الأزمة اليونانية تنتشر.. وأوروبا بحاجة إلى حل أجرأ وأوسع وأسرع
تأتي لحظة في كثير من أزمات الديون تنفلت فيها الأمور من عقال السيطرة. وبينما يبدأ الخوف، تزداد عوائد السندات بقوة، وينتشر الخوف إلى الأسهم والعملات. وكاد انهيار بنك ليمان براذرز الشهير في أيلول (سبتمبر) من عام 2008 أن يطيح بالنظام المصرفي العالمي برمته. وسبق قبل عقد زمني من ذلك أن أدت فوضى عجز روسيا عن سداد ديونها السيادية إلى ضرب أسواق الائتمان، حيث سقط صندوق التحوط الأمريكي عالي الأرباح، لونج تيرم كابيتال مانجمنت. وحين تصبح الأمور التي لم يكن من المتصور التفكير فيها أموراً حتمية بصورة مفاجئة، دون التوقف في المجال غير المحتمل، تصبح لديك حالة من انتشار العدوى.
إن الأزمة اليونانية، أو بصفة أدق أزمة الديون السيادية الأوروبية، تبدو بصورة خطيرة قريبة من ذلك الوضع. وعلى الرغم من استمرار المفاوضات بين صندوق النقد الدولي، والاتحاد الأوروبي، من جهة، والحكومة اليونانية من جهة أخرى، حول صفقة للإنقاذ، فإن عوائد السندات اليونانية حلّقت عالياً، إذ قدرت عوائد أجل العامين بما يصل إلى 20 في المائة في هذا الأسبوع. وقفزت تكاليف الاقتراض لدى البرتغال، كما تم تخفيض تصنيف ديون إسبانيا، إضافة إلى اقتراب ديون البرتغال، واليونان، وإيطاليا، من نقطة مقلقة قريبة من مزاد ديون غير ممكنة السداد. وتراجعت أسواق الأسهم الأوروبية، كما تراجع اليورو ذاته إلى أدنى مستوى له خلال عام مقابل الدولار الأمريكي.
سوف يصاب البعض بصدمة هائلة بأن اقتصاداً صغيراً، وجانبياً، مثل الاقتصاد اليوناني، يمكنه أن يهدد أكبر منطقة اقتصادية في العالم. وعلى الرغم من أن الناتج المحلي اليوناني يشكل 2.6 في المائة فقط من الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو، فإن اليونان ترسل ثلاثة تحذيرات تتجاوز حدودها.
إن التحذير الأول اقتصادي، حيث أصبحت اليونان رمزاً للمديونية الحكومية، وبدأت أزمتها في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، حين اعترفت حكومتها الجديدة بأن الحكومة السابقة قد زيفت الحسابات القومية. وإن الحكومة الحالية تقاسي آلام عجز ميزانية بنسبة 13.6 في العشرة، وديون تبلغ 115 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. ولا يمكنها أن تخرج من الأزمة بسبب إعادة التخندق المالي، وافتقارها إلى القوة التصديرية. ولا يمكنها كذلك تخفيض قيمة العملة بسبب عضويتها في منطقة اليورو. ومع ذلك يبدو أن شعبها غير راغب في تحمل تخفيضات في الأجور والخدمات، وهي الأمور التي يحتاج إليها الاقتصاد اليوناني لكي يصبح منافساً. ويمكن القول باختصار إن اليونان تبدو مفلسة.
قليلة هي البلدان الأوروبية، أو حتى غير موجودة بالفعل ممّن تعاني كل العلل التي تعانيها اليونان، ولكن هنالك كثيرا من العلل التي تخيف المستثمرين. ولدى البرتغال عجز ميزانية كبير، ولكن يبدو أنها عاجزة عن إعادة هيكلة اقتصادها. وكذلك هي حال إيطاليا التي هي غارقة في الديون. وسمحت بريطانيا، التي هي خارج منطقة اليورو، بهبوط قيمة عملتها، غير أن عجز ميزانيتها يبعث على القلق.
أما الدرس الثاني، فهو سياسي. فقبل أسبوعين، وبعد التوصل إلى أن إعادة هيكلة للاقتصاد اليوناني كانت أمراً حتمياً، قلنا إن لدى الزعماء الأوروبيين «ثلاثة أعوام لإنقاذ اليورو». وافترضنا أن اليونان سوف تحصل سريعاً على صفقة قرض بقيمة 45 مليار يورو (60 مليار دولار) لتجنب عجز وشيك وفوضوي، وذلك لكسب الوقت من أجل إعادة جدولة منظمة، وكذلك حتى تبدأ الاقتصادات الأخرى في الإصلاحات الهيكلية المطلوبة منذ فترة طويلة. وقد بالغنا في تقدير إدراكهم العام.
إن المجرم الرئيسي هو ألمانيا، حيث كانت تحاول طيلة الوقت كسب جميع الجوانب من إنقاذ اليونان، مع معاقبتها على أخطائها، وكذلك دعم الاقتصاد اليوناني، ولكن دون إنفاق أية أموال في سبيل ذلك، إضافة إلى معاملة الأزمة كمشكلة يونانية، بينما سوف تخسر البنوك الألمانية، والمواطنون الألمان الدائنون لليونان الأموال كذلك. ولا يفضل الناخبون الألمان دعم اليونان. ولكن بدلاً من أن تشرح لهم المستشارة، أنجيلا ميركل، أن ذلك يصب في مصالح ألمانيا، فقد خشيت إغضابهم قبل انتخابات إقليمية كبرى سوف تتم في التاسع من أيار (مايو).
أدى اللعب بالوقت إلى نتائج عكسية، حيث صعدت قيمة خطة الإنقاذ الآن إلى ما يزيد على 100 مليار يورو، نظراً لعدم وجود أموال خاصة. وكلما تأخرت حكومات دول الاتحاد الأوروبي، ازدادت شكوك مزيد من الدائنين من أن وعود تلك الحكومات بإنقاذ اليونان تساوي أي شيء. وفي كل مرة يلوم فيها السياسيون المضاربين، يتساءل المستثمرون ما إذا كانوا يفهمون كيف تتم الأمور (أو ما إذا كان لدى المستثمرين خيار بالفعل. وقد رفض الزعماء الأوروبيون في البداية السعي إلى مساعدة من جانب صندوق النقد الدولي نظراً لاحتمال أن تكون في ذلك مذلة لهم. وكان ترددهم هذا أشد ضرراً من قرارهم في نهاية المطاف بطلب مساعدة صندوق النقد الدولي، وذلك على الدمار الذي لحق باليورو.
يؤدي هذان الفشلان السياسي والاقتصادي، إلى التحذير الثالث الذي أطلقته الأزمة اليونانية من أن العدوى يمكن أن تنتشر من خلال عدد كبير من الممرات والطرق. وهنالك احتمال باصطفاف أصحاب الحسابات لسحب أرصدتهم من البنوك اليونانية. وكذلك يمكن أن يحدث «توقف مفاجئ» في تدفق الرساميل إلى الدول الأخرى الأضعف في منطقة اليورو. وقد تجد الشركات، والبنوك في إسبانيا والبرتغال، نفسها منقطعة عن أسواق رأس المال العالمية، بينما تزداد عصبية المستثمرين إزاء الديون السيادية. ويمكن أن تتوقف سوق التعامل بين البنوك في أوروبا في ظل عدم التأكد أي البنوك هي التي يمكن أن يصيبها أذى حالات العجز السيادي. ويمكن حتى لبريطانيا أن تعاني، ولا سيما إذا كانت نتائج انتخابات السادس من أيار (مايو) غير حاسمة.
فما الذي يمكن عمله إزاء كل ذلك؟ إن الأزمة المتصاعدة، وما هو شبه مؤكد من أن اليونان لن تسدد للجميع في الوقت المحدد، سوف تجدد بعض الدعوات للتخلي عنها. ومن شأن ذلك نشر الفوضى في البنوك اليونانية، والأوروبية، ودول أوروبية أخرى، حيث يمكن أن تشبه الآثار تلك التي نجمت عن انهيار ليمان براذرز. وبالتالي، فإن هنالك ضرورة، حتى في المرحلة الحالية، لتقديم عرض من القوة المالية المرتبطة بإنشاء جدار ناري أقوى بين اليونان، والبلدان الأوروبية الأخرى المهتزة. وإن الأولوية أمام صانعي السياسة الأوروبيين هي أن يفعلوا الشيء ذاته الذي فعلته الحكومات تجاه البنوك، أي أن تسبق الخطوات خطوات الأزمة، وإقناع المستثمرين بأن الحكومات سوف تنفق أي أموال ضرورية.
طريق العودة المكلف
يبدأ الاقتصاد بالسياسة، ولن تتخلص أوروبا من هذه الأزمة ما لم يتم إصلاح أدوات عملها الخاصة باتخاذ القرارات بصورة شاملة، وكذلك تغيير ألمانيا لهجتها بصورة راديكالية. وإن ميركل بحاجة إلى الظهور على شاشة التلفزيون الألماني لتشرح لشعبها ما الأمور التي هي على المحك، وكذلك أن توضح مدى استفادة ألمانيا من اليورو، ومدى ما يمكن أن تخسره من سلسلة من العجوزات السيادية الفوضوية. وإن الألمان بحاجة إلى أن يفهموا المخاطر التي يمكن أن تلحق بنظامهم المصرفي، وبرخائهم. وعليهم كذلك أن يفهموا أن علاج أزمة اليونان المالية ليس من باب فعل الخير، وإنما هو إجراء يخدم مصالحهم الذاتية. ومهما بدت عدم عدالة الأمر، ومهما كانت درجة غضب الألمان المقتصدين من تبذير اليونانيين، كغضب بقية العالم من إنقاذ رجال المصارف، بالمنطق ذاته، فإن عدم فعل أي شيء يمكن أن يكلف الألمان أموالاً أكثر.
لا يمكن أن يقف الحل عند حدود ألمانيا، حيث إن الأسواق المالية ليست لديها فكرة حول من يتولى زمام الأمور، كما أن هيكل النظام الأوروبي البيزنطي في اتخاذ القرارات لا يساعد على ذلك. غير أن ألمانيا بحاجة إلى ضمان أن يتم اتخاذ القرارات على وجه السرعة، وأن أوروبا تتحدث بصوت واحد، وأن التنسيق مع صندوق النقد الدولي يتم بسلاسة. وكوسيلة من أجل إقناع الأسواق المالية العالمية بأن المناخ السياسي قد تغير، يجب على منطقة اليورو أن تعيّن لجنة مشتركة لإدارة الأزمات، على أن يتم تخويلها باتخاذ القرارات اللازمة.
لن ينجح الحل السياسي ما لم يكن للاقتصاد الأساسي معنى. وإن أول اختبارات هذا الأمر هي صفقة مساعدة اليونان. ومقابل التعديلات المالية والهيكلية التي تمنح الاقتصاد الأمل في تحقيق استقرار ديونه، فإن على هذه اللجنة المقترحة أن تقدم ما يكفي من الأموال للحيلولة دون حدوث عجز مفروض. وقد تكون هنالك حاجة إلى توفير ما يصل إلى 150 مليار يورو خلال السنوات الثلاث المقبلة، حيث إن الأفضل أن يكون الخطأ في تقديم أكثر من ذلك بكثير، ولكن يظل إنشاء خط نار فاصل بين اليونان، وبين بقية دول منطقة اليورو التي تعاني ديونا سيادية، أكثر أهمية من ذلك.
لن يكون تبرير ذلك الأمر صعباً للغاية بالمعايير الاقتصادية. وعلى الرغم من المشكلات التي تعاني منها دول أخرى داخل منقطة اليورو، فإنه لا يمكن اعتبار أي منها مفلسة، كما هي حال اليونان. ويكمن الخطر الأعظم في البرتغال، ولكن لدى هذه الدولة تاريخ أفضل من حيث التعديل المالي الذي يمكنه وفقاً لفرضيات مواتية ومقبولة السماح لديونها بأن تحقق الاستقرار عند مستوى قابل للإدارة والسيطرة. ويمكن أن تصبح اليونان، وإيطاليا، غير مليئتين مالياً من خلال مستويات متصاعدة من معدلات أسعار الفوائد. غير أن أياً من هذه الدول لا تواجه الظروف الحتمية التي تمر بها اليونان. ويتوجب على صانعي السياسية في أوروبا جعل هذه الأمر أشد وضوحاً. ويجب كذلك على الاقتصادات المعرضة للظروف الصعبة أن تسارع في عملية الإصلاحات التي هي بحاجة إليها لكبح جماح حالات العجز، وكذلك من أجل تعزيز عملية النمو الاقتصادي.
إن البرتغال، بصفة خاصة، بحاجة إلى اتخاذ إجراءات بهذا الخصوص. وعلى البنك المركزي الأوروبي كذلك أن يظهر أنه يمتلك الأدوات الكافية من أجل الحفاظ على وجود السيولة، حتى في حالات الهلع، والذعر. ويجب على حكومات منطقة اليورو التعجيل في إقامة خطوط إمدادات سيولة مشتركة بين الحكومات. وبفضل هذا المستوى غير العادي من عدم الكفاءة، كاد الزعماء الأوروبيون أن يضمنوا أن صفقة إنقاذ الاقتصاد اليوناني فشلت قبل أن تبدأ. وهم يدفعون ثمن ذلك في أيامنا هذه.