لهذه الأسباب ظلت المصرفية الإسلامية آمنة من الأخطاء المرعبة
يستعرض الشيخ المفتي محمد تقي عثماني في دراسة باللغة الإنجليزية أسباب الأزمة المالية العالمية والاصلاحات المطلوبة، كما لا ينفي عثماني عدم تأثر المصرفية الإسلامية بالأزمة لكنه يؤكد أن المالية الإسلامية ظلت آمنة من المخاطر المرعبة. مجلة «المصرفية الإسلامية» ستنشر الدراسة كاملة على موقعها الإلكتروني، فإلى تفاصيل ملخص الدراسة:
اعتدنا في الاقتصاد الحديث على وجود منهج مادي وعلماني خالص لا يسمح للمفاهيم الدينية بالتدخل في النظريات والمفاهيم، من منطلق أن الاقتصاد يقع خارج نطاق العقيدة الدينية. ومن المفارقات البارزة في ذلك أن كل ورقة من فئات الدولار المتعددة تحمل عبارة "ثقتنا بالله ". غير أنه حين يتعلق الأمر بتطوير نظريات كسب الدولارات، أو توزيعها، أو إنفاقها، فإن الثقة تتركز على أفكار بشرية قائمة على التقييمات الشخصية، كأن الله تعالى بعيد عن العملية، باعتباره غير ذي علاقة بالنشاطات الاقتصادية.
ربما تكون هذه هي المرة الأولى في أعقاب الأزمة الاقتصادية الحالية، التي تأتي فيها جهات متعددة باقتراحات مختلفة لحل الأزمة، التي يدعو فيها "المنتدى الاقتصادي العالمي" ممثلين للشريعة لتقديم آرائهم، وأفكارهم في إطار مبادرة إعادة تشكيل الوضع الاقتصادي على قاعدة من القيم والمبادئ والأفكار الحديثة. والحقيقة أن هذه المبادرة تستحق كل الدعم والتأييد من جانب الأوساط الدينية. وأود بصفتي تلميذاً متواضعاً في المساقات الإسلامية، وخصوصاً المبادئ الاقتصادية الإسلامية، أن أسلط الضوء على بعض النقاط الرئيسية من منطلقات إسلامية، حيث أعتقد أن ذلك ضروري، بينما نحاول التوصل إلى حلول لمشكلاتنا الاقتصادية.
ولا بد من الإشارة إلى نقطتين قبل الدخول في التفاصيل:
النقطة الاولى: حين نتحدث عن التمويل الإسلامي، أو المبادئ الاقتصادية الإسلامية، فإنه يفترض بصورة عامة أن علماء الشريعة الإسلامية إنما يؤكدون على هذه المبادئ لمجرد تلبية المتطلبات الدينية للمسلمين فحسب، وأن المقصود بها هم المسلمون دون غيرهم، وتلك فرضية غير صحيحة، حيث إن منافع المبادئ الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية الإسلامية لا تقتصر على المسلمين، بل تشمل الإنسانية جمعاء. والنقطة الثانية: أن ينظر إلى ما يرد في هذا المقال على أنه راديكالي للغاية في ظل البيئة الحالية التي تهيمن عليها الأفكار الاقتصادية التقليدية. ولكن إذا كنا نسعى إلى إصلاح شامل لنظامنا الحالي الذي أثبتت الدلائل الملموسة خطأه، فإننا يجب ألاّ نخشى أي مقترح يدعو إلى تغيير راديكالي طالما يقوم على حجج سليمة، وقوية في الوقت ذاته. وإن الطبيعة العالمية للأزمة الحالية تتطلب تغييراً عالمياً شاملاً لنظامنا المالي الحالي. ولا يمكن للوسائل الترقيعية التي تصلح أمراً هنا، وآخر هنالك، أن يكتب لها النجاح، حيث إننا بحاجة إلى إصلاح شامل لنظامنا الاقتصادي، الأمر الذي يمكن أن يعيد تصميمه على أسس قيم صادقة، ومبادئ سليمة تضمن أن يصبح نظاماً عادلاً، ومتوازناً، وحصيناً ضد الاضطرابات.
وقد شجعتني على كتابة هذا المقال كلمات وردت في الملاحظات الختامية القيمة لرئيس المنتدى الاقتصادي العالمي. ومما جاء في تلك الملاحظات "لقد وصلنا في هذه الأيام إلى نقطة الذروة التي لا تترك لنا سوى خيار وحيد: تغّيروا وإلاّ واجهتم التراجع المستمر، والبؤس".
من المبادئ الرئيسية التي أكد عليها القرآن الكريم حول مبادئ النظام الاقتصادي أن الثروات التي ينتجها المجتمع يجب أن توزع بصورة عادلة، حتى لا تتركز في أيدي قلة من الناس. ولا بد من أن يولى هذا المبدأ المهم تركيزاً خاصاً في تصميم نظام النشاطات الاقتصادية. وقد تعرض نظام اقتصاد السوق (MARKET ECONOMY) إلى كثير من الانتقادات من جانب الاقتصاديين على أساس أن توزيع الثروات في ظله غير عادل. وعلى الرغم من أن الاقتصاد المخطط (PLANNED ECONOMY) لم ينجح، إلا أن اللوم الذي وجه إلى اقتصاد السوق لم يكن أمراً خاطئاً. وقد بالغ أنصار اقتصاد السوق في احتفالاتهم بانهيار الاقتصاد المخطط، حتى قالوا إن نظامهم هو النظام الوحيد الذي يمكنه البقاء، وأنه ما من نظام يمكنه أن يصمد في مواجهته في المستقبل. ونسي المحتفلون أن هنالك كثيرا من الحقيقة في الانتقادات الموجهة إلى اقتصاد السوق، ومن أبرزها عدم عدالة توزيع الدخل، حيث كانت الفجوة بين الأغنياء والفقراء واسعة للغاية على النطاق العالمي. وقد استمرت هذه الظاهرة حتى بعد انهيار النظام الاقتصادي المخطط.
ولدى التفكير باقتصاد ما بصورة شاملة، فإنه ليس من الكافي التركيز فقط على الجانب الرقمي المادي منه، ولا على سير عجلة الإنتاج بكامل سرعتها، وبكل طاقتها المتاحة، حيث إن المهم هو جعل الثروة موزعة بصورة عادلة لضمان تلبية حاجات الشرائح المتعددة ضمن المجتمع. وكان لا بد من فرض بعض القيود المفاهيمية على عمليات الأسواق، الأمر الذي لم ينل فرصة كافية. وهكذا فإن الثروة التي يتم إنتاجها في إطار عمل اقتصاد السوق تظل محصورة بين أيدي فئة قليلة من أبناء المجتمع، حتى في البلدان التي رسخت فيها مبادئ تلك السوق، مثل الولايات المتحدة الأمريكية.
من الواضح أن الأوضاع السائدة في الدول النامية، والدول ما دون النمو، أسوأ من ذلك بكثير. وهنالك حاجة ملحة إلى إصلاح هذا النظام القائم على عدم العدالة في توزيع الثروات. والواقع أن عدة ممارسات في مجتمعاتنا الحديثة تساعد على تكوين الاحتكارات لدى فئات الأغنياء، وبالتالي إعاقة سير العملية الطبيعية لوظائف الأسواق، ومنع الوصول إلى حالة من التوازن الحقيقي.
#2#
الحقيقة أن المال وسيلة لتحقيق هدف معين، أي أن المال ليس هدفاً بحد ذاته. والمال بحد ذاته ليس له قيمة مادية. وعلى الرغم من أن مبدأ "دعه يعمل" لم يعد شائعاً حتى في البلدان الرأسمالية، فإن دور "حافز الربح" له أهمية كبرى في اقتصاد السوق. ولم يكن ليولد كثير من المشكلات لو ظل ضمن الحدود العادية. غير أنه تحول إلى أسلوب لجمع الأموال بأقصى ما يمكن ذلك، حتى لو جاء الأمر على حساب الآخرين. ولم تستطع الإجراءات التحديدية التي فرضتها الحكومات والسلطات المختلفة الأخرى تحديد فرق واضح بين "حافز الربح" و"جشع الثروة". ويميل الأفراد إلى جعل تحقيق الربح هدفاً وحيداً في الحياة في ظل غياب أي مضمون، وأي هدف روحي، بحيث يصبح هؤلاء الأفراد ضحية لجشعهم المتمثل في جمع أكبر ثروة ممكنة، مهما كانت الوسائل. ويصبح هؤلاء الأفراد سعداء وهم يحصون أموالهم وهي تتزايد.
وما إن يصبح المرء عبداً لجشعه، حتى يعجز أي مبلغ من المال عن جعله راضياً، أو مكتفياً بما لديه. ولا يعود أي أمر مشبعاً لجشعه الشديد للمادة. ويظل ذلك الشخص دؤوباً على زيادة ممتلكاته من خلال وسائل عادلة أو غير عادلة، بينما يغادر دنياه بأيدٍ فارغة، تاركاً كل الثروات التي جمعها لورثته.
على الرغم من أن كل النشاطات الاقتصادية تتطلب رغبة في تحصيل بعض الثروات، فإن الأمر المدان ليس تلك الرغبة المشروعة في الحصول على المال من خلال وسائل عادلة لتلبية حاجات المرء، بل إن المذموم هو الرغبات الأنانية التي لا تميز بين الحق والباطل.
وفقاً للعقيدة الإسلامية، فإن الأمر لا يقتصر على الحياة الدنيا، بل إن هنالك حياة أخرى يحاسب فيها المرء على ما أداه في الحياة الدنيا. وإن الجشع عاقبته وخيمة في تلك الحياة الخالدة ولا يمكن أن يكون أمراً محموداً حتى إذا نظرنا إليه من خلال المفاهيم الحياتية القائمة في الوقت الراهن، حيث إن الجشع يتصف، على وجه العموم، بصفة الأنانية التي لا تهتم على الإطلاق بالمصلحة العامة للمجتمع ككل، بل تجعل بعض الأفراد يراكمون الثروات على حساب بقية أبناء المجتمع. والحقيقة أن النقود إنما خلقت لخدمة الإنسان، ولم يخلق الإنسان لخدمة النقود. ويفترض أن تحقق الأموال الراحة للجسد، والروح. ولكن إذا ضاع كل ذلك في خضم الحرص على تكديس الثروات، فإن الهدف الذي وجدت من أجله الأموال لا يتحقق، بل إنها تصبح عاملة ضد الأغراض التي وجدت من أجلها.
وبدلاً من أن يحقق المال راحة الجسد والروح، فإن الانهماك في تكوينه يُذهِب كل هذه المزايا المرجوة منه، حيث يظل صاحبه فريسة لكل عوامل القلق، وأسباب التوتر في الحياة، بحيث ينقلب المال إلى لعنة على صاحبه.
وإن قيمة المال الحقيقية لا تكون إلا حين يغادر جيب صاحبه حسب المفهوم الذي تحدث عنه الإمام الحسن البصري، أي حين يتحول إلى جهات أخرى كثمن لشيء له قيمة حقيقية بحد ذاته، بمعنى أن القيمة تتحقق حين يكون المال وسيلة للتبادل، أو مقياساً للقيمة. وهذا بالفعل مفهوم بالغ الأهمية، حيث إن إهماله أدى إلى أخطاء على مستوى النظام برمته في نظامنا الاقتصادي القائم.
يتفق الاقتصاديون المحدثون على أن الأموال وسيلة للتبادل، ومقياس للقيمة. غير أنني أرى أن أحدا لم يناقش هذا المفهوم في إطار فلسفي، بكل ما فيه من مضامين منطقية، كما ناقشه الإمام الغزالي، هذا الفيلسوف العبقري الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي. وهويرى أن خلق النقود من نعم الله، حيث إنها مواد لا قيمة ذاتية لها، ولكن كل الناس بحاجة إليها لأن كل فرد بحاجة إلى عدد كبير من السلع لطعامه، ولباسه، إلى آخره. ولذلك فإن عمليات التبادل أمر حتمي. ولكن ينبغي أن تكون هنالك قاعدة يتم على أساسها تحديد السعر، لأن السلع المتبادلة ليست من النوع ذاته. وتحتاج كل هذه السلع إلى وسيط لتحديد قيمها الفعلية. ولذلك خلق الله النقود كقضاة، ووسطاء بين جميع السلع، بحيث يتم قياس كل أمور الثروة من خلالها.
لقد أقر جميع الاقتصاديين الذين جاءوا بعد الإمام الغزالي بأن النقود وسيلة للتبادل، ومقياس للقيمة، ولكن من سوء الحظ، أن معظمهم لم يأخذوا هذا المفهوم حتى حده المنطقي. وعلى الرغم من القبول بها كوسيلة للتبادل، فإنهم تعاملوا مع النقود كسلعة بحد ذاتها، حيث غضوا النظر بصورة عامة عن الاختلافات الأساسية بين النقود والسلع. والواقع أن النقود بحد ذاتها ليست لها قيمة استخدامية، بل إنها تستخدم للحصول على البضائع والخدمات. وتكون السلع ذات صفات مختلفة، في حين أن صفة النقود هي أنها وسيلة للتبادل، ومقياس للقيمة فقط. والسلع محددة بما يتفق عليه من حيث البيع والشراء، وأما الأموال، فإن بالإمكان استبدال الدفع بوحدات متعددة من العملة ذاتها. ولا يمكن اعتبار النقود سلعاً لأن السلع إما أن تكون استهلاكية، وإما إنتاجية، هذه الصفة لا تنطبق على النقود، فهي ليست استهلاكية لأنه لا يوجد استخدام لها بحد ذاتها، كما أنها ليست إنتاجية لأنها لا تنتج بنفسها أي شيء. ولم يستطع من ادعوا لها صفة السلع إثبات حجتهم بأي وسيلة كانت.
#3#
حين جاءت مبادرة تكوين النقود من النقود، وأيدها النظام المصرفي الحديث، ظهرت المناقشات الخاصة بالفرق بين "الربا" و"الفائدة"، وقيل إن التحريم يشمل الربا، ولا يتضمن الفائدة التي ينبغي أن ينظر إليها كممارسة حميدة، وبريئة في الوقت ذاته. وحين تم تجاوز هذه العقبة، فإنها فتحت الباب لعدد هائل من العمليات المالية القائمة على الديون التي لا علاقة لها، على الإطلاق، بالاقتصاد الفعلي. وبذلك منحت صك الولادة للعملات الورقية في المقام الأول، ثم أدت تلك العملات الورقية من خلال إيداعها في البنوك إلى أنواع تمويل أخرى تجاوزت قيم العملات التي أنشأتها في الأساس. ثم جاءت الأوراق المالية، وبرزت المشتقات في صورة خيارات، وعقود مستقبلية، ومقايضات، وغير ذلك كثير من ابتكارات المنتجات المالية الحديثة. وتم اكتشاف مفهوم "الهندسة المالية" في أواخر القرن العشرين. وجرى تداول عديد من المنتجات المالية المبتكرة التي كانت عصية حتى على فهم الخبراء في هذا المجال. وهكذا تجاوزت هذه العمليات كل الحدود التي يمكن تصورها، وزادت من عرض النقد المتصور إلى درجة لا يصدقها عقل، أي إلى 12 ضعفاً للناتج المحلي الإجمالي للعالم ككل.
وقد أشار الإمام الغزالي، وكأنه كان يتصور أزمة الائتمان الحديثة، إلى أن تحريم الربا جاء لأنه يحول دون ممارسة الناس الفعاليات الاقتصادية، إذ إن من يحصل على المال مقابل إقراض المال، لا يكلف نفسه عناء الدخول في النشاطات الاقتصادية الفعلية.
إن الوسيلة العادلة لاستخدام مدخرات الناس هي مساهمتهم في المشاريع الاقتصادية، ومنحهم حصتهم العادلة من الأرباح نتيجة لتلك الممارسة. ومن الطبيعي أن عليهم أن يشاركوا في الخسائر كذلك.
وهنالك ظاهرة تمارس على نطاق واسع في الأسواق هي المضاربة التي تحظى باختلافات كثيرة في الرأي حولها، كما أن الناس يسارعون إلى إلقاء اللوم على المضاربين لدى حدوث أزمات في الأسواق. وعلى الرغم من كل هذه الانتقادات، فإن عمليات المضاربة مستمرة في الأسواق على نطاق واسع. وتعرف المضاربة في الاقتصاد بأنها "محاولة لتحقيق الربح من تغير الأسعار في الأسواق، بحيث يتم التخلي عن دخل جار مقابل كسب رأسمالي متوقع". والحقيقة أنه إذا سمح للمضاربة بأن تأخذ مداها، فإن أذاها قد يتجاوز أثر القمار. وهنالك خلاف شديد حول الحدود القائمة بين المضاربة الخبيثة، والمضاربة الحميدة. وإذا استخدمت المضاربة في العمليات التجارية الفعلية فإنها لا تسبب ضرراً للمجتمع. ومثل هذا المضارب لا يمكن أن يؤذي إلا نفسه، حسب رأي آدم سميث. أما مضاربو العصر الحديث، فيمكن أن يسببوا الأذى للنظام ككل، وذلك لأنهم لا يدخلون في العمليات التجارية الفعلية. وإن التجارة في المفهوم الديني غير جائزة إذا كان المتاجر لا يملك الشيء الذي يتاجر به. وتسود في أيامنا هذه عمليات البيع المكشوف، حيث لا يمتلك البائع ما يبيعه. ومن الشروط الإيجابية للتجارة وجود الشفافية، حيث إن كل النظم القانونية تدعم ذلك، وبالذات في مبادئ الشريعة الإسلامية، إذ لا بد من أن أطراف البيع والشراء تعرف طبيعة ما تتعامل به على نحو دقيق. ويجب أن يعرف المشتري ما الذي سوف يشتريه، كما يجب أن يعرف البائع الثمن الذي سوف يتلقاه، ومتى يمكن تسلمه. ويصبح البيع باطلاً في حالة غموض أي من ذلك.
الواقع أن الأزمة الاقتصادية الحالية كانت لها جذور عديدة. فحتى أوائل عام 2007، كانت هنالك طفرة في ائتمانات الأسر الأمريكية، حيث تسابقت المؤسسات المالية على تقديم القروض وفقاً لمعدلات تنافسية من الفائدة، حتى أنها تجاهلت الشروط الأساسية لتقييم ملاءة المقترضين، وبالتالي جاءت القروض العقارية لضعاف الملاءة. وتم بيع القروض إلى جهات قامت بتحويلها إلى أوراق مالية ضمن ما يسمى بعمليات التوريق. وتم تحويل الصفقات إلى ما يسمى بالتزامات الديون المضمونة، الأمر الذي تم الادعاء بأنه يعمل على تجنب المخاطر من خلال سعة توزيعها. وحصلت المؤسسات العاملة في كل ذلك على تصنيفات AAA من قبل وكالات التصنيف التي قبضت رسوماً مضاعفة ثلاث مرات مقابل ذلك. وتم توزيع تلك الالتزامات إلى شرائح وتصديرها عبر العالم.
أدى ذلك إلى تحفيز "وول ستريت" من أجل اختراع التزامات ديون مضمونة جديدة، ثم جاءت مقايضات عجز الائتمان. وما إن حل عام 2008 حتى وصلت هذه المقايضات إلى 60 تريليون دولار، أي ما يعادل الناتج المحلي للعالم ككل. كما ارتفعت كل أشكال الدين بتسمياته المختلفة إلى 600 تريليون دولار. ونظراً لأن هذه المشتقات المالية لم تكن خاضعة للتنظيم، فإن أحداً لم يستطع أن يعرف من هو المسؤول عن ذلك.
وعرف الناس بعد ذلك أن التزامات الديون ليست آمنة، الأمر الذي خلق حالة من الفزع، بحيث سقط كل ذلك الهرم المكون من أشكال الديون المختلفة مرة واحدة. وتوقف الإقراض بعد ذلك، وتكبدت الشركات الخسائر، وواجهت أسعار الأسهم سقطات عميقة. وكانت أسباب كل ذلك تتعلق بتحويل وظيفة النقود من وسيلة تبادل إلى سلعة بحد ذاتها، وكذلك إيجاد كثير من أنماط المشتقات المالية، والقيام ببيع كل تلك الديون إلى جهات متعددة، ثم عمليات البيع المكشوف على نطاق واسع. وهكذا حظرت سلطات مالية متعددة عمليات البيع المكشوف. ولا بد من إعادة تصميم النظام الاقتصادي العالمي الحالي، بحيث يغدو مستنداً إلى القيم والمبادئ الحميدة.
تدعي بعض المساهمات من مفكرين على الإنترنت أن المؤسسات الإسلامية لم تتأثر بالأزمة المالية الحالية. والحقيقة أن من المبالغة القول إن تلك المؤسسات لم تتأثر بالأزمة أبداً. غير أن من الصحيح القول إنها ظلت آمنة من الأخطاء المرعبة التي عصفت بالمؤسسات المالية التقليدية. والسبب في ذلك واضح، وهو أن الالتزام بمبادئ الشريعة الإسلامية يعني البعد عن الفائدة، والمشتقات، وعمليات البيع على المكشوف، وكذلك بيع الديون. وتقوم أدوات الدين لديها كذلك على بيع، وتأجير سلع حقيقية، وممتلكات حقيقية، وبالتالي فإن تمويلها مدعوم بموجودات فعلية بعيدة عن حالات عدم المواءمة بين العمليات المالية والاقتصاد الفعلي.
ومن المبالغة الادعاء بأن المؤسسات المالية الإسلامية لم تتأثر أبداً بالأزمة، لأن الأزمة حين تحل تصيب كل جوانب الاقتصاد، إضافة إلى أن هذه المؤسسات لا تزال في بواكير سنواتها الأولى. ومن الصعب الادعاء أن كل عمليات هذه المؤسسات تلتزم بمبادئ الشريعة الإسلامية. ومن عوامل ذلك سعي بعضها إلى تقليد كل ما تقوم به المؤسسات المصرفية التقليدية.
إن المؤسسات المالية الإسلامية، وكذلك التقليدية، بحاجة إلى تغيير نظرتها إلى مصالح البشرية ككل، والتخلي عن تلك الممارسات التي أوصلت العالم إلى الكارثة الحالية.