ألهذا الحد بلغت البطالة بين البنات الجامعيات؟!
كلما قررت التوقف عن الكتابة عن مشكلة البطالة في البلاد، بسبب كثرة ما كتبت، وقناعتي التامة بعدم وجود ما يدل على إحساسنا بها، وتحركنا من أجلها، أتى ما يعيدني إلى عنفوان المشكلة، ويجبرني على الخوض فيها من جديد، وإن كنت ما زلت على قناعتي بأنه ليس ثمة اعتراف بخطورة المشكلة، لأن الجهات المسؤولة عن حلها، والتي كانت السبب في نشوئها، وتضخمها، مازالت تحاول تعليق أسبابها على أمور تدعي أنها ليست مسؤولة عنها!..، وما دام الأمر كذلك، أي أنه ليس ثمة اعتراف بالمشكلة، مع خطورتها، واستشعار للمسؤولية عنها، فإنها ستتفاقم، وخطرها سيزداد، وهذا هو ما يعبر عنه واقع الحال، حيث زادت نسبة العاطلين عن العمل من 10 في المائة في عام 2008 إلى 10.5 في المائة عام 2009، وترتفع النسبة لتصل إلى 28 في المائة بين الإناث!..، والغريب أن النسبة الأكبر للعاطلين عن العمل، بين الجنسين، هم من حملة الشهادة الجامعية، إذ تبلغ النسبة 44 في المائة، ولكنها عند الإناث الجامعيات تصل إلى 78 في المائة!..، أي أن معظم من يتخرجن في الجامعات يبقين دون عمل!..، والأغرب الذي يدعو للدهشة، أنه عند المقارنة مع الوافدين يتبين أن النسبة الأعلى بين الوافدين العاملين في المملكة تقل مؤهلاتهم عن الثانوية العامة، فنسبة من يحمل الشهادة الجامعية منهم لا تزيد على 12 في المائة، ومن يحمل الثانوية العامة لا تزيد نسبته على 15 في المائة، والبقية دون هذا المؤهل، أي في عداد الأميين (صحيفة ''الحياة'' 2/6/1431هـ).
ومع ذلك يوجد من يبرز وجود البطالة بوجهها وواقعها المرعب في المملكة بأن السعوديين غير مؤهلين لسوق العمل!..، أي أن من يحمل الابتدائية من غير السعوديين مؤهل للعمل أكثر ممن يحمل الشهادة الجامعية منهم، وهي معادلة مقلوبة، بيد أنها تصبح لدينا مقبولة!
وأكبر دليل على تفاقم مشكلة البطالة لدى العنصر النسائي أنه لم يتح للتوظيف خلال العام الماضي، في القطاع الحكومي سوى 8574 وظيفة بلغ عدد المتقدمات لها من حملة الشهادة الجامعية 310 آلاف خريجة!..، مع احتمال أن تلك الوظائف لم تشغل بكاملها بسبب عدم تطابق شروط بعض الوظائف وطبيعة متطلباتها مع بعض التخصصات، لغلبة التخصصات النظرية على غيرها من التخصصات العلمية، والدليل أن عدد الوظائف المتاحة في مجال العلوم الشرعية كان 1523 وظيفة، بينما بلغ عدد المتقدمات لها 66.580، وعدد الوظائف المتاحة في مجال تخصص اللغة العربية كان 1199، بينما بلغ عدد المتقدمات لها 55.762 (صحيفة ''الاقتصادية'' 4/6/1431هـ).
وهكذا يزداد عدد المتقدمات كلما كان المعروض وظائف ذات تخصصات نظرية، وعلى افتراض أن الوظائف المعلن عنها شغلت بالكامل، فإنه بقي من عدد المتقدمات أكثر من 300 ألف دون تعيين!..، فضلا عن أعداد العاطلات ممن لم يتقدمن، أو ممن تقل مؤهلاتهن عن الجامعية!..، وهو ما يعطي مؤشرا قويا على عدم ملاءمة مخرجات التعليم لسوق العمل حتى في القطاع الحكومي، وينبئ بأن توجهات التعليم الجامعي في واد، ومتطلبات سوق العمل في واد آخر!..، وهو ما يؤكده وضع الوظائف الصحية، حيث تشير الإحصاءات إلى أن 80 في المائة من الوظائف الطبية، و60 في المائة من الوظائف الصحية المساعدة مشغولة بغير السعوديين!..، هذا في القطاع الحكومي، أما في القطاع الخاص فليس هناك نسبة من العاملين السعوديين والعاملات في هذا المجال تستحق الذكر! ومن اللافت للنظر أنه لا توجد في الأفق أي خطط أو توجهات معلنة لتصحيح مسار توجهات التعليم العالي لتكون قريبة من متطلبات سوق العمل، رغم أن الأمر في غاية الأهمية لأن تخريج طلبة لا يجدون عملا في مجالات تخصصهم هو تكريس للبطالة، وتكديس للعاطلين في حد ذاته، فضلا عن كونه هدرا للأموال والجهود في التعليم العالي!..، وقد غدا من الضرورات الملحة إيجاد الحوافز والأسباب التي من شأنها إحداث بعض التوازن في توجهات الطلبة في دراساتهم، ومنها تحديد عدد المقبولين في التخصصات النظرية كي يتوجه الطلبة إلى غيرها من التخصصات، ومنها كذلك استخدام مكافأة الطلبة كحافز يشجع على الاتجاه إلى التخصصات العلمية، بخاصة أنه أمر يصب في مصلحة الطلبة أنفسهم، ويضمن لهم توافر فرص العمل بعد التخرج دون عناء وانتظار، وعلى الطلبة، من الجنسين، أن يدركوا أن سوق العمل في المملكة في المستقبل هي سوق التخصصات العلمية المهنية بسبب النهضة التي تعيشها المملكة، والمشروعات الكبرى العلمية والتقنية التي تشيد الآن، وستفتح أبوابها لحاملي التخصصات العلمية بعد سنوات، مثل الجامعات التقنية، والمدن الاقتصادية، ومدن المعرفة، والشركات والمشروعات الضخمة.. وإذا عدنا إلى قضية البطالة بين النساء بالذات، فثمة أسئلة كثيرة تنتظر الإجابة، أليس بقاء نسبة 78 في المائة من حاملات الشهادة الجامعية بدون عمل أمر مؤلم؟!.، ألا يهزّ هذا الضمائر الحية؟! ولا سيما من هم في موقع المسؤولية في التوظيف، وتوجهات التعليم العالي؟!.. ألا يدعو ذلك أسر الخريجات للقلق على وضع بناتهم ومستقبلهن؟!..، والخوف عليهن من الانجراف في طريق الانحراف، تحت وطأة الملل والاكتئاب والحاجة؟!
إنني أعتقد أنه لو كان هناك تطبيق سليم لقرارات الدولة وتوجهاتها، ولا سيما توجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز التي تنادي بوضع مصلحة المواطن أولاً، وأن كل قرارات الدولة ومشروعاتها هي من أجل هذا المواطن، وتأمين فرصة العمل الشريف له!..، وأنه لو صحت النيات، واستشعرت المسؤوليات فلن يبقى خريج واحد دون عمل!..، خذوا مثلاً قرار مجلس الوزراء رقم 120 الذي فتح للمرأة آفاقاً واسعة في العمل، وألزم كل منشأة، حكومية وغير حكومية، بأن تسند جزءاً من أعمالها إلى المرأة، بشرط تخصيص المكان المناسب لها، لو طبق ذلك القرار، كما يفترض، لتم استيعاب كل طالبات العمل!..، وخذوا مثلا آخر، وهو المدارس الأهلية فمعظمها يحصل على إعانة وتسهيلات من الدولة، والرسوم الدراسية فيها تزداد سنة بعد أخرى، وهي تحقق أرباحاً مجزية، فلماذا لا تلزم بتوظيف بنات الوطن في مجال التعليم، بدلا من الاعتماد على الوافدات؟!.، ولا ينبغي الاحتجاج بارتفاع الرواتب التي تطلبها الخريجة السعودية عما تطلبه غيرها، فقد تضاءلت طموحاتها وأصبحت تقبل بأقل الرواتب للخروج مما هي فيه من وضع سيئ، جراء البطالة!
وأتساءل، في الختام، ألا نعي خطورة المشكلة، وكونها متعدية، تجر معها مشكلات أخرى منها الأخلاقية والأمنية والاقتصادية؟!..، ألا ندرك أن المواطن والمواطنة مقدمون على غيرهم، ممن يجدون عملاً رغم تواضع تأهيلهم، وبناتنا تخنقهن البطالة في البيوت؟!..، إن الأمر لم يعد يحتمل التسويف والتصريف، والتنصل من المسؤولية، وتعليقها على أسباب غير منطقية!
والله من وراء القصد.