تحذير المصارف الإسلامية من اعتماد «وثيقة المعايير الموحدة» للمشتقات
سجل فقيه سعودي بارز، يحظى باحترام عالمي، موقفا يتوقع مراقبون أن يثير الجدل في صناعة المال الإسلامية، وانتصارا منه للفئة الصامتة والمعارضة، وذلك عندما طالب البنوك الإسلامية كافة بعدم الاندفاع نحو اعتناق ''وثيقة المعايير الموحدة'' للمشتقات الإسلامية التي تقف وراءها جمعية العقود المتبادلة والمشتقات الدولية ISDA التي تتخذ من نيويورك مقرا لها.
وطالب محمد القري البنوك الإسلامية السعودية، بالتأني تجاه هذه ''المعايير الموحدة''، محذرا البنوك من الوقوع في شرك التفسير المتسرع لها وعدم فهم النصوص القانونية الواردة فيها بشكل صحيح.
ويعد موقف القري، الذي تكشف ''الاقتصادية'' تفاصيله، انشقاقا عن رفقاء دربه من الفقهاء الأربعة الذين أمضوا على إجازة هذا النوع من الوثائق على الرغم من التحفظات القانونية.
وكانت مصادر سابقة قد كشفت لـ ''الاقتصادية'' أن الشيخ نظام يعقوبي ومحمد داود بكر كانا من بين الفقهاء الذين فتحوا باب المشتقات في وجه صناعة المال الإسلامية، وأضفوا عليها الغطاء الشرعي، ما يعني بداية مرحلة جديدة في عصر الصيرفة الإسلامية، بعد أن كان الفقهاء يتفقون على تحريم المشتقات قبل سنوات ليست ببعيدة.
الترويج للوثيقة
وساعد الشريك الغربي هيئة ''السوق المالية الإسلامية الدولية'' - مقرها البحرين - التي أمضت أربع سنوات في إعداد المعايير المذكورة. وشهدت الفترة الأخيرة موجة من التوصيات، بقيادة المحامين والمصرفيين الغربيين، بضرورة تنويع محفظة المنتجات الإسلامية، التي أدت في نهاية المطاف إلى توجه الصناعة نحو المشتقات الإسلامية، والبنوك التي تدعم هذا النوع من العقود هي بنوك من قبيل المؤسسة العربية المصرفية في البحرين، وبنك كريدي أجريكول Credit Agricole وبنك ستاندارد تشارترد. أما شركة المحاماة التي كانت وراء صياغة هذه الاتفاقية فكانت كليفورد تشانس البريطانية. وشهدت الفترة الماضية كذلك ترويجا غير مسبوق لهذه الوثيقة، في جميع وسائل الإعلام العالمية والمحلية، في محاولة لإقناع البنوك الخليجية بالنفاذ لسوق المشتقات الإسلامية التي لا يملكون خبرة فيها.
وهنا يقول القري ''يجب ملاحظة أن إعداد هذه الوثيقة يأتي ضمن النظام القانوني الأنجلوسكسوني الذي يجعل العقد شريعة المتعاقدين، بمعنى أن المحاكم في إنجلترا، والولايات المتحدة وبقية دول الكومنولث (الدول التي كانت تحت مظلة الحكم البريطاني) تجعل أن ما اتفق عليه الطرفان بمحض إرادتهم هو ما يطبق عليهم''.
وأشار القري إلى أن جمعية العقود المتبادلة والمشتقات الدولية ISDA تقوم بتطوير عقود نمطية للمشتقات المالية كون هذه العمليات تنشأ بين بنوك تقع ضمن اختصاصات قانونية متباينة لأنها في دول مختلفة، وتجعل هذه العقود أبسط وأسهل ولها قابلية من جميع الأطراف، وبناء عليه أرادت هذه الجمعية أن تخرج عقدا نمطيا صالحا للمصرفية الإسلامية ومختصا بالمشتقات المالية كونها محل ثقة البنوك.وكشف القري، أستاذ الاقتصاد في جامعة الملك عبد العزيز في جدة، أن البنوك الإسلامية تعكف حاليا على مراجعة ودراسة هذه الوثيقة للنظر في إمكانية استخدامها، مقدما عددا من التنبيهات للبنوك الإسلامية قبل الإقدام على تبني هذه الوثيقة.وأردف قائلا: ''الوثيقة صالحة في حالة التقاضي في محاكم إنجلترا أو نيويورك، وهي وثيقة قانونية معقدة جدا ولم نطلع على الترجمة العربية منها حتى الآن، والنسخة الأصلية باللغة الإنجليزية فقط.
وتابع: ''الأمر الثاني يجب الانتباه إلى خطورة التعامل بالمشتقات المالية فليس من المفضل بالنسبة للمصرفية الإسلامية لاسيما بعد أن ظهر للعيان الآثار السلبية التي أحدثتها هذه المشتقات على الاقتصاد العالمي، وقد تنادت الدول الغربية اليوم إلى مراجعة القوانين للتضييق على هذه العمليات وخلق المشتقات، والتعامل بها وضبطها بقوانين صارمة لحماية المتعاملين وحماية الاقتصاد الوطني بأن يكون للحكومة مراقبة على حجم هذه المشتقات فأثناء الأزمة فوجئت الحكومات بأن حجم المشتقات 500 تريليون دولار ولم يكن أحد يتوقع أنها ثمانية أضعاف حجم الاقتصاد العالمي، لذلك يجب أن ننتبه ونأخذ العبر والدروس ونتأنى في هذه المسألة''.
وقال خبراء في صناعة المال الإسلامية إن المطالب الخاصة بتنويع محفظة الاستثمارات الإسلامية تؤدي إلى زيادة الطلب على منتجات المشتقات الرامية إلى التحوط ضد المخاطر، وإن خلق منتجات التحوط علامة على أن سوق المنتجات الإسلامية تمر بمرحلة النضج وإنها تسعى لتظل تنافسية مع المصرفية التقليدية.
وتتركز حجة المؤيدين لهذه الوثيقة، التي تعد أول قاعدة معيارية لعقود المشتقات الإسلامية خارج البورصات الرسمية over-the-counter. في أن هذه الخطوة ينتظر منها أن تساعد الشركات والمستثمرين على إدارة المخاطر بصورة فعالة وعلى نحو أسرع وأرخص من ذي قبل.
يذكر أن جمعية العقود المتبادلة والمشتقات الدولية تتخذ من نيويورك مقرا لها، وهي تمثل أكثر من 830 منظمة نشطة في سوق المشتقات، التي تبلغ قيمتها 592 تريليون دولار. وقال في وقت سابق لـ ''الاقتصادية'' العضو المنتدب لهيئة ''السوق المالية الإسلامية الدولية'' إجلال ألفي إن ''الاتفاقية الرئيسية للتحوط، من المتطلبات اللازمة في الصناعة، سواء في السعودية أو في منطقة أخرى. لدينا عدد من المؤسسات في المملكة أظهرت اهتماماً بهذه الوثيقة، وستنتفع من الاتفاقية الرئيسية (الخاصة بالتحوط. إلا أن ألفي تجاهل أسئلة ''الاقتصادية'' عندما طلبت من التعليق على موقف القري.
وقد انقسم الفقهاء المسلمون على أنفسهم بخصوص جواز التعامل في المشتقات، إذ يرى بعضهم أنها أدوات استثمارية جائزة شرعا بهدف التحوط ضد المخاطر. لكن فريقا آخر من الفقهاء يعتبرها تعاملات قائمة على المضاربة والتكهن، وهي أمور تحرمها الشريعة الإسلامية.
القري: هم يستغلوننا
ولفت القري، عضو العديد من الهيئات الشرعية في عدد من البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، إلى أن المشتقات المالية مشابهة لأكثر الأشياء في الحياة إذا أخذت منها بالقدر المناسب فهي ممتازة لكنها في الوقت نفسه قد تكون قاتلة، مثل الملح على سبيل المثال لا تستطيع أكل الغذاء بدونه لكن في حالة وضع كمية كبيرة منه قد تعرض حياتك لخطر شديد جدا.
وأضاف ''إذا ترك الحبل على الغارب فيما يخص المشتقات المالية فهي مهلكة، وحري بنا ألا نمشي على نفس الخط وإنما نحاول أن نختط لأنفسنا خطاً موافقاً ليس فقط لمسألة الحلال والحرام وهذا مطلوب بالتأكيد، ولكن لمسألة المقاصد الكبرى للنظام الاقتصادي الإسلامي الذي يحرص على أن تكون المعاملات بين الناس قوامها العدل وتحقق مصالح الجميع وليس أداة للقمار، وإعادة توزيع الثروة بين أفراد المجتمع ليحصل عليها فئة قليلة دون غيرها''.
وأوضح القري أن المصرفية الإسلامي قطاع مصرفي بكر وواعد ومعدلات النمو التي يحققها لافتة للنظر، وقال ''الأزمة المالية كشفت أن المصرفية الإسلامية استطاعت أن تحقق حاجات المتعاملين في الأمور المالية لكنها تفتقر إلى المشتقات المالية، وبرأيي أن الغرب أشبه بمن اكتشف حقلا خصبا ريانا لم يزرعه أحد من قبل ولذلك يريدون أن يستغلوا هذه الفرصة وعلينا التنبه لهذا الأمر، والتأني إلى أن تصدر الترجمة العربية المعتمدة ويطلع عليها المحامون المحليون لينظروا كيف يكون وضع من تعامل بها أمام الجهات القضائية المختصة في حال وجد الخلاف لأن هذه الوثيقة قانونية ومن المهم أن يكون الناس على حذر من النصوص في وثيقة معقدة جدا وطويلة وتحتاج إلى قراءة متأنية، خصوصا أن إعداد صفحاتها يبلغ 50 صفحة''. من ناحيته يقول محمد داود بكر، الفقيه الماليزي الذي يحتل المرتبة الخامسة عالميا من حيث عدد الهيئات الشرعية التي ينتمي إليها بحسب تصنيف مؤسسة فوندز آت وورك، ''لا نستطيع أن نحظر أو نحرم المشتقات الإسلامية. فهي لازمة ومطلوبة. بعض المتحدثين في المنتديات يغلب عليهم أن يعطوا أمثلة متطرفة من ''عقود التأمين على السندات ضد التعثر'' CDS على أنها من الأسباب التي أدت إلى انهيار عدد من كبريات المؤسسات المالية في الولايات المتحدة (بمعنى أنهم يجادلون ضد السماح بالتحوط في المصرفية الإسلامية). وتابع بكر ''لكن عقود التأمين هذه لا تمثل الصورة الكاملة عن المشتقات''.
وتابع بكر: ''إن المشتقات ضرورية لنمو المالية الإسلامية بسبب الأزمة المالية صُوِّرت المشتقات في السوق بصورة سلبية. باعتبارنا من الفقهاء الإسلاميين ينبغي علينا أن نبين بوضوح للسوق أننا بحاجة إلى وجود المشتقات لحماية الاستثمارات من المخاطر الحقيقية التي تواجهها المصرفية الإسلامية. تشتمل المخاطر الحقيقية على مخاطر العملات ومخاطر السوق ومخاطر الاستثمار. إذا لم يتم التصدي لهذه المخاطر باستخدام منتجات التحوط فإن من شأن ذلك جلب الضرر للصناعة ككل''.
كلمه غير لائقة
في تقرير نشر في الفترة الأخيرة قالت وكالة موديز للتقييم الائتماني: ''اختلاف الآراء الفقهية لدى العلماء من حيث شرعية المشتقات كان أثره حتى الآن هو الحظر التام لهذه الأدوات في بعض الدول والتطبيق الفعلي لها (وإن كان ذلك على نطاق محدود) في دول أخرى''.وقال حارث عرفان، رئيس قسم المنتجات الإسلامية في بنك باركليز كابيتال: ''أتى علينا وقت كانت تعتبر فيه كلمة ''المشتقات'' من الكلمات غير اللائقة بالنسبة للفقهاء، لكنهم أصبحوا الآن يميلون إلى القبول بها، طالما أنها مستخدمة للتحوط وليس المضاربة''.سايمون إيدل، العضو المنتدب للمصرفية الإسلامية لدى بنك كريدي أجريكول لوكالة رويترز قال: ''من شأن ذلك اختصار الوقت''، وأضاف أنه سيساعد الصناعة كذلك على إدارة المطلوبات المتعلقة بموجوداتها.
وقال إيدل إن تصميم عقد للمشتقات بين طرفين كان يستغرق في الماضي ما بين ستة وتسعة أشهر، وستقل هذه المدة بصورة لا يستهان بها من خلال استخدام الاتفاقية الرئيسية للتحوط.
وتابع إيدل أن الاتفاقية ربما تعمل على إقناع المؤسسات التي لديها شكوك حول جواز التعامل في هذه الأدوات الاستثمارية على التحوط ضد مخاطرها على نحو أكثر سهولة من ذي قبل. وأضاف: ''سنشهد مزيدا من التحوط على منتجات الشركات لأنه يوجد معيار بين أيدينا الآن''.
وقال إيدل: ''بطبيعة الحال حين ننظر إلى الصورة الإجمالية للموضوع، فإننا لا نريد لهذه الاتفاقية أن تشجع المضاربة. ليس الهدف من إنتاج هذا العقد التشجيع على تكرار العمليات المعروفة في المصرفية التقليدية''.
هيكل الوعد
أكثر المنتجات الإسلامية المستخدمة في هيكلة المشتقات وفق الأحكام الشرعية هي هيكل الوعد، الذي يكون من طرف واحد، وهيكل المرابحة، وهو من أكثر الهياكل انتشارا، ويمكن تشبيهه بهيكل البيع مع الدفع المؤجل. تقول بريا أوبروي، مديرة المشتقات الإسلامية لدى مؤسسة كليفورد تشانس: ''تُستخدَم المنتجات الإسلامية مثل المرابحة والوعد مثل استخدام قطع الليجو لبناء أدوات المشتقات على نحو يفي بالأحكام الشرعية''.وتضيف: ''نحو نصف المشتقات الإسلامية تستخدم هيكل المرابحة، والبقية تستخدم هيكل الوعد، لكن هناك منتجات أخرى موجودة يمكن استخدامها. كل ما في الأمر هو أنها غير مستغَلة حتى الآن''.من المنتجات الأخرى هناك العربون، الذي يشبه الخيار التقليدي، وبيع السلم، الذي يشبه العقود الآجلة.تشتمل الأنواع الموجودة من المشتقات الإسلامية على العقود المتقابلة للعملات، وخيارات العملات الأجنبية، وعقود العوائد التامة، وعقود المرابحة العكسية، وهي إلى حد ما المعادل الإسلامي لعقود التأمين على أسعار الفائدة. بل إن المحامين والمصرفيين والفقهاء تمكنوا من هندسة عقود التأمين على السندات الإسلامية، وهي نسخة إسلامية من المنتج الشائع في مجال التأمين على الدخل الثابت.يذكر أن البنوك الإسلامية لا يجوز لها المضاربة على حالات التعثر الائتماني، لكنها تستطيع من الناحية النظرية حماية أنفسها ضد حالات التعثر في السندات الإسلامية.تقول أوبروي لصحيفة فاينانشيال تايمز: ''العقود المتقابلة للتأمين ضد تعثر السندات الإسلامية لا تزال موضع أخذ ورد، كما أن الهياكل ليست دون عيوب، لكن لعل بالإمكان، من خلال التفكير الابتكاري، إنشاء أدوات مشابهة لمعظم هياكل المشتقات التقليدية''. يحذر المصرفيون من أنه لا بد من مرور بعض الوقت قبل أن يتم تبني مستندات التحوط على نطاق واسع، على اعتبار أن معظم البنوك تبذل مجهودا كبيرا على اتفاقياتها وهياكلها الخاصة.
حسين حسن، رئيس قسم المصرفية الإسلامية في دويتشه بانك يشرح الأمر على النحو التالي: ''إذا أخذ عدد كبير من البنوك بالعمل وفق معايير السوق المالية الإسلامية الدولية وجمعية العقود المتبادلة والمشتقات الدولية، فإن هذا سيساعدنا نحو توحيد المعايير، لكن لا بد من بذل جهود كبيرة حتى تأخذ البنوك في استخدامها''.مع ذلك يقول الخبراء إن المضامين المترتبة على الاستخدام الأرحب للمشتقات الإسلامية يمكن أن تكون كبيرة على نحو لا يستهان به.
المؤسسات الإسلامية التي تسير في تعاملاتها وفق الأحكام ستكون قادرة على التحوط ضد تقلبات العملة أو مخاطر الائتمان أو تقلبات أسعار الفائدة أو حتى ضد التضخم في أسعار السلع، وهي جميعا من أدوات إدارة المخاطر التي تعتبرها البنوك التقليدية من المسلمات.يقول توبي بيرتش، المدير التنفيذي لجويرنسي جولد ليميتد ''إذا أردنا تلخيص جوهر المصرفية الإسلامية فإنها تقوم على ثلاثة أركان: اجتناب المضاربات والقمار (أو الميسر 2)، اجتناب الربا على الديون والقروض، اقتسام المخاطر والعوائد في الشراكة'' وتابع في تصريحه لـ''الاقتصادية'': إلا أن المشتقات لا تدخل تحت أي بند من هذه البنود الثلاثة.
ويواصل: ''هناك مكان لاقتسام المخاطر، وتحتاج البنوك الإسلامية إلى آليات لتنفيذ ذلك. لكن المشتقات هي أساسا أدوات يُقصَد منها تحويل المخاطر، وهذا أمر مختلف تماما. معظم اللغة المستخدمة في البيانات الصحافية مليئة بالغموض والتعبيرات التي تعطي معنى ظاهريا أفضل من المعنى الباطني الحقيقي، ومشبعة بمصلحة الشركات، وهي بصراحة مرهقة ومملة، شأنها في ذلك شأن كثير من مؤتمرات المصرفية الإسلامية التي تتجنب المواضيع الخلافية المثيرة للجدل، وتطنطن على الملأ بالشركة التي يمثلها المتحدثون''.يقول مدثر صديقي، وهو فقيه شرعي ويعمل رئيسا لقسم المصرفية الإسلامية في شركة المحاماة دينتون وايلد سابت: ''القاعدة الذهبية للشريعة فيما يخص التعاملات البشرية هي أن الأصل في الأمور هو الإباحة ما لم يكن هناك أمر محرم بالتخصيص''.ويضيف: ''هناك حاجة إلى هذه المنتجات، وأن الله لا يجعلنا نحتاج إلى أمر دون أن يفتح لنا سبيلا لتحقيقه''.