«قيصرية الأحساء».. نموذج فريد في التصميم العمراني التراثي ومورد اقتصادي مهم
ارتبط اسم سوق القيصرية في محافظة الأحساء باسم الواحة التي لعبت على مدى تاريخها الطويل دورا بارزا وقويا في دفع الحركة الاقتصادية والأثرية والتاريخية للمملكة، حيث تشكل القيصرية إرثاً تاريخياً وعمرانياً باعتبار تكامل ونضوج مدينة الهفوف مع مفردات التراث العمراني سابقاً وحاضراً.
وعملت الهيئة العامة للسياحة والآثار بالتعاون مع أمانة محافظة الأحساء، على إعادة بناء سوق القيصرية بشكلها المعماري الأول وموادها التي بنيت بها سابقا، وذلك ضمن برنامج تطوير الأسواق الشعبية القائمة الذي تتعاون فيه الهيئة مع وزارة الشؤون البلدية والقروية.
كما تشكل سوق القيصرية أنموذجا فذاً في تخطيط وتصميم الأسواق، خاصة إذا ما علم تفردها على مستوى الجزيرة العربية والخليج باعتبار القيصرية مورداً اقتصادياً مهما، واستيعابها لأنشطة تسويقية وحرفية مختلفة.
ويرى المهندس عبد الله الشايب رئيس جمعية علوم العمران وأحد المهتمين بالتراث، أن القيصرية شكلت إرثاً اجتماعياً بتوارث الباعة والحرفيين فيها، كما أعطت نموذجا للتواصل الاجتماعي عن طريق التقارب في المحال، كما أنه يرى أن عدد المحال مع وجود التخصصات المختلفة في مكان واحد يعطي كثافة واستمرارية اجتماعية تقدم كثيرا من ''حوانيت'' الشاي والقهوة لزبائنها دلالة على الترابط الاجتماعي، مؤكدا أن بعض أهالي الهفوف يزورون القيصرية أحياناً ضمن الإطار الاجتماعي.
وأوضح الشايب أن مركزية مدينة الهفوف من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كانت إحدى ثمار سوق القيصرية التي تعد أكبر سوق في الخليج في حينه، وظلت القيصرية مركزا تجاريا على الرغم من النمو العمراني لمدينة الهفوف ووجود أسواق حديثة.
ولا يمكن للمتتبع لتاريخ أو اقتصاد واحة الأحساء أن يعطي صورة متكاملة عن الأحساء وتاريخها من دون أن يتوقف طويلاً عند سوق القيصرية، هذه السوق التي ظلت طوال قرون شريانا يغذي اقتصاد شرق المملكة ووسطها (وهو أشبه ما يكون بأنابيب النفط التي تغذي في وقتنا الراهن تلك المناطق).
القيصرية كانت تشكل أهمية اقتصادية ومقصداً رئيساً ليس لسكان الأحساء وحسب، وإنما لمعظم إن لم يكن لكل الأشقاء القطريين ومثلهم أهل الكويت والبحرين.
يشير المؤرخ الشيخ جواد الرمضان إلى أن إنشاء سوق القيصرية في مدينة الهفوف صار في عهد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن، مرجحاً أن يكون ذلك في سنة 1334هـ، وهو التاريخ الذي شهد إنشاء السوق.
وبين المؤرخ أن مكان القيصرية في عهد العثمانيين حتى العشرينيات الهجرية كان عبارة عن دكاكين متفرقة، فيما كان موقع القيصرية الحالي عبارة عن طريق وسوق كبيرة.
وتقع سوق القيصرية في وسط الهفوف القديمة في حي الرفعة مقابل أسوار فريق الكوت على مساحة 15000 متر مربع، وتضم 420 محلاً، وتشكل الحوانيت ''المحال'' العائدة للبلدية 171 محلاً، والباقي ملكيات خاصة وأوقاف 249 محلاً، وهي تنقسم إلى قسمين أحدهما الجزء الأكبر يمتد بين شارعي الخباز والحدادين، والثاني بين شارع الحدادين وسوق الحريم أو (البدو).
وتتكون سوق القيصرية من دكاكين صغيرة ومتقابلة، إضافة إلى سوق البدو، وفيها رواق خارجي للمواد الغذائية، كما يباع عند البدو ثياب مخاطة يدوياً، وتضم السوق ''الحواويج'' العطارين الذين يبيعون أدوات العطارة، والأدوية الشعبية مثل (المر، الصمغ، الريح، وإلى الشرق منهم يوجد سوق البشوت).
أما الرواق الخارجي على امتداد الشارع ففيه باعة الأغذية، وكان يطلق عليهم ''المتعايشي''، وبدأ المتعايشي في فترة لاحقة يبيع المعلبات، كما كان في جانب من سوق القيصرية باعة النحاس ''النحاسون''، كما كان هناك صانعوا الركائب للجمال.
وكانت القيصرية مهمة بالنسبة لكبار السن وأهل الحشمة الذين لا يلبسون ثيابا إلا تلك المخاطة باليد أما بعضهم الآخر فيشتري ثيابا مخاطة بالماكينة التي جلبت إلى الأحساء في الخمسينيات.
أما عن الخصائص العمرانية والاقتصادية للقيصرية فقد شكلت إرثا تقليديا للثقافة بوجود الحرف المهنية ومنتجاتها، كما تشكل بيئة عمرانية تسويقية لضخامة المبنى وتشعباته، كما يمثل نموذجا فريدا على مستوى الجزيرة العربية من حيث التصميم المعماري.
ويعد سوق القيصرية أكبر سوق مغطاة في المملكة والخليج، ما جعلها موقعا اقتصاديا ومركزا حيويا. وتتنوع البضاعة المعروضة فيها من الصناعات التقليدية، كالبشوت والعبايات والصناعات النحاسية إلى المنتجات الحديثة كالمواد الغذائية، وبيع الأحذية، والعطورات وبيع الملابس، وبيع الأقمشة، وبيع الساعات، ومحال للصرافة تحت سقف واحد. في حين أثر طبيعة تصميمه على حيوية السوق واستمرار انتعاشها حتى سجلت أرقاما قياسية سواء لقيمة المحال أو لخلو القدم، كما أن السوق وفرت وظائف لأكثر من ألف مواطن، وظلت السوق طوال تاريخها مكان المتسوق في الأحساء.
وكان الأمير منصور بن متعب بن عبد العزيز وزير الشؤون البلدية والقروية قد افتتح، بحضور الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار والأمير جلوي بن عبد العزيز بن مساعد نائب أمير المنطقة الشرقية، والأمير بدر بن محمد بن جلوي آل سعود محافظ الأحساء الثلاثاء 04-06-1431هـ، سوق القيصرية، ووضع حجر الأساس لمشروع تطوير وسط الهفوف.