عصا تحرير الاقتصاد السحرية!
في الوقت الحاضر، سياسة تحرير الاقتصاد هي رغبة كل أمة ووجهتها وفيها يتم التنازل عن إدارة المشاريع العامة لصالح القطاع الخاص وتحفيزه من أجل القيام بهذه المهمة. فترشيد استهلاك سلعة يعتمد على تحرير سعرِها من خلال تخفيض أو إلغاء الدعم الحكومي لها بحيث يتم علاج عدم التوازن ما بين العرض والطلب نتيجة لزيادة الطلب على هذه السلعة، من خلال آلية السوق والمعتمدة على تحرير الأسعار. هذا الواقع قد يكون أكثر إشراقاً في مكان دون آخر بسبب النظام الاقتصادي السائد والذي سرى في شرايين أبناء ذلك المجتمع، ولهذا فمن الصعوبة قياس نجاح التحرير في مكان بناءً على نجاحه في مجتمع آخر، فقد تكون سياسات الترشيد قائمة على افتراضات واقعية وبذلك يكون نجاحها مرتبطاً بعوامل عدة سياسية، اقتصادية، ثقافية، اجتماعية، وبيئية.. إلخ. تاريخياً، التطور الذي حصل لنظام السوق لم يكن على شكل خطوط مستقيمة إنما كان على شكل تموجات، ما يعني أنه ليس نظاماً خالياً من الشوائب وعليه فإن التطبيق الحرفي بدون مراعاة الظروف المجتمعية والمكانية لن يُحقق كل الأماني. فتطوره لم يكن مُباغتاً ومفاجئاً، إنما مر بثلاث مراحل تاريخية حافلة ومفصلية وجهت بوصلة مسيرته نحو الأمام، ففي المرحلة التجارية ارتفعت الإنتاجية ونشطت التجارة وأصبحت عصب وأساس التقسيم الدولي وغدت الأرباح الطريق إلى تراكم رؤوس الأموال، المرحلة الصناعية وفيها تركز الإنتاج الصناعي وأصبحت المشروعات الكبيرة السمة البارزة، وأخيراً المرحلة المالية وفيها ظهرت الاحتكارات الكبيرة. لقد نظرت الرأسمالية من خلال نظام السوق في مرآتها وأدركت أن الحرية الاقتصادية المُطلقة على قدر من الهشاشة وأن كيل المديح للرأسمالية من قبل المنظرين الكلاسيك لا يعدو أن يشوبه كثير من المحاذير، ناهيك عن عدم قصور المديح لهذا النظام وبدون تحفظات. وعلى الرغم من أن الاعتقاد التام بأن نظام السوق سيقود إلى الاستخدام الأمثل للموارد المُتاحة ليس على إطلاقه أو على درجة كافية من الصحة، فوظيفة الأسعار تتمثل في مجموعة من الميزات التي منها حصول الدولة على موارد مالية من خلال تحويل جزء من الناتج الاجتماعي إلى إيرادات، تحديد الدخول الحقيقية للأفراد التي من خلالها يتشكل نمط توزيع الدخول وما يحصل عليه كل فرد من نقود، ولا ننسى أنها أداة مهمة لرسم الاستراتيجيات الاستثمارية بين عديد من النشاطات المهمة ذات الأولوية مع المُشاركة في التخطيط المنظم. وفي المقابل هناك تعطيل للموارد نتيجة البطالة، تخصيص الموارد وبشكل كبير من أجل تحفيز الطلب الكلي وليس الإنتاج مع تشجيع المستهلكين لإنفاق جزء من دخولهم المُقبلة في الوقت الحاضر مقابل فوائد محددة، ناهيك عن الموارد الهائلة المُخصصة للدعاية والإعلان. وقد كان للمؤسسات المالية الدولية دور بارز في تحجيم دور الدولة وتشجيع القطاع الخاص من خلال ربط المساعدات المالية والمشورات الفنية بمدى تفعيل دور القطاع الأهلي في عملية التنمية، ويتم ذلك من خلال تشجيع التجارة الخارجية لتقوم بدورها الكامل ودعم التوجهات لتخفيض أسعار الصرف من أجل تحفيز النمو الاقتصادي عن طريق زيادة الصادرات، إصلاح العجز في موازين المدفوعات وذلك من خلال رفع الدعم عن السلع الأساسية ورفع مستويات الإنتاج والإنتاجية وحُسن التوظيف، حيث تواجه حكومات البلدان النامية ضغوطاً للتخلي عن دورها التقليدي المتعلق بالقطاعات الإنتاجية والخدمية. بيد أن المرحلة الحالية بالغة الحساسية حيث نحتاج فيها إلى قطاع خاص قوي يتولى زمام المُبادرة بعد أن هيأت الدولة له البنية الأساسية المناسبة، وإذا لم يتم تنظيم التخطيط التنموي من خلال التحرير فسنواجه متاعب اقتصادية داخلية من جملتها هجرة رؤوس الأموال من القطاعات الإنتاجية الحقيقية إلى النشاطات الاقتصادية غير الحقيقية التي لا تقدم الكثير للاقتصاد الوطني كالمُضاربات بجميع أنواعها وتجارة العملات مع مزيد من الاهتمام بالقطاعات الخدمية، والنتيجة سيزيد التحرير الطين بِلة من خلال تعميق الثنائية الاقتصادية وذلك بتوجيه الموارد والاستثمارات إلى قطاعات النفط والطاقة والتعدين والمنتجات الأولية ويذهب الجزء المتبقي لقطاع الخدمات والتقنية كالاتصالات والمعلومات، ما يخلق ثنائية شاذة تزيد من تعميق الفوارق الاجتماعية والمادية ناهيك عن الوضع الاقتصادي برمته. يتبع هذا كله تقويم المشروعات والتجاوزات الحاصلة في هذا الشأن ما سيكون له أكبر الأثر في السياسات التمويلية والاستثمارية. وضع نظام ضريبي مرن وتقديم الحوافز للمُصدرين وزيادة المُدخرات المحلية الحكومية لتغطية نقص المُدخرات الخاصة نقطة مضيئة على طريق التنمية، ولم تدخر الدولة ذخراً من أجل تعزيز المشروعات العامة العملاقة لخدمة القطاع الخاص ناهيك عن المُحفزات الكثيرة. الخوف الشديد من أن الاستثمارات المحلية أو الدولية ستتجه نحو المواطن التي تتوفر لها البُنى التحتية الأساسية والقريبة من الاستهلاك بُغية تحقيق أعلى العوائد ما يرفع من سقف الثنائية الاقتصادية. تحرير الاقتصاد ليس شعارا للاستهلاك المحلي فقط، إنما يتطلب عملا متوازنا مبنيا على أسس علمية صحيحة تأخذ في الاعتبار تكاليف الفُرص البديلة حسب الأولويات الاقتصادية في وقت قد تشح فيه الموارد المالية، إضافةً إلى عدم فسح المجال لمزيد من الهدر المالي والاقتصادي.