كوارث العالم الإسلامي تفتح المجال للاستفادة من تشريعات الإسلام الاقتصادية
عالمنا الإسلامي مسكون بالكوارث والمجاعات هذه الأيام، من الصومال شرقاً إلى باكستان في الغرب وشينجيان المسلمة في وسط الصين ومسلمي جنوب الصحراء الكبرى، وحيثما تنبض الروح الإسلامية تتوالي الكوارث، كوارث الطبيعة، جفاف الأرض، وغضب المياه التي أحالت أرض باكستان خلال الأيام الماضية إلى بحار من المياه الغاضبة، وفي الصومال الجريحة تنقل وسائل الإعلام ــ على قلتها ــ صور المشردين وهم يكابدون شمس هذا الصيف، يستقبلون رمضان وبطونهم خاوية، ووسط كل هذه المشاهد المأساوية يتساءل بعض خبراء الاقتصاد الإسلامي عن التدابير التي وضعها الإسلام لتلافي الظروف الطارئة كالكوارث، وكيفية نقلها إلى أرض الواقع، لقد كان الإسلام دوماً باقتصاده المتكامل حاضراً دون أن نعرف كيف نحركه، يتحدث كثيرون عن التشريع الإسلامي بتشريعه المتميز والمتكامل ويدعوننا إلى إمعان النظر فيه وفي تاريخنا للتنقيب في تراثه، لننهل من قيمه ما يمكن أن نؤسس عليه حياة عصرية قادرة على مجابهة متطلبات العصر وتقلباته.
انفراد بالتشريع
كثير من الدراسات المتخصصة في هذا الإطار بينت أن الإسلام انفرد وتميز على غيره في هذا المجال - منذ قرون عدة - بتشريع عديد من التدابير والوسائل العملية النافذة في عالم الواقع بأسلوبين اثنين: الأول: إلزامي على سبيل الوجوب، كإخراج زكاة المال، وزكاة الفطر، والنفقة على الأقرباء المحتاجين، والوفاء بالنذور والكفارات، وتوزيع الإرث، ونحو ذلك مما تقوم عليه منظومة التكافل الاجتماعي الإلزامي في الإسلام، والثاني: اختياري على سبيل الاستحباب والندب، كالصدقات التطوعية: النقدية والعينية، وتقديم القروض الحسنة، وبذل الوصايا، والهدايا، والإعارات، ووقف المكتبات، والمستشفيات، والمدارس ولوازمها جميعاً، ووقف البيوت، والمزارع، والأطعمة، والأشربة، ووقف النقود لإقراض المحتاجين من أفراد المجتمع.
لقد سلك الإسلام طريق الترغيب والتحبيب في تقرير تلك التدابير والوسائل والحث عليها، ولم يسع المسلمين - عبر تاريخهم - تجاه هذين الأسلوبين إلا الامتثال والاستجابة، والمسارعة إلى التنفيذ؛ طمعاً في ثواب الله تعالى ورضوانه، وتعاطفاً مع إخوانهم الذين اضطربت أحوالهم المعيشية. قال الله تعالى: «وتعاونوا على البر والتقوى».
المشكلة في غياب المؤسسات
يتحدث الدكتور سامي بن إبراهيم السويلم عن هذا الجانب قائلاً: «.. قد أجمع العلماء على أن أعمال البر والمعروف، كإطعام الجائع وسقي العطشان وإغاثة الملهوف وفك الأسير ونحوها، فرض كفاية على المسلمين. ومعنى كونها فرضاً على الكفاية أي أنه إذا قام بها من يكفي من المسلمين سقطت عن الباقين، وإلا أثم الجميع. فهي واجب على المجموع وإن لم تكن فرض عين على كل أحد»، ويضيف «وهذا الوجوب يرجع إلى أهمية القطاع غير الربحي في النشاط الاقتصادي. فالنشاط الاقتصادي يقوم على دعامتين، لا يمكن أن يستغني بإحداهما عن الأخرى: النشاط الربحي، والنشاط غير الربحي، ولا يوجد اقتصاد على وجه الأرض يقتصر على أحدهما .. والاقتصاد الإسلامي يقدم رؤية مفصلة تحدد متى يبدأ النشاط الربحي ومتى ينتهي، ومتى يبدأ النشاط غير الربحي ومتى ينتهي، وهو ما يتمثل في وجوب الزكاة والنفقات وأعمال المعروف، وفي تحريم الربا والميسر وفي سائر الأحكام التفصيلية للمعاملات المالية .. ومع أهمية القطاعين، الربحي وغير الربحي، إلا أن الأولوية في البناء الاقتصادي للقطاع غير الربحي. ولذلك جاء الأمر بالزكاة والصدقات والمعروف سابقاً على تحريم الربا بمدة، حيث تأخر النص الصريح بمنعه إلى غزوة أحد في السنة الثالثة للهجرة. أما النصوص الآمرة بالبر والمعروف والإحسان، فكانت تتوالى منذ بدء البعثة». وفي سياق الحديث عن الوظيفة الاقتصادية للقطاع غير الربحي يقول «حقيقة الأمر أن المسلمين يحبون الخير والبذل والعطاء، ويملكون من روح المواساة والتكافل ما لا يوجد عند غيرهم من الأمم، ومن ظن فيهم خلاف ذلك فهو حري بقول النبي ــ صلى الله عليه وسلم: «من قال هلك الناس فهو أهلكهم». وإنما المشكلة في غياب المؤسسات التي تحول هذه الميول النبيلة من رغبات كامنة إلى واقع قائم ونمط اجتماعي راسخ. فالمؤسسات غير الربحية هي الأساس في بناء الاقتصاد الإسلامي. وإذا اختل الأساس اختل البناء، وأصبح التمويل الإسلامي من ثم عاجزاً عن تحقيق أهدافه».
30 مليارا من 1500
وفي خضم هذه الأحداث التي تجتاح العالم الإسلامي ومع إشارة المختصين إلى جانب الزكاة والصدقات ومدى قدرتها على حل كثير من المعضلات، نشير إلى التقرير الصادر عن شركة كابجيميني Capgemini للاستشارات، وميريل لينش Merrill Lynch لإدارة الثروات الذي نُشر أخيرا، حيث يرصد أعداد وثروات جميع من تتجاوز قيمة أصولهم مليون دولار أمريكي، ويشير إلى ارتفاع عدد أصحاب الملايين في الشرق الأوسط بنسبة 7.1 في المائة، مع مجموع ثروات يتجاوز 1500 مليار دولار، يتحدث معلقا عن أن مقدار زكاة هذه الأموال ــ وهي فقط لعدد من المليونيرات ــ يبلغ 30 مليار دولار، في حين يؤكد الواقع الفعلي غير ذلك، فبيت الزكاة الكويتي وهو من أشهر المؤسسات التي تجبى لها الزكاة في العالم الإسلامي لا تزيد أمواله على 100 مليون دولار سنويا، وفي هذا الخصوص أكد الدكتور علي محيي الدين القرة داغي رئيس قسم الفقه وأصوله في جامعة قطر وفي حوار أجريته معه في وقت سابق أنه درس الأموال التي تجب فيها الزكاة بصورة موجزة في الدول الخليجية الست فوجدها حينما حسبها جميعا بما فيها الأموال المستثمرة في الخارج، وكذلك الأسهم السوقية المتداولة في بورصات الدول الست، إضافة إلى الأموال الأخرى أنها تصل إلى أكثر من تريليون و350 مليون دولار، وهو رقم يمكن أن يقضي على كل مشكلات الفقراء في العالم الإسلامي، حيث تصل نسبة الزكاة فيها إلى نحو 100 مليار دولار سنويًا، وذلك إذا أخذت بطريقة صحيحة ودفعت من الجميع مع العلم أن هذه الأموال فقط في منطقة الخليج، أما إذا ما أضفنا إليها الدول العربية والإسلامية الأخرى فإنها ستصل إلى أرقام كبيرة ستعزز من عملية القضاء على مشكلات الفقر تماما.
كيفية تفعيل دور الزكاة
بالعودة إلى إشارة الدكتور السويلم في حديثه السابق نجد أن الأسباب وراء عدم استغلال الثروات الموجودة في عالمنا الإسلامي تكمن في عدم تفعيل دور الزكاة والصدقات والوقف في المجتمع الإسلامي، وذلك بدوره يرجع إلى نقص القوانين المنظمة لمثل هذه الأموال وعدم سن التشريعات الخاصة بجباية الأموال من القطاع الخاص. وإيجاد الضمانات الكافية للمتبرعين والواقفين، وكذلك إلى عدم وجود المؤسسات وبيوت جباية الزكاة في الدول الإسلامية، فضلا عن قلة الخبرات الاقتصادية في مثل هذه المجالات الحيوية، كما يرجع إلى ضعف تنمية الوعي الإسلامي لدى المسلمين الأغنياء وبيان المنافع الأخروية التي تعود عليهم، مع تنويع أساليب الاستثمار لأموال الصدقات والوقف، حيث توفر دخلا ثابتا. وعدم تشجيع البذل والتبرع خاصة في المجالات الإنسانية والرعاية الاجتماعية والأيتام والمعوقين، والمساهمة في أوقات الكوارث والأزمات وإنشاء المرافق الصحية والتعليمية. ونركز هنا على أهمية وضع الخطط الاستراتيجية لاستثمار أموال التبرعات في مجالات تنموية ومهمة. وهنا أيضاً يجب أن يلعب الأغنياء دورا أكبر في المساهمة الفعلية في الارتقاء بمجتمعاتهم عن طريق زيادة قيمة استثماراتهم في مواطنهم الأصلية وعدم التحول إلى مناطق أخرى.