الأسباب الحقيقية لتعثر المشاريع الحكومية! (3)
تحدثت في المقالين السابقين عن مجموعة من العوامل الرئيسة التي تعزى لها أسباب تعثر المشاريع الحكومية، أو توقفها بالكامل، أو عدم الاستفادة منها كما هو مستهدف، وتعرضت بالنقاش والتحليل إلى دور التخطيط الهندسي، وكثرة أوامر التغيير، بالحذف والإضافة، التي تتم على المشروع أثناء تنفيذه، وما يحدث من تفاوت بين تكلفة المشروع في الدراسات، وبين ما يعتمد له في الميزانية، ثم دور الإشراف الفني فيما يصيب المشاريع من إخفاقات! ...
وفي هذا المقال نواصل الحديث عن عامل آخر مهم، وهو دور المقاولين المنفذين للمشاريع الحكومية في مدى نجاحها أو تعثرها..
إن دور المقاول المنفذ يأتي في المقدمة بين الأعمدة الرئيسة التي يقوم عليها أي مشروع، وهي المقاول، والاستشاري، والجهة صاحبة المشروع، فإذا كان المقاول لا يملك المقدرة الكاملة، من النواحي الفنية والإدارية والمالية، أو كان ضعيف الذمة، أو راشياً، أثر ذلك سلباً في أدوار الجهات الأخرى!..
وحتى نلتزم جانب الواقع، نستعرض فيما يلي وضع المقاولين، والمشاريع خلال العقود الماضية، وصولا إلى الوضع الحالي لها:
1- في وقت الطفرة الأولى تكوّن في المملكة قطاع مقاولات واسع وقوي، برز من خلاله عدد كبير من شركات المقاولات، التي استطاعت تنفيذ مشاريع الطفرة الأولى بمستوى أفضل مما عليه حال المشاريع اليوم!..
وكان للدولة دور كبير في تكوين هذا القطاع، حيث قامت بإنشاء صندوق لإقراض المقاولين، الذي ألغي فيما بعد، رغم أنه كان له دور ملموس في مساعدة المقاولين على تكوين أنفسهم، وامتلاك المقدرة الفنية والإدارية.
2- بعد انحسار طوفان الطفرة، ومرور المملكة بفترة من انخفاض الدخل، أثر ذلك في حجم المشاريع، ونوعها وعددها، ولم يكن بمقدور المقاولين من ثم الاحتفاظ بكياناتهم الفنية طالما لا توجد مشاريع تستوعبها، فأدى ذلك إلى خروج بعضهم نهائياً من القطاع، وتقليص إمكانات البعض الآخر!..
3- عندما عاد طوفان الطفرة في صورته الأخيرة، بمشاريع عملاقة، لم يوجد العدد الكافي المؤهل لتنفيذها من المقاولين، فأسند تنفيذ بعضها إلى جهات غير مختصة بالتنفيذ أصلا، كما جرى إلزام بعضها مباشرة ومن دون منافسة عامة لمقاولين مختارين، للنأي بها عن تزاحم من بقي من المقاولين، والتصارع على تقديم أسعار لا يمكن التنفيذ بها بالحد الأدنى من المستوى المقبول!..
4- من بقي من المقاولين صاروا يتنافسون على المشاريع الأخرى التي تطرح عن طريق المنافسات العامة، وهي منافسات تتجاوز في حدها أحياناً إلى ما دون الأسعار السائدة، رغبة من المقاول، الذي يقدم مثل ذلك السعر، في تشغيل عمالته ومعداته، مع علمه بأنه لا يمكن أن يقدم عملا تبرأ به الذمة بذلك السعر، لكن الذمة تُغيّب في سبيل الصراع على البقاء، ومحاولة اختطاف اللقمة من الحلق بين المقاولين، في سبيل الظفر بأي عمل يجلب رواتب العمالة المتوقفة!..
5- كان من نتيجة ذلك أن نجح بعض المقاولين في سلوك طرق يعرفونها للوصول بالمشروع إلى مرحلة الاستلام الابتدائي، أو حتى النهائي، رغم ما فيه من علل وعيوب، وذلك بفعل التنسيق والتواطؤ مع مهندسي المكتب المشرف، الذين بإمكانهم إجازة ما لا يجوز، بحكم دورهم الفني، خاصة في غياب ممثل عن الجهة صاحبة المشروع عند الاستلام، أو تغييبه، رغم حضوره (الجسماني)، والشواهد على ذلك كثيرة، فهناك مشاريع توقفت بعيد تشغيلها، ومشاريع ظهرت عليها النواقص، ومشاريع تعمل بأقل من كفاءتها المطلوبة!...
6- أما بعض المقاولين فقد واجه الواقع المرّ عندما عجز عن إتمام المشروع بالسعر الذي قدمه، إما لأنه لم يعرف ما عرفه غيره، من طرق تسليك الأمور، أو لأن ضميره كان حاضراً فلم يسايره في الانحراف بالمشروع!..، فتوقف لهذا السبب عدد كبير من المشاريع، وتعطلت الاستفادة منها رغم حيويتها وأهميتها، ورغم أن لدى الجهة صاحبة المشروع فرصة لتنفيذ مقتضى المادة (53) من نظام المنافسات والمشتريات، وهي سحب العمل من المقاول، وفسخ العقد، أو التنفيذ على حسابه والرجوع عليه بالتعويضات، إلا أن الجهات الحكومية تتردد كثيرا في تنفيذ ذلك، لأنها تعرف أن في ذلك إيذاناً بموت المشروع نهائياً، نظراً للصعوبات التي تكتنف إجراءات سحب العمل، وتعقيداتها وطول مدتها!.. فضلا عن أنها تعرف أنه إذا كان المقاول قد توقف عن إتمام المشروع لسبب مادي، فكيف يمكن التنفيذ على حسابه؟!. وهل بقي في هذا الحساب شيء؟!..
هذا هو الوضع القائم بالنسبة للمشاريع والمقاولين الذين ينفذونها، فهناك خلل ناتج عن ضعف الإمكانات لدى المقاولين، يصاحبه ضعف في الذمم لدى بعضهم، يزيد منه عامل المنافسة الحادة بينهم على الفوز بالمشروع بأقل من تكلفته، وفي أذهانهم أنه لابد من ركوب الصعاب لاختطاف، ولو جزء يسير، من الكعكة، حتى لو اضطر لسلوك طرق ملتوية للخروج من المشروع بأقل قدر من الأضرار!..
والخلاصة أن الأمر المتفق عليه هو وجود الخلل الذي أضعف ثقة الحكومة بهذا القطاع، وجعلها تخص بعض المقاولين الكبار، أو حتى الأجانب، بالمشروعات الدسمة، دون بقية المقاولين، وتمنحها لهم بأسعار يرى غيرهم أنها (جزلة) وأنه ما كان ينبغي حرمانهم منها، وتركهم يتصارعون على الصغائر!... لكن دعونا نحاول الخروج، في الختام، ببعض الرؤى التي نرى أنها ستحسن الوضع، وتحوّل بعض الأمور إلى الاتجاه الصحيح!..
1- لابد من تقوية أساليب الرقابة والمتابعة على المشاريع، ومن يتولى الإشراف عليها، سواء كان الإشراف داخليا أو خارجياً، فضلاً عن أهمية وجود رقابة خارجية تمارسها جهات مستقلة عن الجهات المالكة، فهذا العامل له تأثيره البالغ في سير المشاريع!..
2- معاقبة المقاولين الذين يثبت تقصيرهم أو تهاونهم، أو التواء في أساليبهم، أو ضعف في ذممهم، وعدم التعامل معهم، والتشهير بهم على نفقتهم، كما تقضي بذلك المادة (78) من النظام، التي، رغم وضوحها، لم يلاحظ إعمالها في هذا الجانب، رغم كثرة التلاعب، وكثرة المشاريع المتوقفة نتيجة لذلك!..
3- حفظ حقوق المقاولين الملتزمين، وصرف مستخلصاتهم دون تأخير، والتجاوب معهم فيما يبدونه من ملاحظات على المخططات وإجراءات سير المشروع، والمبادرة إلى حل ما يواجهونه من عوائق، ومساعدتهم على الحصول على التراخيص اللازمة من الجهات الحكومية الأخرى، فذلك كله يساعد على دفع المشروع في طريق التنفيذ، وهو ما تنشده الحكومة!..
4- تشجيع قيام اندماجات بين المقاولين من أجل تكوين شركات ذات كيانات قوية، تستطيع التنافس مع الشركات الأخرى لاستقطاب المشاريع الكبيرة، ليس من الحكومة فحسب، بل من الكيانات الكبيرة الأخرى، مثل المدن الاقتصادية، ومدن المعرفة، وقطاعات الإسكان، للحيلولة دون سيطرة المقاولين الأجانب عليها.
5- لقد نادى البعض بتكوين هيئة عامة للمشاريع، أو شركات حكومية لتنفيذها، ولدى إخضاع مثل هذه المقترحات للنظر المتعمق نجد أنها لا تحل الإشكال، إذ إنه لا يمكن، مثلا، أن تقوم هيئة واحدة بتنفيذ المشروعات الحكومية كافة!.. فضلا عن صعوبة التنسيق بينها وبين سائر الجهات التي تتبعها المشاريع فيما يتعلق بخطوات التنفيذ وغيرها!.. والسؤال الذي يجب طرحه، قبلا، هو: هل إذا تقاعست الجهة الحكومية، أو تعثر المقاول أو تهاون المشرف، يكون الحل هو إعفاؤهم من تبعات تقصيرهم، وإسناد الأمر إلى هيئة عامة، بدلاً من أن يقوم كل بما يجب عليه، ومحاسبته على ذلك؟!. أما الشركات فلا يجوز للحكومة إنشاء شركات تملكها لتقوم بتنفيذ مشاريعها، وكأنها، أي الحكومة، تعمل لذاتها، بمعزل عن مشاركة القطاع الخاص في التنمية!.. وإلا كان في ذلك إسقاط وانتكاس للمبادئ التي ترتكز عليها خطط التنمية الاقتصادية، وأولها المشاركة، والتخصيص، وأن لا تقوم الدولة بعمل يمكن للقطاع الخاص القيام به!...
وفي المقال القادم (الآخير) نكمل.
والله من وراء القصد.