بابر جوهانسن، مدير برنامج الدراسات القانونية الإسلامية، وبيري بيرمان، مديره المشارك، إن هذا المركز مكرس لتحقيق التميز في دراسة القانون الإسلامي من خلال أساليب موضوعية مقارنة، حيث إنه حريص على تعزيز جو من الاستفسارات المفتوحة التي تضم مفاهيم متعددة، وكذلك تشجيع تقدير عميق للقانون الإسلامي كواحد من الأنظمة القانونية الرئيسية في العالم، مع تركيز خاص على دور هذا القانون في عالمنا المعاصر.
كانت هذه الدراسة قد ظهرت للمرة الأولى في صيغة محاضرة ألقيت في كلية هارفرد للقانون في شهر مايو من عام 2008، حيث كان الدكتور بالز زميل بحث في برنامج الدراسات القانونية الإسلامية، إذ إنه من كبار الأساتذة المتعمقين في التمويل الإسلامي، والنظام المصرفي الإسلامي. وتنبع وجهات نظره من خبرة واسعة النطاق في القانون، حيث سبق له أن تخصص في الشؤون القانونية المتعلقة بتمويل الشركات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وذلك ضمن عمله، وشراكته في الشركة القانونية الألمانية المعروفة، جليس لوتز. وهو كذلك أستاذ معروف، ويعد من المرجعيات الموثوقة في الدراسات الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط على وجه العموم.
يقول هذا الأستاذ إن التمويل الإسلامي مجال حديث النشأة، ولكنه ينمو بنسبة تزيد على 10 في المائة سنوياً. وأهم ما يميز هذا النوع من التمويل هو الالتزام بقواعد ومبادئ الشريعة الإسلامية التي تركز كثيراً على العدالة الاجتماعية، والمساواة، وترفض بشدة جميع صور وأشكال الممارسات اللاأخلاقية، وتركز على رفض الربا المعروف على نطاق النشاط المصرفي التقليدي في العالم باسم الفائدة.
ويعرف القانون الإسلامي بين علماء الشريعة من ذوي الاختصاص فيه بأنه مجموعة القواعد القانونية التي قام بتطويرها علماء الدين الإسلامي من خلال تفسيرهم القرآن والسُنّة. وقد توسع التمويل الإسلامي الذي بدأ قبل نحو 50 عاماً كي يصبح نظاماً يزداد انتشاراً على صعيد النشاطات المصرفية في مختلف أرجاء العالم. ويأتي قانون التعاقد الإسلامي ضمن أهم ركائز التمويل الإسلامي.
والمعروف أن جامعة هارفرد تركز كثيراً على بحث الجوانب القانونية للتمويل الإسلامي، حيث لديها عدد من البرامج الدراسية، وبرامج المحاضرات والندوات الخاصة بهذا الجانب. وكانت هذه الجامعة من أوليات الجامعات في العالم الغربي التي أنشأت برنامج بحث علمي يتناول مختلف جوانب التمويل الإسلامي، مع التركيز بصفة خاصة على النواحي القانونية في هذا التمويل.
#2#
وقد شهد العالم خلال السنوات العشر الماضية تطورات على نطاق واسع فيما يتعلق بتطبيق التمويل الإسلامي، وكذلك بخصوص الدراسات والأبحاث المتعلقة به. وتقدر إحدى الدراسات الحديثة أن هذا التمويل يشمل في الوقت الحاضر ما قيمته 500 مليار دولار أمريكي، مع معدل نمو يراوح بين 15 و20 في المائة. ولم يعد تقديم خدمات التمويل الإسلامي مقتصراً على البنوك الإسلامية، وإنما هنالك أقسام متخصصة في هذا النوع من التمويل لدى معظم البنوك في مختلف أنحاء العالم. وهنالك، في الوقت الراهن، كثير من المنتجات المصرفية الإسلامية التي يجري التعامل بها على نطاق واسع. ومن الناحية الجغرافية، لم يعد التمويل الإسلامي مقتصراً على المنطقة العربية، أو على عدد من الدول الإسلامية، وإنما أصبحت ممارسته تتم على رقعة متزايدة من مساحة العالم ككل. ونشأت لخدمة التمويل الإسلامي مراكز عمل بارزة لعل من أهمها مركز دبي، والبحرين، وكوالالمبور. وهنالك مراكز بارزة على صعيد العالم يمارس فيها التمويل الإسلامي، ولعل من أشهرها نيويورك، ولندن، حيث إن العاصمة البريطانية تشهد توسعاً ملحوظاً في عدد المؤسسات التي تقدم خدمات التمويل الإسلامي، إضافة إلى توسع كبير على نطاق زيادة عدد منتجات هذا التمويل.
لقد عمل توسع الخدمات المالية الإسلامية على زيادة الاهتمام بالقانون الإسلامي، وساعد على كثير من التطورات التي شهدها هذا القانون خلال السنوات القليلة الماضية. وهو يركز بصفة خاصة على تطبيق قواعد ومبادئ الشريعة الإسلامية على العمليات المصرفية الحديثة ذات التنوع الهائل. ويمكن القول إن هنالك عولمة تتوسع بصورة مستمرة على صعيد استخدام منتجات التمويل الإسلامي، ولا بد بالتالي من أن تتطور العقود الإسلامية كي تتمكن، على الدوام، من مجاراة هذه التطورات التي تتم بوتائر متسارعة للغاية.
وفي متابعة التطورات التي شهدها، ويشهدها التمويل الإسلامي، كان لا بد من أخذ الأمور التالية بعين الاعتبار:
1 - إن تكييف القانون الإسلامي كي يتلاءم مع الظروف السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، كان موضوعاً رئيسياً للبحث، والتدقيق، والمناقشة بين العلماء المتخصصين في ذلك، مع تركيز مستمر على الجوانب القانونية التعاقدية في إطار الشريعة الإسلامية. وتؤكد الدراسات، على نطاقها الواسع، على عدة أمور أبرزها الدور المهم لكل من الدولة، والمحاكم بهذا الخصوص. وهنالك، إضافة إلى كل ذلك تأثير للعولمة، ولزيادة وتوسيع الدور الذي يلعبه القطاع الخاص في الاقتصاد على نطاق العالم ككل، حيث يبرز دور كبير لبنوك الاستثمار متعددة الجنسيات، وكذلك لشركات القانون، وللمؤسسات المحاسبية الرئيسية.
2 - لقد عملت العولمة خلال السنوات الأخيرة على تحدي البرامج التقليدية للقانون المقارن الذي ظل مشغولاً لفترات طويلة من الزمن بمقارنة المؤسسات القانونية المختلفة، ودورها في تفسير وتطبيق قوانين الدول المختلفة. غير أن هنالك تحولاً ملحوظاً باتجاه الممارسات القانونية العابرة لحدود الدول، أي تلك القوانين والقواعد التي جرى تطويرها بهدف العمل بها، والاسترشاد بمضامينها في تنفيذ النشاطات العملية ذات الطابع الدولي.
3 – برزت، إضافة إلى ذلك حاجة ملحة للبحث في كيفية تكامل دراسة القانون الإسلامي مع الإطار الأوسع المتعلق بالقانون المقارن على النطاق العالمي. ولا بد من التوصل إلى حل لهذه القضية. وتنظر بعض الجهات القانونية في الغرب إلى القانون الإسلامي على أساس أنه توجه خاص لمواجهة ما ساد من قوانين في الغرب تتعلق بتحديد وضبط قواعد التعامل المصرفي. وهنالك تركيز خاص على أن القانون الإسلامي، في نظر تلك الدوائر، يتعلق بالجانب الديني الخالص، وليس بالجوانب التطبيقية على أرض الواقع. وترى هذه الدوائر أن هذا القانون يركز على جوانب الخلاف بين التطبيقات الإسلامية والغربية، ودون تركيز كاف على جوانب التماثل والالتقاء. وتضاف إلى كل ذلك مشكلة أخرى تتعلق بادعاء الجانب العملي في القوانين الغربية. ويزيد هذا الأمر من صعوبة إجراء دراسات مقارنة وشاملة بين الأنظمة القانونية السائدة في الغرب، وتلك السائدة في دول العالم الإسلامي، نظراً لوجود اختلافات كثيرة تتعلق بجوانب متعددة من الحياة على الصعيدين الاقتصادي، والاجتماعي.
#3#
ومن الملاحظ أنه منذ تنشيط الدعوة إلى تفعيل التشريع الإسلامي في سبعينيات القرن الماضي، وكذلك إنشاء البنوك الإسلامية البعيدة عن التعامل بمبدأ تقاضي الفوائد المصرفية، فإنه تتم مناقشة ودراسة التمويل الإسلامي في إطار “أسلمة القانون”، مع أن العكس هو الصحيح، حيث إن التمويل الإسلامي ما هو إلا جزء من عملية إعادة إحياء الأخلاق الإسلامية، وتضمينها في النشاطات العملية على النطاق العالمي. وهنالك تركيز متزايد على الجانب الأخلاقي في المعاملات المصرفية، حيث إن مبادئ الشريعة الإسلامية تنص على ذلك. وكان القانون الإسلامي، من الناحية العملية، نتاجاً متراكماً لجهود علماء الشريعة الإسلامية الذين اجتهدوا في استنباط قواعده، وبالتالي فإن محاولة تطبيق المبادئ الأخلاقية التي تنص عليها الشريعة الإسلامية لا يمكن اعتبارها أمراً متعمداً “لأسلمة” القوانين.
ويتضمن القانون الإسلامي قواعد متعلقة بالسوابق من حيث التنفيذ، وبالرجوع إليها، الأمر الذي يعد تطوراً لافتاً للانتباه في الأثر الذي أحدثته جهود علماء الشريعة الإسلامية بخصوص التطور في هذا الاتجاه. وقد جعل الالتزام بالسوابق تطبيق القوانين المالية الإسلامية متميزاً عن كثير من الممارسات التي كانت تطبق في الماضي.
وهنالك تطبيقات متناسقة لمبادئ الشريعة الإسلامية في المراكز الموجودة في بلدان إسلامية مثل دبي، والبحرين، حيث توجد بنوك تعمل بالطريقة المصرفية التقليدية، مع تطبيقات تتم في مراكز تتعامل بمبادئ الشريعة الإسلامية في النشاطات المصرفية الإسلامية في عواصم عالمية مثل لندن، ونيويورك. ويلاحظ نجاح للمصرفية الإسلامية في المراكز المالية العالمية التي تتصف بالاستقرار، وسعة المعاملات المصرفية.
إن الالتزام بقواعد الشريعة الإسلامية هو الذي يجعل العمليات التمويلية الإسلامية مختلفة عن العمليات المصرفية التقليدية. ولا يعني ذلك أن القانون الإسلامي هو مجرد مبادئ أخلاقية يتم التعامل بها على صعيد العمليات المصرفية، حيث إنه أوسع من ذلك بكثير. وتتضمن مبادئ الشريعة الإسلامية كثيرا من الأمور ذات العلاقة بالمسؤولية الاجتماعية للنشاطات العملية، على الرغم من الصرامة والشدة الظاهرتين في تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية، بالمقارنة بالصياغات الجديدة لأصول ممارسة المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات والشركات في العالم الحديث.
ولا يعني التمويل الإسلامي أن القانون الإسلامي يجب أن يطبقه علماء الشريعة الإسلاميون، مع أن لديهم دوراً بارزاً يؤدونه بهذا الخصوص، حيث إنهم يمنحون صفة الشرعية للعمليات ذات العلاقة من خلال إصدار فتاوى حول كونها منسجمة مع المبادئ الإسلامية. وإضافة إلى ذلك، فإن دورهم كأعضاء في مجالس الشريعة يتيح لهم تقديم المشورة، والنصيحة لإدارة البنوك حين تتعلق الأمور بمبادئ الشريعة الإسلامية.
وهنالك كثير من الشكاوى على صعيد الصناعة المصرفية فيما يتعلق بعلماء الشريعة الإسلامية الذين يفهمون الشؤون المصرفية، حيث يقال إن الأعداد المتوافرة من هؤلاء قليلة للغاية، كما أن كثيراً من هؤلاء ليسوا على دراية كافية بالشؤون المالية والمصرفية. ويضاف إلى ذلك أن الحصول على خدماتهم أمر مكلف للغاية. ويقال كذلك، إنهم في بعض الأحيان، يصدرون عدداً من الفتاوى التي تشوبها حالة من التناقض. وقد أدى ذلك في بعض الأحيان إلى تكليف جهات أخرى بمتابعة قضايا الالتزام بمبادئ وقوانين الشريعة الإسلامية. وهنالك دعوات متزايدة إلى جعل الشؤون ذات العلاقة بالالتزام بمبادئ الشريعة من ضمن اختصاصات جهات التنظيم.
من المعروف أن النشاط المصرفي الحديث يعتمد على عدد من المعايير المتفق عليها في إنجاز المعاملات المصرفية. وتعمل الممارسات التعاقدية المعيارية على تسهيل المقارنة بين الشروط المالية للعمليات المصرفية. وقد ظل ينظر منذ فترة طويلة من الزمن إلى غياب ممارسات أسواق راسخة على أساس أنه أحد العيوب في قانون التمويل الإسلامي. وهنالك خلاف بين هذا القانون، والممارسات المتطورة على صعيد الأسواق، حيث إن العمليات الإسلامية المصرفية تطبق ضمن دوائر قانونية مختلفة على صعيد درجات التطور المهني. وهنالك دوائر قانونية تقوم على أساس القانون المدني، مثل دبي، وأخرى تقوم على أساس القانون العام، مثل ماليزيا.
ويلاحظ كذلك أن تطبيق العمليات المصرفية يتم وفق تفسيرات متعددة لمبادئ الشريعة (حيث يلاحظ أن علماء الدين في ماليزيا، وإندونيسيا، والهند يتعاملون بأطر أكثر تحرراً بالمقارنة بنظرائهم في دول الخليج العربي، وكذلك في باكستان). وأدى كل ذلك إلى نوعين من الممارسات، أحدهما يطلق عليه “ممارسات الشرق الأوسط”، والآخر أصبح يعرف “بممارسات جنوب شرق آسيا”. ومن الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى بروز مزيد من الحالات الخلافية كتلك التي ظهرت منذ فترة وجيزة فيما يتعلق بقضية التزام إصدار الصكوك بمبادئ الشريعة الإسلامية.
إن كل هذه الأمور تجعل من وضع أسس معيارية أمراً في غاية الأهمية والإلحاح، خدمة لأهداف تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية على العمليات المصرفية.