الثلاثاء, 6 مايو 2025 | 8 ذو القَعْدةِ 1446


الشركات الجامعية .. نقطة تحول

استقبلت الأوساط الأكاديمية قرار مجلس الوزراء بالموافقة على إنشاء ثلاث شركات جامعية في كل من جامعة الملك سعود في الرياض، جامعة الملك عبد العزيز في جدة، وجامعة الملك فهد في الظهران، باستبشار كبير وتفاؤل عريض يستشرف النقلة الجديدة في دور الجامعات في المساهمة في بناء الاقتصاد المعرفي والتنمية المستدامة.
فالجامعات العصرية اليوم لم تعد تقتصر على التعليم والتربية بل امتد دورها للمساهمة في الناتج المحلي الوطني في الحاضر ووضع أسس الخيارات المستديمة في بناء مجتمع المعرفة للمستقبل. وقد شهد العقد الأخير في التعليم العالي العالمي تحولاً جذرياً في النظم الإدارية الجامعية والثقافة التنظيمية لتواكب العولمة والمكانة الدولية بين المؤسسات التعليمية. وشاع الانسحاب الجزئي من الاعتماد على الدعم الحكومي الكامل، والخدمة المحلية إلى الاستثمار المعرفي والتسويق الدولي. وقد أشارت الدراسات العلمية الحديثة إلى أن انتشار الثقافة التنظيمية في الجامعات الأوروبية والأمريكية والأسترالية الداعية إلى التوجه بالنموذج التجاري هي أكبر مما هو متوقع، فقد انتشرت الجامعات المعتمدة على القيادة الاستراتيجية والإدارة بالأهداف، والتوسع في الأنشطة الجامعية غير المباشرة. وفي الوقت ذاته فإن التنظيم التقليدي القائم على المجالس الأكاديمية البحثية واللجان الإدارية المتعددة يكاد تدريجيا أن ينهار. وبحسب قول العالم الشهير في مجال ريادة الأعمال ديفيد أودريتش فإن الجامعات التي ستضع لها قدما راسخة بين جامعات المستقبل هي التي ستستثمر في خمسة أبعاد رئيسة هي التوجه نحو العالمية، والتعليم الدولي، والتعلم عن بعد، وريادة الأعمال، وأبحاث التقنية الحديثة.
إن إنشاء الشركات الثلاث يعتبر نقطة تحول في مسيرة التعليم الجامعي وهو بلا شك مبادرة تحسب في تاريخ هذا التحول إلى جامعة الملك سعود التي قادت هذا التوجه واستطاعت بدعم وزارة التعليم العالي وإدراك القيادة الرشيدة أن تتهيأ إتاحة الفرصة للجامعات السعودية بخوض هذه التجربة أسوة وتواكباً مع الجامعات العالمية المرموقة.
واستشرافا لمتطلبات نجاح هذه الشركات فإنها ستواجه عدة تحديات ويجب أن تراعي عدة عوامل ومحددات ستكون حاسمة في تحقيق هذا النجاح المنشود.
ومن تلك المحددات أن الشركة الجامعية الجديدة ستقع بين ثقافتين مختلفتين هما الثقافة الأكاديمية التقليدية التي تنتمي إليها الآن وبين ثقافة الأعمال التي يجب أن تصبح فيها حاضراً ومستقبلاً. فالشركة يجب أن تكون مسؤولة عن كل مدخلاتها ومخرجاتها المالية والبشرية وفق آليات عمل الشركات الاحترافي لا بيروقراطية المنظمات العامة. ومن سيفشل في نجاح النماذج الصغيرة سيجد تحدياً كبيراً في نجاح الشركة وفق متطلبات الثقافة التجارية الجديدة. والدارس لتجارب الغرب في الشركات الجامعية يجدها في الواقع تعمل من خلف الثقافة الأكاديمية وفي بعض الأحيان ضدها بدلاً من أن تكون من خلالها وفي إطارها.
وكما هو الحال في الجامعات الأمريكية والأوروبية فستكون هناك مقاومة من قبل الأكاديميين للوسائل التعليمية التطبيقية الموجهة بالاقتصاد المعرفي القائم على النموذج التجاري في مناهج الجامعة وطرق تدريسها ومخرجاتها من أبحاث وخريجين. وستواجه محاولات تطويع المناهج وهندرة الإجراءات تصادماً صريحاً مع ثقافة الأكاديميين خاصة عند غياب تطبيق الاستراتيجيات المتناغمة مع توجهات الجامعة العليا.
ومن مظاهر هذا التصادم وآثاره ما أشارت له دراسة قام بها الباحث ويليمز في بريطانيا حيث أوضح أن الجامعات التي قطعت شوطاً طويلاً في التوجه نحو الاستثمار المعرفي قد شهدت انخفاضاً واضحاً في مرتبات الأكاديميين مقارنة بالمرتبات المدفوعة للمهنيين والممارسين الذين تستقطبهم الجامعة. كما شهدت هذه الجامعات انخفاضاً ملحوظاً في مستوى الأمان الوظيفي، ومستوى الإنتاجية الأكاديمية.
ومن المتطلبات التنظيمية للنجاح أن يكون لهذه الشركة أثر في التحول نحو اللامركزية في الإدارة المالية لوحدات وأقسام الجامعة، مع الاحتفاظ بالأهداف والمعايير الموحدة لقياس الأداء والإنجاز، وتخصيص الميزانيات والمخصصات وفق التقدم في تحقيق الأهداف الموضوعة. وبحسب حجم تلك الاستقلالية واتساعها تتسارع خطوات وإنجازات الشركة الجامعية. هذا التوجه الريادي المختلف عن التقليدية سيخلق ثقافة ريادة الأعمال وتطبيقاتها الواقعية في البيئة الجامعية وسوف يسهم بفعالية في تخفيف حدة المعارضة الأكاديمية.
ولنا أن نقرر أن الهياكل التنظيمية واللوائح العامة والثقافة الإدارية في الجامعة التقليدية لن تكون هي البيئة الخصبة والحاضنة المثالية للشركة الجامعية. وسيكون نجاحها أمام تحديان كبيرين أحدهما يتعلق بنجاح أعمالها كشركة تجارية تخضع إلى معايير وأنظمة القطاع الخاص، والتحدي الآخر والذي لا يقل أهمية وصعوبة هو في القدرة على تعايشها في بيئة النظام العام، وربما أدى الأمر إلى وقوعها في فخ العزلة التي حذر منها الباحث سيمون مارجنسون، ودعا في أطروحته لبناء الشركة الجامعية إلى أن الخروج من العزلة التي وقعت فيها كثير من الجامعات الأسترالية يتطلب خلق وحدات جديدة من داخل النظام قائمة على المفهوم العصري الجديد للجامعات وموجهة بتعزيز مفهوم الإبداع والابتكار وتدار باللامركزية المتحررة من قيود اللجان والمجالس، والمتمحورة حول تحقيق الأهداف والإنجاز.
ومن المؤمل أن تسهم هذه الثقافة الجديدة في إعادة النظر في اللوائح الجامعية وإعادة تشكيل مجالس الكليات والجامعات ليكون تمثيل رجال الأعمال وخبراء السوق غالباً عليها ليشاركوا فعلياً وليس صورياً في رسم سياسات وتوجهات وقرارات تلك المجالس، وإخراجها من البيئة العامة إلى بيئة الأعمال الخاصة.
ومن المؤمل أيضاًُ أن تؤدي هذه التجارب إلى إدخال مفهوم إدارة البحث العلمي Research Management بحيث يكون الإنفاق على البحث العلمي مخططاً ومدروساً لا يعتمد على المبادرات الفردية والقناعات الشخصية، ولكن على الخطط المدروسة سنويا للوصول إلى هدف مرحلي محدد تكرس له الجهود وتخصص له الموارد في فترة زمنية معينة. كما أنه من الواجب التوجه نحو الأبحاث العلمية المنتجة المشتركة ذات التخصصات المتعددة بحيث يقود المشروع طبيعة حاجته وليس التخصص كما هو الحال الآن في تقسيم الميزانيات وتوزيعها بين الكليات والمراكز والوحدات. فضلاً عن أن تمويل الأبحاث يتطلب وضع معايير المنافسة المتجددة بوضوح للحصول على الدعم والمساندة، تشجيعاً للمبدعين والمفكرين ورواد الأعمال. هذه المعايير تمتد لتخضع إدارة البحث العلمي إلى قياس المردود مقابل الإنفاق على بحث ما. هذه المقاييس الشائعة الاستخدام في الغرب يندر أن نراها في جامعاتنا، خاصة تلك المعايير المادية التي تقيس حجم الإنفاق مقارنة بالدخل المتحقق منها.
وأخيراً فإن الاستفادة من تجربة الشركات الجامعية الناجحة في العالم مطلب كبير وذلك باستضافة خبراء تلك الشركات، وعقد اللقاءات وورش العمل المشتركة لبناء شركة جامعية متميزة تتناسب مع متطلبات ومحددات البيئة المحلية. فالنماذج الشهيرة مثل جامعة هارفرد وجامعة MIT هي في الحقيقة نماذج بعيدة كل البعد عن النموذج السعودي المأمول.
فتلك الجامعات هي جامعات خاصة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، تتمحور حول مبدأ الربحية والتنافسية الصرفة بخلاف جامعاتنا السعودية الموجهة بمبدأ الخدمة العامة. ومن تهيأ له زيارة تلك الجامعات يشاهد بوضوح الفارق الكبير بين من يفرض رسوماً على كل خدمة مهما صغرت ومن يغدق في الإنفاق على الخدمات المجانية ومنح المكافآت، فضلاً عن اختلاف الثقافتين والأنظمة والإجراءات ومنهج التفكير. فالاستشهاد بتلك الجامعات لا يعدو كونه استشهاداً لشحذ الهمم وحث الجهود، لكنها ليست على أي حال نماذج للمقارنة الواقعية والتبني.
ومن المجدي أن نستفيد من تلك النماذج الواقعية لتلك الشركات التي خرجت من رحم الجامعات الحكومية ونجحت نجاحاً باهراً في تحقيق التوازن بين تقديم الخدمة العامة وبين الاستثمار المعرفي المستديم. ولنا مع تلك النماذج الناجحة مراجعات في مقالات مقبلة - بإذن الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي