إسرائيل بين تركيا واليونان

تروي الإلياذة قصة الحرب بين الإغريق والطرواديين. واليونانيون هم ورثة الإغريق القدماء، وطروادة قطعة أرض من آسيا الصغرى، أو تركيا حالياً.
يقول هوميروس في الإلياذة ''وأبحر أجاممنون بأسطوله الكبير قاصداً ساحل طروادة لاستعادة هيلين زوجة أخيه مينيلاوس. وشبت الحرب وأبلى أخيليس بلاءً كبيراً وقاوم هكتور مقاومة الأبطال، ولجأ اليونانيون إلى حيلة الحصان الخشبي، الذي امتلأ بجنود الإغريق، وهؤلاء فتحوا الباب لجحافل الجيش''.
قد تكون الإلياذة تسجيلاً تاريخياً، وقد تكون معركة خيالية سردها هوميروس، لكن الحقيقة هي أن اليونان أصبحت عدواً تقليدياً لتركيا. وزاد النار لهيباً ما تم عبر سبعة قرون نجحت فيها تركيا في الهيمنة على حوض البحر المتوسط، واكتوى اليونانيون بضربات الأتراك عندما كانت تركيا دولة عسكرية تحسن تأديب من يتصدى لها، وجاء احتلال قبرص والبقاء فيها عامل استفزاز لليونان، وباختصار أصبح الطرفان رغم الجوار على تناقض مستمر.
وننتقل إلى إسرائيل التي اغتصبت موقعاً على البحر الأبيض وعلى أرض عربية، وبحساباتها الاستراتيجية تدرك إسرائيل التي تعادي العرب وتخشى قيامهم وقوتهم، أنها في حاجة دائمة إلى تأمين ظهرها المطل على البحر الأبيض، ولذلك كانت الجهود الإسرائيلية لدى واشنطن تتركز على ضرورة ضغط واشنطن على تركيا للتقارب مع إسرائيل. وظل الأمر على هذا المنوال ردحاً من الزمن، حتى جاء أردوغان الذي لم يهضم كثيراً من التعسف الذي يبديه الإسرائيليون، فكانت الأزمة.
ولا يختلف أحد على أن خسارة تركيا كصديق وحليف تعد كارثة بالنسبة إلى إسرائيل، فهي الدولة المسلمة الوحيدة القريبة من إسرائيل، وهذا له مغزاه أمام العالم لأنه يقلل عنها فكرة الدولة اليهودية المتشنجة المتعصبة، فضلاً عما تعنيه تركيا كسوق كبيرة وحليف يشتري منتجات إسرائيلية عسكرية.
وتوجه بنيامين بن أليعازر وزير العمل والتجارة الإسرائيلي إلى زيوريخ لمقابلة وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو، لكن المقابلة خلت من أي مودة وتحولت إلى مشاجرة، وتبع ذلك حوار عاصف في اجتماع مجلس الوزراء الإسرائيلي في الرابع من تموز (يوليو) الجاري. وكان الموقف على النحو التالي:
بنيامين نتنياهو قال إن ما فعله بن أليعازر كان منطقياً، والعلاقات التركية ـ الإسرائيلية تستحق مزيداً من المحاولات والمبادرات. أما جميع الوزراء الآخرين فقالوا إن وزير العمل والتجارة أخطأ، نظراً إلى أن العداء التركي أصبح سافراً، وهو ليس مجرد رد فعل لحادث القافلة البحرية، وإنما هو تراكمات لمواقف كثيرة منذ الحرب ضد الفلسطينيين والمذابح التي وقعت في غزة، فضلاً عن استنكار تركيا الدائم سياسة الحصار ضد الفلسطينيين. وكثيراً ما أعرب أردوغان عن سخطه البالغ إزاء إسرائيل التي تتعامل كقوة عظمى، وهي ليست كذلك.
ومع ضجيج وسائل الإعلام الإسرائيلية وغيرها حول خسارة إسرائيل تركيا، اتجهت إسرائيل للتقارب مع حليف من قلب حلف الأطلنطي وهو اليونان. ويتفق الطرفان اليوناني والإسرائيلي على أمور عدة، فكلاهما لديه مصالح كبيرة في منطقة الشرق الأوسط، وكلاهما مهتم بتشييد علاقات عسكرية قوية، تستفيد فيها اليونان من التقنيات الإسرائيلية المنقولة عن الولايات المتحدة والمسموح لها (أي إسرائيل) بتسويقها لتحصل على مواقع وحلفاء وأسواق جديدة، إلى جانب اهتمام الطرفين بتبادل الخبرة الاستخباراتية.
ويقول المراقبون إن اليونان هي التي بادرت بالخطوة الأولى، فعندما تابع باباندريو رئيس الوزراء اليوناني التصدع في العلاقات بين تركيا وإسرائيل، رأى فيها فرصته السانحة، فانطلق متحدثاً عن حبه لليهود وعدد اليهود المرموقين الذين يتعامل معهم ويصادقهم، خاصة في مجال الأعمال، ولم يخف أن كثيراً من هؤلاء يشغلون مناصب مهمة في إسرائيل. ورأى باباندريو أنها فرصة ليحل محل أنقرة في إسرائيل بهدف تحويل العلاقات العادية، بل بطيئة الإيقاع، إلى علاقات استراتيجية منتعشة في المجالات العسكرية والاستخباراتية والاقتصادية والدبلوماسية، خاصة مع هبوط العلاقات اليونانية مع معظم الأطراف العربية. وعرض باباندريو نفسه بديلاً مهما للأتراك، لأنه يأمل أن تساعده إسرائيل على الخروج ببلاده من المحنة التي تعانيها والآلام الاقتصادية الموجعة التي جعلت اليونان واحدا من أشهر المفلسين. لكن المتعمقين في شؤون البلدين يقولون إن هدف باباندريو تطوير قواته المسلحة لتصبح قوة ضاربة تفيد حلف الأطلنطي في البلقان، ليتلقى ثمن ذلك في شكل معونات مالية كبيرة تفيد في إفاقة اليونان من عثرتها.
ويقول بعض المحللين إن مبادرة باباندريو ليست وليدة التصدع التركي ـ الإسرائيلي، وإنما ترجع إلى صيف 2008، عندما سمح باباندريو لـ100 طائرة إسرائيلية من طراز إف 15 وإف 16 بعبور المجال الجوي اليوناني للتدريب على الطيران طويل المدى، والتزود بالوقود في الجو، خاصة أن المسافة بين إسرائيل واليونان ذهاباً وعودة هي 1900 كيلومتر، وهي المسافة نفسها بين إسرائيل وإيران. بل إن باباندريو قدم مزيداً من المساعدة لإسرائيل عندما زودها ببطاريات مضادة للطائرات والصواريخ الاعتراضية التي اشترتها اليونان من روسيا سنة 2000، وتدرب الإسرائيليون على التصويب على هذه البطاريات حتى يكون الإسرائيليون على دراية بها عندما تصدّرها روسيا إلى إيران أو سورية أو كليهما.
ويتوقع جورج باباندريو أن ترد له إسرائيل ثمن هذه التسهيلات، ورأى في تدهور العلاقات مع تركيا فرصة مناسبة تنعش آماله وتضعه في موقف أفضل، خاصة أن إسرائيل تتطلع بقوة إلى دعم موقفها في البحر الأبيض، حتى لا يكون اعتمادها على الأسطول السادس الأمريكي، الذي يقلل من وجوده تدريجياً لأسباب تتعلق بإعادة توزيع القوات الأمريكية في أنحاء العالم، وبصفة خاصة مع الاحتياج إلى مزيد من القوات لحماية السواحل الآسيوية دعماً للجهد العسكري في العراق وأفغانستان.
ولا شك أن الأزمة المالية الرهيبة التي أصابت اليونان أسهمت في زيادة الروابط الودية بين أثينا وتل أبيب. وقامت دول الاتحاد الأوروبي بإقراض اليونان 110 مليارات يورو، لإنقاذها فوراً من حالة الانهيار الكامل، ونظراً إلى الشروط المصاحبة لهذه المبالغ، لدرجة أن باباندريو خاطب شعبه وأبلغه أنه إذا لم ينضبط ماليا فسيضطر اليونانيون إلى العمل الرخيص في أوروباو فإن باباندريو توجه إلى المؤسسات اليهودية المالية الكبرى في أوروبا وأمريكا للمساعدة على إنقاذ الاقتصاد اليوناني.
ويبدو أن هناك بعض الاحتمالات في تطور العلاقات اليونانية ـ الإسرائيلية، خاصة مع إعلان نتنياهو أنه لن يقدم أي تعويضات أو اعتذارات لتركيا مقابل الأتراك الذين قُتلوا في القافلة. وفي تركيا فوجيء الجميع بالمعارضة التركية تندد بأردوغان لأنه سمح لوزير خارجيته بمقابلة الوزير الإسرائيلي ورددوا هجومهم ''لأن أردوغان سيغير موقفه ويظهر وجهه الحقيقي''.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي