محمد القشعمي «مدير عام الناس»
هكذا كنت أدعوه معابثا ومداعبا ومتيقنا من ذلك أيضا، لكنه لم يكن مديرا «منتفخا» في مكتبه ولا متبخترا في مشيته ولا متلكئا في خدمته يقابلك بأريحية، كأنه الذي عناه جدنا أبو تمام في قوله:
تراه إذا ما جئته متهللاً
كأنك تعطيه الذي أنت سائله!!
لا يمكنني تحديد متى عرفت الصديق الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي، ولا أخال كثيرين ممن عرفوه في كل أصقاع المملكة أو في خارجها يستطيعون ذلك. ليس لأن التاريخ عصي يفلت من الذاكرة، بل لأن (أبو يعرب) من أفاضل الرجال، يلغي فواصل الزمن وتكاليف المجاملات بتواضعه الجم وببساطة ووداعة تواصله معك كما لو كنت وإياه شببتما معا في ملاعب صبا واحدة، مهما كان فارق السن.
عميد علاقات من طراز فريد، إن لقيته ثم راح يحدثك وتهيأ لك أنه كان في أمكنة عديدة في الوقت ذاته فصدقه لأنه رحالة معطاء (يقسم جسمه في جسوم كثيرة) وما أخالك تقابل مثقفا مرموقا في الخارج إلا ويسألك: (كيف حال أبو يعرب؟!) مع امتنان لفزعة قدمها له، ولو سألته أنت عن شأن تبحث عنه: كتاب أو قصيدة أو مقالة أو قصة ستفاجأ به يضع بين يديك نسخة منها, ولو سألته تزويدك بمعلومات تقادم عليها الزمن أو تعذرت عليك فلسوف يرن هاتفك وصوته على الطرف الآخر يبلغك ما طلبته.
هو صديق الرواد من مثقفينا وكتابنا ومبدعينا، صديق جيل القنطرة وكذلك صديق أفواج تيار الحداثة وكثيرين في ديار العرب وطوال عمله في رعاية الشباب (1382 - 1414هـ) كان ساعي بريد ثقافتنا وفنوننا، يوزع متطوعا مطبوعات وبوسترات لوحات أهل الشمال للجنوب والعكس صحيح أيضا، وفي رحلاته للخارج يملأ حقائبه بالجديد من إصداراتنا يدفع بها إلى المهتمين هناك. وحين خطب وده الإنسان النبيل الدكتور يحيى باجنيد (أول أمين عام لمكتبة الملك فهد الوطنية وبانيها كتابا كتابا، مقتنى فمقتنى) ليعمل معه فيها نذر (أبو يعرب) نفسه لها، راح يخب في أثر نتاج وجدان ووعي هذا الوطن راكبا قدميه حينا والسيارة أو الطيارة أحيانا أخرى لجمع ورصد ما تناثر منه هنا أو هناك، يتحاماه عن عوادي الإهمال أو النسيان بغيرة مضرية يسترد بها ما شرد أو غاب أو تقطعت به السبل، طارقا الأبواب في قرى الوطن ومدنه وفي الخارج ما وسعه إلى ذلك سبيلا، وراء كتاب نادر، مخطوط، صحيفة، مجلة، وثيقة أو وراء شخصيات نأت بهم دروب الغربة والاغتراب أو لاذوا بصمت شيخوختهم في بيوتهم، فأقنع أولئك وهؤلاء، سجل لهم سيرهم الذاتية، شهاداتهم على مسيرة الكلمة والفن في بلادنا والأدوار التي استقطروها من عرقهم والإنجاز الذي تركوه.. فعل هذا من خلال موقعه الوظيفي لكنه فعله أكثر من خلال حر وقته وماله، تشهد بذلك التوثيقات الصوتية في مكتبة الملك فهد الوطنية كما تشهد به الكتب والمطبوعات السعودية التي دل عليها حتى باتت في حوزة المكتبة.
طاف (أبو يعرب) وحل وارتحل، إنما ظلت متعته مقصورة على توثيق طرف من حكاية عن ثقافتنا وتاريخنا لم تحك بعد، جالس من أجلها عديدين ومن لم يظفر عنده بما يضيف سطورا لأرشيفنا الثقافي منحه قلبه الكبير وصداقة لا تنفصم، لكن حرفة الكتابة لم تدركه ولا هو أدركها إلا بعد طول عشرته لها: قراءة، عملا، تتبعا، رصدا وانغمارا لا مثيل له في عوالمها، أغرى الكتابة نفسها (به) فكتبته بعدما راوغها سنين طوالا، وهو الذي ولد في مدينة الزلفي عام 1364هـ لكنه لم يستهل المسيرة إلا عام 2001 بمحطات من سيرته الذاتية جمعها وأصدرها في كتابة (بدايات)، ثم توالت مؤلفاته: (سادن الأساطير عبد الكريم الجهيمان)، (البدايات الصحفية في المملكة – ثلاثة مجلدات)، (ترحال الطائر النبيل)، (الصحفي النجدي)، (طه حسين في المملكة العربية السعودية)، (بدايات الطباعة والصحافة في المملكة)، (الأسماء المستعارة للكتاب السعوديين) وغيرها.. حتى بلغت (14) مؤلفا وأجزم أن لديه المزيد، أمد الله في عمره وأعماركم جميعا.