الفرصة سانحة لتقديم المصرفية الإسلامية للغرب
في ندوة أقامها اتحاد المصارف السوداني، ضمن فعاليات المؤتمر العلمي العالمي الثاني لمجمع الفقه الإسلامي الذي انعقد بالخرطوم في (22 - 24 يونيو 2010) طرح الخبير الاقتصادي بدر الدين طه فكرة أن تتبنى منظمة المؤتمر الإسلامي فكرة تطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي والمصرفية الإسلامية في الدول الإسلامية، وأن يتم التكامل في التطبيق بين هذه الدول وذلك كي تقوم بتقديم نموذج الاقتصاد الإسلامي والمصرفية الإسلامية للغرب ولدول العالم الأخرى كحل لمشكلات العالم، وكبديل تفرضه الأزمة العالمية المالية الراهنة والأزمات المتكررة للنظام الرأسمالي الربوي.
جرت مناقشات في القاعة ركزت على أن الفكرة جيدة والطموح جيد، ولكن المسافة كبيرة بين الواقع والطموح؛ وذلك لأن المصرفية الإسلامية قد انتشرت في معظم دولها بفعل جهود شعبية وليس بفعل جهود رسمية، وأن هنالك وقتا طويلا قد يأخذه تطبيق الفكرة بشكل رسمي في جميع البلدان الإسلامية بتوجيه من قبل منظمة المؤتمر الإسلامي، في الوقت الذي بدأت فيه المصرفية الإسلامية تجد طريقها في أمريكا وأوروبا وآسيا وأستراليا، وهنالك اتجاهات متزايدة في أوروبا للأخذ بالمصرفية الإسلامية ولن تنتظر تلك الاتجاهات التحرك الرسمي، ولن تنتظر أيضاً الدول الإسلامية التي لم تأخذ أو لم تتوسع بعد في تطبيق المصرفية الإسلامية. فهنالك على سبيل المثال دولتان عربيتان مسلمتان ليست فيهما مصرفية إسلامية بينما توجد في إنجلترا وحدها أكثر من اثنتين وعشرين مؤسسة مصرفية إسلامية وتوجد مؤسسسات مصرفية إسلامية في أمريكا والصين وروسيا وغيرها، وتتحمس فرنسا لتطبيق المصرفية الإسلامية .. تلك كانت بعض المناقشات التي دارت، مضافاً إليها مناقشات أكدت أن المصرفية الإسلامية لا يكفي أن تقدم للغرب (فقه المعاملات الإسلامية) ولكن لا بد أن تقدم (فعلاً تنموياً في بلدانها) يقنع الغرب وبلدان آسيا وأمريكا الجنوبية وإفريقيا .. أي أن تجتهد المصرفية الإسلامية لدعم التنمية والتقدم الاقتصادي في بلدانها وأن تحقق نجاحات ملموسة في هذا الجانب.
ولتطوير المناقشات حول أفضل الطرق لنشر المصرفية الإسلامية في الغرب وبقية دول العالم نطرح طريقاً نعتقد أنه الأقصر لتقديم المصرفية الإسلامية للعالم.
قال لي أحد الأصدقاء إنه يعتقد أن المصرفية الإسلامية ستنتشر في الغرب وفي الدول غير الإسلامية في العقد القادم وتنمو بنسبة أعلى من نسبة نموها في العالم الإسلامي، وأن هنالك حكومات إسلامية متأثرة بالغرب ستقتنع بالمساعدة في التطبيق الشامل للمصرفية الإسلامية في بلدانها بفعل تأثيرات تأتيها من الغرب، أي من دول غربية من المتوقع أن تتحمس أكثر لتطوير نظام مصرفي إسلامي في أراضيها.
#2#
وبغض النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا مع هذا الرأي نقر أولاً لمنظمة المؤتمر الإسلامي بدورها في دفع التجربة منذ بدايتها، فقد كانت وراء اتفاقية تأسيس البنك الإسلامي للتنمية التي وقعت من وزراء مالية الدول الإسلامية عام 1974 وباشر البنك الإسلامي للتنمية نشاطه عام 1977 بمدينة جدة في المملكة العربية السعودية، ويتميز هذا البنك بأنه بنك حكومات لا يتعامل مع الأفراد في النواحي المصرفية.
ولكن بالطبع فإن الغرب لن ينتظر التحرك الشامل الرسمي إنما سيأخذ بالنتائج المتحققة حاليا في ضوء صمود المصرفية الإسلامية في وجه الأزمة المالية العالمية، وسينشأ فيه مزيد من مؤسسات المصرفية الإسلامية قبل أن نكمل تطبيق الاقتصاد الإسلامي الشامل في بلداننا.
إن هنالك أسئلة علينا أن نجيب عنها أولا قبل أن نطرح تصوراً لأقرب الطرق لتقديم نموذج الصيرفة الإسلامية للغرب؛ وهي تتمثل في الآتي:
أولا: هل من الممكن أن يؤدي تحول أي بنك في الغرب من بنك ربوي تقليدي إلى بنك إسلامي، إلى أن يسحب المسيحيون وغير المسلمين وأتباع الديانات الأخرى ودائعهم منه؟
للإجابة عن هذا السؤال لا نلجأ فقط لما هو نظري ومؤكد من أن كل الديانات تحرم الربا، وإنما نلجأ للتجربة العملية. فقد تحول فرع مصرف أمريكي كبير وعريق تأسس عام 1890 إلى المصرفية الإسلامية في عام 2005 وهو بنك يونيفرسيتي، وصار يعمل وفقا للشريعة الإسلامية بنسبة 100 في المئة، وهو يقدم تمويلا بديلا للقروض العقارية، مجازا إسلاميا، بما يعادل 80 مليون دولار لعقارات سكنية وتجارية في 15 ولاية أمريكية.
هذا المصرف أشار رئيسه إلى أن حاخاما يهوديا نصحه باتباع نظام المصرفية الإسلامية، وذكر رئيسه، وهو كاثوليكي المعتقد، أن البنك كان يخشى بعد افتتاح الفرع الإسلامي أن يقوم بعض العملاء بإغلاق حساباتهم، أو يشعر بعض العاملين المسيحيين المتدينين ببعض الحرج ويتركون العمل، ولكن لم يتقدم بإيقاف حسابه إلا عدد ضئيل جدا لا يذكر.
هذا يعني أن أغلبية أتباع الديانات الأخرى لن يمتنعوا عن التعامل مع بنوك محددة لأنها تتبع النهج الإسلامي.
ثانياً: هل ما زال الغرب يتعامل مع المصرفية الإسلامية من زاوية حاجته لجذب ودائع وعملاء مقتدرين مالياً لا يرغبون في التعامل بالنظام الربوي، أم أنه ينظر للمصرفية الإسلامية بقناعات أنها الحل؟
للإجابة عن هذا السؤال نعرف جميعاً أن البداية كانت اعتقاد مصارف أوروبية وغربية أن هنالك قطاعا ماليا مهما لا بد من كسبه، وهذا يقتضي فتح نوافذ تعمل بالنظام الإسلامي .. أي أن الدافع لا يتعدى تعظيم ربحية البنك .. ولكن بعد الأزمة المالية العالمية بدأ الطرح في الغرب يختلف، إذ صاروا يعترفون بأهمية المصرفية الإسلامية كنظام قادر على الوقوف في وجه الأزمات لأنه خالٍ من الثغرات الكبيرة التي أدت إلى انهيار المصارف في الغرب؛ أي التعامل بالربا وبيع الدين.
ومن خلال الإجابة عن هذين السؤالين نرى أن الفرصة سانحة لتقديم المصرفية الإسلامية للغرب دون تردد، ودون حرج، وذلك برغم وجود بعض عتاة السياسيين الغربيين (اليمينيين) الذين ما زالوا يعارضون المصرفية الإسلامية من منطلقات أيديولوجية، إذ إن هؤلاء سيجدون من يحاورهم بمنطق صارم وقوي من داخل المفكرين ورجال الدين والسياسيين والاقتصاديين الغربيين أنفسهم. وعلى سبيل المثال انتقد راش ليمبوغ الأمريكي اليميني الشهير بنك يونيفيرستي عندما تحول للنظام الإسلامي، فجاءه الرد من قيادات في الإدارة الأمريكية ومن بنك الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخارجية الأمريكية، الذين رأوا في تحول البنك للنظام الإسلامي بادرة إيجابية لصالح نظام الولايات المتحدة الأمريكية (الذي وصفوه بالمتسامح !!).
نأتي بعد ذلك لسؤال: ما أقصر الطرق لتقديم الصيرفة الإسلامية للغرب؟
إن الطريق لتقديم المصرفية الإسلامية للغرب في قناعتي هو (طريق شعبي وليس طريقا حكوميا). هذا بالطبع لا يلغي دور حكوماتنا بالكامل، فهي بالتأكيد توفر الأجواء الإيجابية للعمل، وتقيم مظلة حماية للتجربة، ولكن الدور الحكومي في هذا الأمر بالتحديد لا يتقدم على الدور الشعبي، إذ إن القطاع الخاص هو الذي يتولى التطبيق مدفوعاً بالجهد الفكري والتخطيطي للمؤسسات الداعمة للمصرفية الإسلامية والمجامع الفقهية. ونحمد الله أنه في مجتمعاتنا الإسلامية قطاع شعبي مقتدر مالياً وفكرياً تبنى المصرفية الإسلامية وقد نذر نفسه لنشرها في العالم الإسلامي وعلى مستوى الكرة الأرضية كلها، وعليه نقترح ما يلي:
(1) أن تبذل جميع المؤسسات الداعمة للصيرفة الإسلامية والمجامع الفقهية والندوات العلمية المتخصصة في الصيرفة الإسلامية، جهودها لتقديم المصرفية الإسلامية للغرب كلٌّ حسب استطاعته ومداخله.
(2) أن تسعى المصارف الإسلامية في بلداننا العربية والإسلامية لفتح فروع لها في دول الغرب وآسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، تعمل وفق النظام الإسلامي، وأن يسعى القطاع الخاص في بلداننا لإقامة مصارف إسلامية كاملة في تلك البلدان.
(3) أن تسعى المؤسسات الداعمة للصيرفة الإسلامية والمجامع الفقهية والندوات العلمية لتكوين جسم موحد مهمته:
كتابة إعلان يشكل خطابا موحدا يستهدف إزالة أي أوهام أو أفكار غير إيجابية عن الصيرفة الإسلامية وتقديم النموذج من خلال صورة صمود الصيرفة الإسلامية في مواجهة الأزمة المالية العالمية وقدرتها على أن تكون البديل المناسب.
تسيير (قوافل) للغرب وإفريقيا ولأمريكا اللاتينية وآسيا مهمتها مقابلة الاقتصاديين والبرلمانيين وأصحاب القرار السياسي الاقتصادي وقادة القطاع المالي والمصرفي في تلك البلدان بهدف إقناعهم بالصيرفة الإسلامية.
وضع خطة لإقامة سلسلة من الندوات تحت عنوان (المصرفية الإسلامية البديل المناسب) في مختلف قارات العالم، يشارك فيها بجانب علمائنا اقتصاديون وبرلمانيون وسياسيون وعلماء ورجال دين غير مسلمين مؤيدين للمصرفية الإسلامية، والاستمرار في تلك الندوات بصورة دورية مبرمجة ودون انقطاع ومتابعة نتائجها.
أن يكون ذلك الجهد متواصلاً (غير منقطع) وطويل الأمد وفيه مثابرة ومتابعة بنفس طويل حتى تنداح التجربة لتغطى معظم أنحاء العالم.
إن بعضا من تلك المقترحات بدأ العمل به، حيث بذلت مؤسسات جهوداً طيبة في الاتصال بالغرب لإزالة الصورة الشائهة التي انتشرت في الغرب عن المصرفية الإسلامية بعد أحداث 11 سبتمبر وتحققت نتائج لا بأس بها، ولكن علينا أن نعتبر تلك كانت البداية فقط وأن ننتقل لمرحلة التخطيط والبرمجة والتنفيذ عبر مرحلة تاريخية طويلة الأمد وبمثابرة وجدية، وعلينا أن ننتهز فرصة الأزمة المالية العالمية الحالية التي أثبتت عالمياً صلاحية النظام المصرفي الإسلامي ووفرت أجواء إيجابية لمصلحة المصرفية الإسلامية، ونتوقع أن تأتي فرص أخرى قد تكون أكثر أهمية.
خلاصة الأمر؛ نعتقد أن الطريق سالكة أمام المصرفية الإسلامية عالمياً، والعقبات مقدور عليها، فقط علينا أن نخطط بنهج طويل الأمد وأن ننفذ ونثابر حتى نصل إلى المستوى المرضي، وبعد ذلك ستنداح التجربة وتعم العالم ــ بإذن الله.