البحث عن الخلاص العربي باختراق معرفي
يرى محمد جابر الأنصاري أن انعتاق العقل العربي لم يتيسر إلا في القرون الأولى من تاريخ الإسلام، والسبب عنده يكمن في ''القدرة على التعامل مع الأصول القرآنية ومعطيات التراث الإنساني بقدر من الحرية والعقلانية المستقلة التي أعطته قيمته في تاريخ الفكر العالمي''.
هذه اللحظة التاريخية راح الأنصاري يبحث عنها منذ أكثر من ثلاثة عقود من حاضر العرب المثخن بالانتكاسات الثقافية والسياسية والوعود الأيديولوجية، وهنا مكمن الدافع الذي يحرك الرجل, فهو يبحث عن زمن منقض ليداوي به حاضر عليل.
ومع أن البحث عن واقع أقل بؤسا ليس بالأمر السهل إلا أن خطاب الأنصاري مختلف عن غيره من المفكرين العرب المعاصرين, الذين إما اكتفى بعضهم بالبحث عن لحظات الازدهار لاستنهاض الواقع بها, ومن أمثال هؤلاء فهمي جدعان، وإما بالبحث عن خلاف التيارات الفكرية التقدمية مع التقليدية ودعاة التغريب وهو ما آل بالعرب إلى نكبات ونكسات, ومن أمثال هذا التيار عبد العروي، وإما بممارسة النقد الذاتي لزمن التراجع وجعل خيار الثورة على التقليد والدين منجاة للأمة ومن أمثال هذا التيار صادق جلال العظم, وإما بالتوكل على الله والعودة إليه بعد فراق طويل لتجاوز ضعف الراهن دون تقديم آليات واضحة لذلك, ومن أمثال هذا التيار الشيخ يوسف القرضاوي.
أما الأنصاري فذهب إلى ضرورة البحث عن القوى الفاعلة ونقد أيديولوجبات الوعود النهضوية للخروج من تجاربها بطريق جديد ومسار تحديثي لجوهر العقل العربي، ومن هنا يرصد الأنصاري بدايات النهضة غير المكتملة مع بدء الأزمنة الحديثة، آنذاك وبحسب رأيه مع بداية الأزمنة الحديثة كان هناك حنين عربي إلى استعادة الماضي، وهي استعادة أخذت شكل النزوع إلى التحرر الأول في التعامل مع المستجدات.
في اللحظة المعاصرة، كان منعطف النكبة عام 1948 ومن ثم النكسة عام 1967، وهما ـــ في رأيه ـــ محطتان حاسمتان في ''مضاعفة حصار العقل، فارتهن العقل العربي إلى وعود الأيديولوجيين بالثأر من هزائم الزمن الصعب''.
الروح العربية، في رأي الأنصاري، شهدت نهوضاً بين 1967 و1973، لكنه انتعاش ''كان مؤقتاً، لكن طريق العودة للانكسار تجددت مع كامب ديفيد 1977 ـــ 1979، وتكرّست حال الانهزام مع احتلال بيروت 1982، التي سبقها تدمير لبنان وتشظّيه منذ عام 1975.
بهذا المدخل يقدم الأنصاري لكتابه ''مساءلة الهزيمة''، وفي هذا الرصد الدقيق لمراحل التراجع الحضاري في الأمة العربية يمارس الأنصاري دور المثقف الملتزم بقضايا أمته، والمتصل مع راهنها، وهو ـــ بحكم انتمائه للفكر الوحدوي منذ كان طالباً في لبنان ـــ أخذ على نفسه حمل ملف ''المراجعات'' ودراسة أسباب الوهن، وجاء ذلك في دراسته ''تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي'' (1980)، وفي كتابه ''الفكر العربي وصراع الامتداد''، ثم في دراسته ''مساءلة الهزيمة ـــ جدلية العقل العربي بين صدمة 1967 ومنعطف الألفية''. ثم لم يبخل على القارئ العربي في مراجعته لأبرز التيارات الفكرية الأيديولوجية العربية عندما عاين الناصرية من منظور نقدي في محاولة البحث عن دروس المستقبل (2002م). وتكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية: مدخل إلى إعادة فهم الواقع العربي (2003).
في بحثه عن ''العرب والسياسة'' وجذر الخلل (2000) ذهب الأنصاري إلى الاستنتاج بأنه ورغم التألق الروحي والعقلي للحضارة العربية الإسلامية فإن تاريخها السياسي يمثل أضعف عناصرها إطلاقا. وهنا يتساءل فهي ظلت تعاني ''فقر دم'' سياسيا في التطبيق، منذ التأزم المبكر للخلافة الراشدة إلى الإجهاض السياسي لمشاريع ''النهوض'' العربي في عصرنا.
والأنصاري على وعي شديد بأزمة الوعود العربية، فلطالما ظلت ''المثاليات'' المؤدلجة تبشر المؤمنين بغد أفضل، غير أن الواقع المقيم ـــ في رأيه ـــ بقي أقوى نقض لها ـــ كما لم يحدث ربما في تاريخ أية أمة أخرى ـــ ما عمق حالة الفصام بين اليوتوبيا والواقع المعاش للأمة.
وكلما اتسع الانفصام بين خدر الوعي وبؤس الواقع أمعنت الوعد والإنجاز، وبين النظرية والواقع. لذلك يرى أنه منذ دولة الإمبراطورية وإلى يومنا تبدو الأمة العربية، بكل طاقاتها الهائلة، جسما عملاقا برأس سياسي في منتهى الصغر.
هنا يقف الأنصاري عند ظاهرة التقزم السياسي المزمن لجسم عملاق! فهو يطالب العقل العربي الإقرار بأن سبب الوهن ليس كله الصهيونية أو الغرب، فلا بدّ من ''الاعتراف بأن الحالة بدأت قبل ظهور ''الصهيونية'' بقرون، ولم تقتصر على أنظمة بعينها. وكي يستعيد العرب ''قدرهم السياسي'' بيدهم لا بد من ''اختراق معرفي لهذا الحاجز السياسي''.
في هذا المطلب الداعي إلى اختراق معرفي عربي لا يبدو الأنصاري بعيدا عن مقولة صادق جلال العظم في كتابه ''نقد الفكر الديني'' الداعية لإحداث انقلاب على التقليد الإسلامي، لكن الفارق بين الاثنين أن الأنصاري لم يضع الدين أو الأيديولوجيات الدينية سببا للتردي، بقدر ما كان في جميع كتبه وبحوثه يشير إلى تضافر عناصر مختلفة أدت إلى تغييب العقل وألحق بالأمة الهزائم الكبرى.
في الفكر الأنصاري تبدو فلسطين القضية الماثلة والنموذج الواضح الذي يكشف واقع الأمة وترديه، وهو هنا يتفق مع الجابري في دارسته وتحليله للخطاب العربي المعاصر، الذي رأى فيه أن الكارثة الفلسطينية بعد عام 1948 أصبحت حاضرة في الوعي العربي بدلا من القضية المركزية التي غالبها الفكر العربي في عقدي الثلاثينيات والأربعينيات, وهي الاستعمار، فإذا كانت مقاومة الاستعمار على رأس أولويات الفكر العربي، فإنها بعد النكبة صارت درجة ثانية في مقابل صعود حضور القضية الفلسطينية.
مشكلة العقل العربي هنا في التلازم بين الوحدة أو التقدم والاشتراكية ، لأن هذا التلازم الذي ظل العرب يبحثون عنه كان في لحظة من اللحظات سببا في إطلاق وعود كبرى وتغييب للعقل عن رؤية الخيارات والنتائج الكارثية التي أدت إليها سياسات الوعود التي كانت لا تتنازل أبدا عن تحرير كامل تراب فلسطين، وانتهت إلى سلام ومفاوضات مع بدء الألفية الثالثة.
يُعد محمد جابر الأنصاري الأكثر اشتغالاً من بين المفكرين العرب المعاصرين، بسؤال الراهن والمستقبل العربي، وإزاء ذلك مارس جراحة فكرية عميقة تميّزت بالموضوعية والتحليل، وفي الانفتاح غير المسبوق على مختلف المصادر المعرفية من صحافة وأدب وأعمال فكرية وسياسية ومذكرات وآراء فقهية، ومن ذلك ملاحظته موقف المرجع الشيعي محمد مهدي شمس الدين المناهض لمبدأ ولاية الفقيه والميّال إلى مبدأ ولاية الأمة، وهو يرى في هذا الموقف تحولاً فكرياً مهماً داخل البنية الفكرية الشيعية باتجاه ''توافقه مع الفكر السنّي في نطاق مسألة الإمامة''.
مراجعة الأنصاري أسباب الهزيمة فرضت عليه التواصل البحثي المعرفي لجهود من سبقوه إلى معاينة الحالة العربية، فراجع أفكار من سبقوه أمثال أحمد أمين الذي يعدّه ''الرائد الأسبق لفكر ونموذج المشروع الفكري البحثي'' في دراسته ''العقل العربي وتحليله ونقده''.
وهو لا يغفل عن المفكرين اليساريين أمثال محمود أمين العالِم، الذي ''مارس سبقاً قبل حقبة الهزيمة'' في ممارسة النقد الذاتي، ولا يترك حليم بركات أو الطيب نيتريني أو حسين مروة وصادق جلال العظم وغيرهم من أمثال أدونيس الذي اعتبره شاعراً مجدِّداً لكنه في مجال الفكر والبحث المعرفي وجد أنه ''غير محايد ومنحاز أيديولوجياً''.
هذه المقاربات النقدية لجيل من رموز الفكر العربي المعاصر هيّأت للأنصاري الدخول في معاينة فكر التيار الناصري، وهو يبدأ المنفذ من خلال الوعي بالأزمة, يقول الأنصاري في كتابه ''الناصرية من منظور نقدي'': ''في مساء يوم 23 تموز (يوليو) 1952 كنتُ في الثالثة عشرة من العمر، قبل سنة من إنهائي المرحلة الابتدائية في مدينة المحرّق، وسمعت العائلة راديو لندن يقول: إن الجيش قد عزل الملك فاروق، وأسِفْنا للملك لأنه ملك مصر التي نحبها والتي كانت تقاوم الإنجليز كما كنّا نقاومهم في البحرين والخليج ...''.
الأنصاري الطفل الذي راقب الأحداث مبكراً، نشأ قومياً منذ أن وُلد في البحرين عام 1939، وتعلّم في مدارسها الثانوية، ثم سافر إلى بيروت ودرس في الجامعة الأمريكية، ونال منها شهادة البكالوريوس عام 1963، ثم الماجستير في الأدب الأندلسي عام 1966، والدكتوراه في الفلسفة الإسلامية الحديثة والمعاصرة عام 1979. ظلّ خلال الفترة من 1952 حتى 28 أيلول (سبتمبر) 1970 يعيش حلم التجديد، آنذاك سمع بوفاة الرئيس عبد الناصر، وأغلق الباب عليه في غرفته وأجهش بكاءً، ولعله كان يبكي الرجل والحلم معاً ''لم أبكِ الرجل وحسب، لكنني بكيتُ آمال الأمة الضائعة وفجيعة جيل بأكمله ...''.
الناصرية التي بشّرت بالتحرُّر، مع الأسف انتهت بسلطة فاسدة ومواطن مقموع وتسلّط داخلي، وكانت تلك النهاية، وفوق كل ذلك انتهت حقبة عبد الناصر بالنكسة وتداعياتها التي كانت بتعبير أديب المرحلة نجيب محفوظ تمثِّل ''انكساراً للروح''.
تلك الهزيمة كانت تقرأ ممهداتها في انفصال دولة الوحدة في شباط (فبراير) 1961، وكان شاعر مصر أمل دنقل يعبر عن القادم بمطلع قصيدته التي قال فيها:
من أين ترفع السنابل الخضراء في القرى أعناقها
والجند يسحقون في زحفهم للشام
كي يدخل الفرعون في المركبة الحزينة
ويخطب الوعاظ باسمه
(ص153 الناصرية من منظور نقدي).
مع كل ذلك الإبحار في فكر الهزيمة، لم يبخل الأنصاري على أبناء مجتمعه، فكان مثقفاً عضواً فاعلاً، عمل في مواقع بحرانية عامة من رئيس الإعلام وعضو مجلس الدولة في البحرين بين عامي 19691 و971، ومؤسسة أسرة الأدباء والكُتّاب، وأول رئيس لها في البحرين عام 1969، وهو اليوم المستشار الثقافي لملك البحرين.
ألّف الأنصاري العديد من الدراسات والبحوث التي عايشت الفكر العربي الحديث والمعاصر، إلى جانب دراساته لمسألة الإسلام السياسي والعرب والسياسة، وقد مارس في مجمل أعماله الفكرية نقداً ثقافياً تميّز بسعة الاطلاع على مصادر التاريخ العربي المعاصر مع إلمام دقيق بأحوال المثقفين العرب وهمومهم، وهو في أفكاره يتمتع بحيوية مستمرة ولم يقع أسيرا للنمذجة الفكرية أو للماضي التليد بقدر ما كان يريد للعرب الدخول إلى المستقبل من باب العقل والأخلاق معا.