أرقام النمو هل هي استجابة ساذجة للنمو الاقتصادي؟
في ظل توقع عودة كثير من الاقتصادات إلى النمو في هذا العام، نجد أن لدى مدير مجموعة ستاندرد تشارترد لشؤون النشاط المصرفي المتعلق بالجملة، بعض كلمات التحذير: إن قبول أرقام الناتج المحلي كما هي يمكن أن يكون استجابة ساذجة. وقال مايك ريز، وهو يتحدث في سنغافورة بعد وقت قليل من إعلان الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، أنه سيضع حداً لاندفاع البنوك، ضمن خطط تم إعدادها لتحقيق هذا الهدف «إن كثيرا من ذلك النمو جاء نتيجة لسياسات التحفيز التي تعتبر غير مستدامة. وبالتالي فإن الناس لا يرون الحياة الفعلية، وأعتقد أن من السهل انتقاء الأرقام، والرغبة في التفكير الطموح باتجاه المستقبل استناداً إلى ذلك، دون فهم عقلاني فعلي لما هي طبيعة النمو الاقتصادي المستدام».
ويعتقد ريز كذلك أن النمو الذي تشهده الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والصين، على الصعيد الاقتصادي، إنما هو مجرد نتيجة مباشرة لعمليات التحفيز المالي، أي أنه مرة أخرى لا يعكس نمواً اقتصادياً فعلياً. ويضيف «إن الأمر المهم سيتمثل في فهم ما يدور ضمن عجلة الاقتصاد، وعدم الاكتفاء بمعالجة إحصائيات شهرية. ولا بد من النظرة الشاملة إلى الاتجاه العام».
ويقول ريز كذلك «يبدأ الأثر في الناتج الإجمالي المحلي في الأحوال المعتادة بعد سنتين من نهاية الأزمة». وأبلغ نادي الصحافة في سنغافورة أن معظم حالات التفاؤل التي تسود الاقتصاد في الوقت الراهن يعود إلى السيولة المرتفعة، وكذلك إلى تدني معدلات أسعار الفائدة، وقال كذلك «أعتقد أن الأمر يتعلق بالآمال بأكثر مما يرتبط بحقائق الواقع. وأعتقد أن الناس حين يعودون إلى الوراء لفهم حقائق النمو الاقتصادي سيصبحون أكثر حكمة بخصوص بعض جوانب ذلك النمو».
غير أن من الأمور الأخرى التي تغذي حالة التفاؤل السائدة في المجال الاقتصادي، أن السياسيين يلعبون على وتر كسب أصوات الناخبين. وسبق للرئيس الأمريكي، باراك أوباما، أن أعلن قبل أسبوع عن نيته في كبح جماح النشاط المصرفي، ومنع البنوك من استخدام أموال دافعي الضرائب للدخول في عمليات التداول العقاري، أو إنشاء صناديق تحوط كبرى، وصناديق أسهم خاصة. وعلى الرغم من أن هذا الإعلان يمكن أن يكون قد كلف الديمقراطيين مقعدهم في مجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية ماسوشوسيتس الذي ظل السيناتور إدوارد كينيدي يشغله لفترة طويلة، فإن ريز يعتقد أن الرئيس باراك أوباما «يستجيب إلى وجهة نظر سياسية» من أجل وقف التدهور الذي تشهده شعبيته بين الأمريكيين.
من الجانب الآخر نجد أن التخفيف الكمي (طباعة أوراق النقد) الذي بدأ به محافظو البنوك المركزية في العام الماضي، يعتبر من وجهة نظر ريز مجرد دواء ذي أثر جانبي بعيد المدى. وعلى الرغم من أن ذلك الإجراء ساعد على تعزيز الاقتصاد، إلا أنه فعل ذلك في الأجل القصير فقط، لأن من شأن زيادة معدلات أسعار الفائدة في الوقت الراهن تقليص السيولة المتاحة للاقتصاد، الأمر الذي سيقلل من تقديم البنوك للائتمان المطلوب.
أثناء ذلك نجد أن الجهات التنظيمية تحاول السيطرة على حالة الفوضى التي ساعدت على وجودها، وذلك في محاولة للإبقاء على قدرتها الخاصة بضبط نشاطات البنوك. وبينما يرى ريز أن المجتمع المصرفي المحلي، والخارجي، يسير الآن على الطريق الصحيح، إلا أن المخاطر لا تزال موجودة على صعيد الاستجابات السياسية المحلية. ويقول في تعليقه على هذا الأمر، «أعتقد أن هنالك المزيد من اتفاق وجهات النظر بين عقليات منظمي البنوك، ومحافظي البنوك المركزية حول الحاجة إلى تنسيق الزيادات المطلوبة في رساميل البنوك، وكذلك إنهاء حالة التخفيف الكمي. وتتمثل المخاطر الكبرى في الوقت الراهن في عدم الرضا عن السياسيين الذين يستجيبون لوجهات النظر الشعبوية المتعلقة بهذه القضايا».
ويرى ريز أن السؤال السياسي الفعلي هو ما إذا كان يجب علينا أن نقلص المخاطر من خلال القبول بمستويات أدنى من النمو. إلا أنه، مع ذلك، يعتقد «أن النقاش الفعلي بخصوص هذا الأمر لم يبدأ بعد». وهو يرى أن الأمر الأساسي يتمثل في العمل على تنسيق هذه الأجندات الفردية، حتى نتمكن من التوصل إلى النتائج الملائمة، وأن لديه نهجاً أشد محافظة في سبيل العمل على تحقيق ذلك، إذ يرى أن التعافي لا بد أن يكون تدريجياً من أجل ضمان استدامة الاقتصاد.
يعلق على هذا الشأن قائلاً «أعتقد أن التحدي لا يتمثل بالتحركات، أو الانتقالات المفاجئة من موقع إلى آخر. وأن الاقتصاد العالمي بالغ الحساسية، بحيث إن المطلوب هو حركات من الضبط الدقيق للتوصل إلى التوازن المطلوب. ولا بد كذلك من العودة إلى أساسيات النمو الاقتصادي. ولا يمكنك أن تحقق ذلك من خلال القفز بين اليمين واليسار. ولا بد بالتالي من التحرك عند نقطة الوسط من أجل التوصل إلى التوازن الصحيح. وأعتقد أن الأسواق المالية العالمية أشد تعقيداً مما يراه كثيرون، وبالتالي فإن تلك الأسواق تتطلب استجابة أكثر عقلانية». وهنالك في الوقت الراهن مقترحات جديدة في إطار الرقابة من جانب لجنة بازل بهدف تحسين أوضاع الصناعة المصرفية، والحفاظ على سمعة البنوك. ويعتقد ريز أن ذلك الهدف يمكن تحقيقه، حيث يقول «من السهل توجيه اللوم إلى القطاع المصرفي، ولكنني أعتقد أن من يستحقون اللوم هم السياسيون أنفسهم، وكذلك المنظمون، بالإضافة إلى البنوك، حيث إن هنالك عدة أطراف شاركت في إيصالنا إلى الوضع الذي نحن فيه في الوقت الراهن. ومن المؤسف أن كثيرا من اللوم يوجه إلى رجال المصارف».
وفي مجال عرضه لوضع الصناعة المصرفية في الوقت الراهن، فإنه يقول إنه على الرغم من النكسات في أيامنا هذه، فإن النشاط المصرفي يظل أمراً رئيسياً لتحقيق النمو الاقتصادي، من حيث إنه يقدم الآليات التي تمهد الطريق أمام الاقتصادات، وكذلك تحقيق مرحلة النضوج، والتحول الإيجابي في المسيرة الاقتصادية، وتغيير اتجاهات الناس الخاصة بالادخارات قصيرة الأجل، والافتراض طويل الأجل. وإن البنوك تقدم إمكانيات حركة التجارة وتدفق الأموال، حيث إن ذلك هو الدور الحقيقي للبنوك».
إنه يشدد بصفة خاصة على ضرورة عودة رجال المصارف إلى أساسيات العمل المصرفي، حيث «إن المحافظة على قوة الميزانية العمومية أمر في غاية الأهمية والحيوية. ولا بد من أن نبقي على نسبة موجودات وودائع دون حد الـ 80 في المائة بقليل». ويرى ريز أن من غير المستدام للبنوك أن تكون تلك النسبة 140 في المائة، أو أعلى من ذلك.
يقول ريز «علينا أن نتذكر على الدوام أن الصناعة المصرفية صناعة متعلقة بالثقة. ويمضي الناس حياتهم في تكوين مدخراتهم، وإننا مؤتمنون على الإدارة الصحيحة لتلك المدخرات. وعلينا أن نتذكر، على الدوام، أن أهم واجباتنا هو المحافظة على تلك المدخرات، وأن نستمر في نيل ثقة أصحابها. ومن شأن الحصول على تلك الثقة جعل الأمور تسير في الاتجاه الصحيح. وهذا أمر تكسبه عبر السنوات، ولكن يمكن أن تخسره بسرعة إذا لم يتوافر لديك ما يكفي من الانتباه، والحرص».