المتسلقون والحوار مع الآخر
يمكن القول بأن عصرنا عصر المصطلحات العائمة، فما ننتهي من مصطلح ونحاول هضمه على مضض إلا ويخرج لنا آخر في ظل حراكٍ ثقافي - وإن شئت فأبدل الحاء عينا - طيفي الألوان متباين الرؤى والأفكار، والمتابع للساحة الثقافية يجد مصطلح الحوار من المصطلحات التي ارتفعت أسهمها – بما فيها الحوار ولد الناقة! والحوار شأنه شأن العولمة وحقوق الإنسان وغيرها من المصطلحات جاء بصورة هلامية قابلة للتمدد والتشكيل، وللحوار على المستوى العالم نُساكه الذين يبشرون به, ولا سيما أنه له قرابة صلة مع حقوق الإنسان، هذه الحقوق بنسختها الغربية التي ما فتئ سدنتها يبشرون بها ويقدمونها كأيدلوجية واجبة الاتباع والاعتناق، والحقيقة أن الغرب يتعاطى مع ملف الحوار وحقوق الإنسان من منطلقاته الليبرالية العلمانية، ويسعى إلى تعميم هذه الأيدلوجية متجاهلاً بذلك تباين المنظومة الحقوقية في الإسلام عن النسخة الغربية لهذه الحقوق, هذا التباين هو ابتداءً في الأصول والمنطلقات الفلسفية والعقدية حتى لو التقتا في بعض التطبيقات والممارسات في الغرب، والتي هي من بقايا الفطرة التي حُرمت نور النبوة, وقبس الوحي، والحقيقة أن هذا الأمر ليس جهلاً من الغرب بل تجاهلاً تفرضه طبيعة العلاقة مع الشرق التي لا تتسم إطلاقاً بالندية, بل هي في حقيقتها علاقة قوي مع ضعيف, قوي يريد فرض رؤاه وتصوراته وبالتالي إحكام السيطرة, وضعيف يدندن حول الحوار مع الآخر، ويستدر العطف بحوار الأديان أو الحضارات, تحت ذرائع التقارب أو الإنسانية والسلام. لكن الأمر الذي يجهله الطرف الضعيف بالفعل أن الغرب لا يمكن أن يحاورك ما لم تكن أقوى منه أو على الأقل نداً له وهذه معادلة محسومة تدل عليها سيرورة التاريخ ومعطيات الواقع,
اقرأوا التاريخ إذ فيه العبر
ضل قوم ليس يدرون الخبر
- أنا هنا أقرر واقعاً ولا أدعو للانكفاء أو التقوقع إطلاقاً, لكن المصيبة أن موضوع الحوار، وكذلك الحال حقوق الإنسان غدت حمىً مستباحا يتحدث فيه كل أحدٍ بعلمٍ أو دونه، والقضية أن بعض الفئات المتسلقة تنظر إلى الأمر كونه طفرة ثقافية وموجة فكرية يجيدون ركوبها وقطف ثمارها في المؤتمرات الدولية والسفريات الخارجية، إن القضية التي يجب إدراكها بشكل جيد أن دعاة الحوار مع الغرب، لم يفهموا الغرب, ولم ولن يكلفوا أنفسهم عناء معرفة الآخر ودراسة بُناه الثقافية ومنطلقاته الفلسفية، ولكم أن تتصوروا حواراً بين طرفين متضادين في القوة والمعرفة، فالغرب ودوائر صنع القرار فيه تنطلق من القوة المادية والهيمنة العسكرية, كما أن منظريها ينطلقون من معرفة بالشرق منذ أكثر من قرن منذ بدأت طلائع المستشرقين ورحالة الغرب يجوبون البلاد الإسلامية ويقطعون الصحاري والفيافي عرضاً وطولاً لدراسة الثقافة الإسلامية والشخصية العربية، وإن شئتم دليلاً فاقرؤوا مذكرات هؤلاء وتأملوا دقة الوصف للجوانب المادية والمعنوية للشخصية العربية، في الوقت الذي يتصدى فيه للحوار في العالم الإسلامي قلة نفعية ليس لها دراية, ولا علم بهذا الأمر، والقضية عندهم (افتح أثمك يرزقك الله) لا يعرفون من يحاورون وليس لديهم الأهلية أصلاً لمعرفته.
إن معطيات الواقع تستلزم تحفيز دراسات الاستغراب والاستفادة مما كُتب في هذا الصدد، ولو لم يكن تحت هذا المسمى تحديداً، إن حواراً بين طرفين أحدهما لا يعرف الآخر هو في حقيقته أشبه بحوار (الطرشان)، إن علينا في الشرق العمل على احترام العلم والتخصص إذا ما أردنا تحقيق نتائج مثمرة في الحوار مع الآخر شريطة أن نستعيد ثقتنا بمبادئنا وقيمنا التي نحاور بها الآخر، ذلك أن البعض يحاول تمييع الأمور والقضايا متلمساً تقديم واقعٍ قريب من الواقع الغربي ليقول لهم إننا لا نختلف عنكم كثيراً فامنحونا رضاكم، والحقيقة أنه بهذا يقتل كل عناصر الجذب للفكرة، كما أن علينا إدراك أولويات الحوار التي يجب أن يكون على رأسها رفع الظلم عن العالم الإسلامي في أفغانستان وفلسطين والعراق، فلا يتصور البتة أن شخصاً يصفعك ويركلك ويضربك وأنت تقول له مهلاً إن بيننا قواسم مشتركة في الدين والإنسانية! فالبديهي أن تدافع عن نفسك, فإن لم يكن فليكن حوار معه منصبا على سبب ضربه لك! بعد هذا هل ندرك عمق القضية, ونبدأ برنامج عمل نحو حوارٍ أعمق أثراً؟ وهل تسهم كراسي البحث في الجامعات في هذا الأمر؟! نتمنى ذلك.