أمانة مدينة الرياض .. وأمانة النقد

تابعت، كما تابع غيري، مداخلة الأمير الدكتورعبد العزيز بن عياف أمين مدينة الرياض، في برنامج ''الحياة كلمة'' للشيخ الدكتور سلمان العودة الأسبوع الماضي، حيث يحرص الكثير على مشاهدة البرنامج عقيب صلاة الجمعة والحقيقة أني خرجت بانطباع إيجابي لهذه المداخلة والرد عليها، فمجمل مداخلة الأمين عتاب رقيق للشيخ، ومجمل رد الشيخ استدراك لطيف وتعقيب رصين، وفي تقديري، أن السمة المشتركة بينهما هي اللغة المسؤولة واستشعار أمانة الكلمة، وهنا أبث بعض الإشارات السريعة في ثنايا هذه المقالة حول ممارسة النقد ونقد الممارسة:
- نقد الأمانة.. وأمانة النقد:
لا شك أن النقد البناء مطلب مهم وضروري لتصحيح المسيرة ومراجعة الأخطاء، لكن المتأمل في الأطروحات الصحافية والمقالات اليومية والمنتديات الإلكترونية يجدها جنحت نحو التشفي والنقد السلبي وممارسة بعض الإسقاطات النفسية والتجاهل والتعامي عن الإيجابيات، والمشكلة الأكبر الاتجاه بنا نحو مجتمع الصراع واستنساخ بعض التجارب العربية والغربية في النقد والمعارضة الجوفاء.
والحقيقة أننا نعيش حالة من الترنح بين الأطراف، فنحن نرى في هذا الصدد شريحتين متطرفتين، الأولى نحو أقصى اليمين، والأخرى نحو أقصى الشمال، فإما الإيغال في التمجيد والمدح ومسح الجوخ وإما النقد الجارح الهدّام الموغل في التشفي والشماتة، فنحن والحالة هذه مثل مناخنا، بارد جاف شتاءً حار جاف صيفاً، فأين الربيع الطلق مورق الأزهار؟
الحقيقة أننا في أمس الحاجة إلى الكلمة الهادئة المسؤولة في معالجة عيوبنا وأخطائنا وذكر الإيجابيات والمحاسن، إن وُجدت، والحقيقة التي يجب ذكرها أن مدينة الرياض حققت في غضون عقدين تطوراً مُذهلاً وحسبكم مثالاً على ذلك الطرقات ولا سيّما الأحزمة الدائرية. والمُنصف من الكُتّاب والقرّاء يحاول إجراء مقارنة سريعة بين الرياض وبعض العواصم الخليجية التي غصت بأرتال السيارات وازدحامها مع أن عدد سكانها لا يتجاوز رُبع سكان الرياض!
بل إن ثمة عواصم قد توقف فيها الزمن فيما يتعلق بالبنية التحتية على الرغم من حرية النقد المُمارس في المجالس البرلمانية في تلك العاصمة، فماذا صنع النقد لذات النقد سوى إيجاد مجتمع الصراع.
- أمطار الرياض .. مَن المسؤول؟
لا شك أن هذه الأمطار التي هطلت على الرياض لم تكن معهودة ولا مسبوقة حتى بلغت في بعض الأحياء 57 ملم على مدينة تقبع في وسط الصحراء، وإذا ما تجاوزنا تقاذف المسؤولية تجاه تجمعات المياه في الأنفاق وبعض الشوارع والأحياء، فلا بد من التذكير أننا جزء من هذا العالم الذي تصيبه الكوارث الطبيعية والمتابع لنشرات الأخبار يجد أضعاف هذا في العالم كله دون استثناء، وبطبيعة الحال لسنا استثناء من هذا العالم. والغالب أن الحاجة (طبيعة المناخ والتضاريس) تصنع الحلول وأساليب التعايش مع أحوال الطبيعة، فالمدن الاستوائية والدول الأوروبية غزيرة الأمطار، نجد أن الحاجة أوجدت الحلول في مسألة تصريف المياه والسيول، وهذا أمر مشاهد، ولعلكم تذكرون موجة الحر التي اجتاحت أوروبا قبل أعوام وكيف كانت الوفيات، إذ قدر عددهم بثلاثة آلاف متوفى في فرنسا وحدها، لأنهم أصيبوا بكارثة غير معهودة، كما أصبنا نحن بهذه السيول وهي أمر غير معهود. فتأملوا هذا!
وهذه الحاجة تصنع ما هو أكثر من ذلك، فعلى سبيل المثال استغلال دول أوروبا الشرقية المساقط المائية في صناعة وتوليد الطاقة الكهربائية حتى أصبحت دولاً مصدرةً لهذه الطاقة للدول المجاورة لها، وعلى ذلك يمكن القول إن من المفترض أن مناخنا وتضاريسنا يجعلانا دولة خبرة في مجال وقف التصحر، تحلية المياه، استغلال الطاقة الشمسية.
والسؤال الأكثر إلحاحاً، مَن المسؤول؟
الحقيقة المُرة التي يجب أن نعترف بها أن كثيراً من شرائح المجتمع ليس لديها شعور بالمسؤولية، ففي الوقت الذي ملأنا فيه الجو صخباً بالنقد على مستوى النظرية فإننا على مستوى التطبيق ميكافيليين بامتياز (الغاية تبرر الوسيلة) تحت ذرائع وتأولات وتمحلات، إذا كنا صادقين فلننقد أنفسنا ونصلح أحوالنا. لقد استطعنا بكل جدارة ودون مس الحاجة إلى صناعة فن الاحتيال وتجاوز الأنظمة، ولعل آخرها انتشار رسائل (إيميلات) متداولة تُحدد مواقع كاميرات نظام ساهر، وما أخبار الطلبة المبتعثين في استغلال الأنظمة في الدول الغربية والتحايل عليها إلا نموذج لهذا الأمر - طبعاً قبل الصاعق السبتمبري - فهل نحن عصيون على الحضارة أم أن هذا نوعٌ من التأبي على المدنية.
لقد باتت لديّ قناعة أن الاحتيال والمراوغة أصبحا ينموان لدينا تحت شعار (من وجد حيلةً فليحتل) ولذا تجد التلاعب وعدم الاعتداد بالأنظمة من قبل بعض المواطنين والبعض يعد هذا نوعاً من الفهلوة و(المراجل) وربما غذته القبائلية والمناطقية، وبطبيعة الحال هذه حالة لم نصل إليها إلا من بوابة (عدم المسؤولية).
إن مشكلتنا مشكلة وعي بالدرجة الأولى، وكثيرٌ من الناس لا يناسبهم إلا صرامة النظام و(تحمير العين)، وإلا فإن جينات (الحنشلة) تسري في عروقهم.
ألسنا بعد ذلك الأولى بالنقد؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي