المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات.. ما بين الجزرة والعصا

ينتظر من الحكومة أن تفعل المزيد من أجل تحفيز الشركات على الالتزام بالمسؤولية الاجتماعية. إحدى الخطوات في هذا الاتجاه, والتي قد تكون بمثابة "العصا" تتضمن إلزام الشركات الكبرى بإصدار "تقارير المسؤولية الاجتماعية" سنويا كي ينكشف للمستثمرين والموظفين والمساهمين والزبائن بجميع فئاتهم مقدار تحملها مسؤولياتها الاجتماعية.

في واقعنا الإداري كما في الشأن العام، تتردد مفردات مثل ''المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات'' نسمعها تكرارا من قبل التنفيذيين في الشركات الوطنية الخاصة والمختلطة, ونقرأها في تقارير شركاتهم السنوية, لكنها غالبا ما تقال أو تسجل من باب تحصيل الحاصل أو رفع العتب دون أن تترجم إلى مبادرات على أرض الواقع يلمس فوائدها أبناء المجتمع. وهذا الواقع يدفع إلى الواجهة تساؤلات منها: هل لدى التنفيذيين في مؤسساتنا فهم عميق للمسؤولية الاجتماعية ومردودها الاقتصادي والاجتماعي على مؤسساتهم؟ ولماذا يتبجح الجميع بذكر المسؤولية الاجتماعية معظم الوقت ثم في ''ساعة الجد'' يتهرب منها ''معظم الجميع''؟ وهل من سبيل إلى إلزام المؤسسات باستحقاقات المسؤولية الاجتماعية؟
بداية لا بد من الإقرار بأن ما كتب عن هذا الموضوع كثير وقد لا آتي بجديد في بيان أهميته وفوائده للمجتمع وللشركات على حد سواء, لكن ما حفزني على طرحه اطلاعي على خبر صحافي عن مبادرة شركة التصنيع الوطنية بتخصيص 1 في المائة من صافي أرباحها السنوية لبرامج المسؤولية الاجتماعية، وهي خطوة تسجل لإدارة الشركة، ونهج يستحق الإشادة والثناء، ومبادرة يؤمل أن تكون أول الغيث الذي تتبعها مبادرات مماثلة من قبل الشركات الكبرى في المملكة ومن ضمنها البنوك التي تجني الكثير وتقدم القليل.
السؤال الذي يطرح بداية: ''هل يوجد إطار محدد للمسؤولية الاجتماعية للمؤسسات؟''. وفي تقديري أن مفهوم المسؤولية الاجتماعية ليس جامدا بل يتسم بالديناميكية وتحدده احتياجات وأولويات المجتمع المتغيرة بتغير الزمن، فهو اليوم يتجاوز المبادرات الخيرية المنفردة إلى الاستثمارات والاستراتيجيات طويلة الأمد التي تحقق استدامة الأعمال، التي تشمل المبادرات المرتبطة بالجوانب البيئية والاجتماعية والحوكمة. وتعد المسؤولية الاجتماعية لجهة فهمها واستيعابها مكونا أساسيا من مكونات الهوية للمؤسسات الاقتصادية. وينعكس مدى عمق فهم القيادات التنفيذية للمؤسسات أطر المسؤولية الاجتماعية على الالتزام الثابت لدمج الممارسات المستدامة في استراتيجيات أعمالها التجارية الأساسية، وتبني مبادرات متكاملة ومبتكرة للمسؤولية الاجتماعية يمكن أن تكون مثلا يحتذى داخليا وخارجيا.
ومع أن مصطلح ''المسؤولية الاجتماعية'' متداول في مختلف القطاعات الاقتصادية في المملكة بما فيها القطاع الخاص وشركاته سواء الوطنية منها أو الأجنبية، وتم تنظيم ملتقيات للتوعية به مطلع العام الجاري في كل من جدة والرياض وبمشاركة حكومية رفيعة، إلا أن الاستجابة ما زالت ـ مع الأسف ـ ضعيفة، فالنتائج متواضعة ولا ترقى إلى حجم الآمال ويجسدها كون العديد من مؤسسات وهيئات النفع في المملكة ما زال معظمها يمول بصورة رئيسة من قبل الحكومة أو ما يقدم لها من تبرعات جلها من الشركات المختلطة المملوكة بالأغلبية للحكومة، ما يعد أمرا مخالفا للمبدأ في حد ذاته. في المقابل, فإن هذه المؤسسات في الدول المعنية تمول من قبل المجتمع بمختلف قطاعاته، وأولها بطبيعة الحال قطاع رجال الأعمال.
ما الخطوة أو الخطوات المقبلة لتغيير هذا الواقع وتفعيل ''المسؤولية الاجتماعية للشركات''؟لا أملك إجابة قطعية على الرغم من وجود عدد من الإجابات المحتملة بالضرورة، فالموضوع مهم ومطبق في عديد من دول العالم, وعلى وجه الخصوص, في الدول المتقدمة. وهو واحد من أسباب تقدم تلك الدول في أكثر من مجال، حيث النجاح مفهوم متكامل. وهذا النوع من التكافل الاجتماعي والمؤسسي يؤدي إلى ترابط مجتمعي عام، وتجد كثير من المؤسسات فيه الدعم والمساندة، ما يرتقي بالإنسان تعليما وصحة وإسكانا وخدمات عامة. وفي هذه المجتمعات ينعكس تبني الشركات المسؤولية الاجتماعية إيجابا على أدائها المالي وترتفع قيمة أسهمها، وتتعزز سمعة وصورة علامتها التجارية، ويزداد ولاء عملائها وموظفيها بما يقلل معدل تسربهم، وتصبح الشركة جاذبة لموارد بشرية متميزة للعمل فيها. فهذه النشاطات باتت تدرج ضمن أصول الشركة في الدول المتقدمة الوقت الراهن.
ومن الخطوات المقترحة، التي تكرر طرحها في منتديات اقتصادية ومحافل إعلامية محلية، وتأخذ بعدين: طوعي وإلزامي. وفي الحالتين مطلوب تشجيع المبادرات المتميزة وتحفيز الشركات الملتزمة مفهوم المسؤولية الاجتماعية من خلال منحها معاملة الأفضلية والأولوية في المناقصات والمشتريات الحكومية، وكذلك في تسهيل الإجراءات والرسوم المخفضة، وهذا أقل ما يمكن، وهو أضعف الإيمان. حبذا لو يصار إلى تنفيذه ولو بشكل تدريجي وفق برنامج محدد الإطار وضمن سقف زمني معلوم.
عمليا ربما لا يكون هناك سبيل إلى إلزام المؤسسات باستحقاق المسؤولية الاجتماعية، فطرق التهرب من تحمل المسؤولية كثيرة, خصوصا عندما يغيب الوازع الأخلاقي لدى الإدارات التنفيذية للشركات, وهذا أمر مفهوم، لكنه في المقابل يبرز الحاجة إلى تبني سياسة ''الجزرة والعصا'' التي تؤطرها تشريعات ملزمة تدفع الجميع للإسهام في تحمل مسؤولياتهم الاجتماعية. ولواقع السوق في المملكة طبيعة استثنائية خاصة تدفع في هذا الاتجاه، فلدينا على سبيل المثال الشركات الاستثمارية الأجنبية ومن ضمنها البنوك التي تستفيد من بنية تحتية مهيأة وخدمات تقدم بأسعار رمزية وتحقق أرباحا طائلة وتدفع ضرائب بسيطة قياسا بما تدفعه في وطنها الأم, ومع ذلك لا تقدم شيئا يذكر في مجال المسؤولية الاجتماعية .
وينتظر من الحكومة أن تفعل المزيد من أجل تحفيز الشركات على الالتزام بالمسؤولية الاجتماعية. إحدى الخطوات في هذا الاتجاه, والتي قد تكون بمثابة ''العصا'' تتضمن إلزام الشركات الكبرى بإصدار ''تقارير المسؤولية الاجتماعية'' سنويا كي ينكشف للمستثمرين والموظفين والمساهمين والزبائن بجميع فئاتهم مقدار تحملها مسؤولياتها الاجتماعية. وينبغي أن تعد هذه التقارير وفق معايير تحدد من قبل الهيئات الحكومية المعنية، على أن تخضع للمراجعة والتدقيق بشكل مستقل شأنها شأن التقارير المالية تماما. وينبغي أن تكون تلك التقارير موحدة ومراجعة من قبل أطراف خارجية ثالثة ثم يتم تدقيقها من قبل مدققين مرخصين ومؤهلين لهذا الغرض. ولن يكون من المجدي للشركات تغطية قصورها في مجال المسؤولية الاجتماعية من خلال إعداد تقرير منمق لأنه سيكون موضع مناقشة مستمرة، ليس فقط من خلال المشاركة التفاعلية مع المساهمين وشريحة واسعة من أبناء المجتمع، بل أيضا سيشكل فرصة تتيح للحكومة الاطلاع على ما تقدمه الشركات التي تتعامل معها، أو تلك التي تحظى بإعفاءات ضريبية أو حوافز أخرى لحساب التكاليف مقابل المكاسب.
وفي تقرير لمؤسسة ''جوائز تقارير المسؤولية الاجتماعية لعام 2010'' من المتوقع أن إجمالي ما سيصدر خلال عام 2010 من تقارير مستقلة عن المسؤولية الاجتماعية من قبل الشركات في أنحاء العالم سيصل إلى نحو أربعة آلاف تقرير، نحو 20 في المائة منها ستقوم بإصدارها 800 شركة للمرة الأولى، وما يزيد قليلا على نصف إجمالي التقارير مصدرها شركات أوروبية، ونحو 15 في المائة منها شركات من كل من أمريكا الشمالية وآسيا، وأقل من 5 في المائة من منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا! والرقم الأخير الخاص بمنطقتنا له دلالة واضحة على أن هذا النهج أو التقليد لم يأخذ بعد ما يستحقه من اهتمام من قبل مؤسساتنا, وبالذات الكبرى منها, التي لا تصدر مثل تلك التقارير, وهو ما يعكس بدوره كون المسؤولية الاجتماعية تأخذ اهتماما هامشيا من لدن التنفيذيين في مؤسساتنا الوطنية.
وتتبوأ ثلاث دول مكانة مرموقة على مستوى العالم في مجال تشريعات المسؤولية الاجتماعية للشركات، حيث تحل الدنمارك في المرتبة الأولى، فهي الدولة الغربية الأولى التي تلزم الشركات الكبرى بتضمين تقاريرها المالية السنوية معلومات غير مالية وتحديدا تلك المتعلقة بالمسؤولية الاجتماعية. وجاءت إندونيسيا في المرتبة الثانية وتمكنت من الاستحواذ على هذه المرتبة العالمية المتقدمة من خلال إصدار تشريعات تلزم جميع الشركات بإصدار تقارير المسؤولية الاجتماعية. وجاءت الولايات المتحدة في المرتبة الثالثة وكان وراء تبوئها هذه المرتبة المتقدمة مطالبة هيئة رقابة البورصة الأمريكية جميع الشركات المدرجة الإفصاح بصورة منتظمة عن المخاطر المتعلقة بالبيئة في تقاريرها السنوية.
وليس هناك أدنى شك في أننا سنشهد في المستقبل القريب ما يشبه النظام العالمي لإصدار تقارير المسؤولية الاجتماعية بطلب من الحكومات إلى جميع الشركات العامة، وربما يتحقق ذلك في فترة لا تتجاوز السنوات الخمس أو العشر المقبلة، الأمر الذي يفرض على الشركات الوطنية أن تكون على أهبة الاستعداد لتطبيق أفضل الممارسات وإعداد تقارير المسؤولية الاجتماعية الخاصة بها.
آخر الكلام .. دعوة إلى العودة إلى تراثنا الإسلامي الزاخر بصور رائعة للتكافل الاجتماعي تجسدها مخاطبة الرسول الكريم ـ عليه الصلاة والسلام ـ الأمة بقوله ''كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته'' .. وهنا المسؤولية موزعة على كل أفراد المجتمع معرفة وممارسة والمطلوب مبادرات تعكس فهما أعمق للمسؤولية الاجتماعية يتم ترسيخه بين جميع شرائح المجتمع كمنهج حياة .. وعلينا جميعا القيام بمسؤولياتنا لتعزيز مفهوم وثقافة المسؤولية الاجتماعية في جميع القطاعات وعلى جميع المستويات. وهذا يتطلب أن نمارسها كل يوم، ونعلمها أولادنا كل يوم، ونغرسها في النشء منذ الصغر حتى ترعانا في الكبر. وعلينا أن نحرص عليها على المستويات كافة: إدارية، أخلاقية، وقانونية, فالمسؤولية هي الضمير، والتهرب من المسؤولية تخل متعمد عن الضمير وراحة الضمير.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي