جدلية الديني والسياسي في إسرائيل .. عافوديا يوسف نموذجا

علاقة الديني بالسياسي في إسرائيل علاقة ملتبسة جدا ومعقدة، ففي الوقت الذي تعد إسرائيل نفسها دولة ديمقراطية ومدنية، إلا أنها أيضا على الناحية الأخرى دولة يحكمها العسكر دائما، فطيلة تاريخها السياسي كان رؤساء وزرائها من المؤسسة العسكرية، الأمر الذي يؤكد أن ثمة علاقة بين العقيدة العسكرية والعقيدة الدينية، وهذا ما يفسر الحضور الكبير لشخصيات دينية "حاخامات" في السياسة الإسرائيلية، لكن السؤال الذي يحتاج إلى إجابة واضحة هو سر الحضور الكبير لعوفيديا يوسف في السياسة الإسرائيلية، ولماذا عندما تذهب إسرائيل "الحكومة" للسلام، يأخذ رجال الدين فيها الجانب المتطرف والمتشدد؟ وعليه يتساءل البعض من يحرض الآخر، ومن المؤثر الأكبر أم هي لعبة متبادلة الأطراف ومعترف بها في الساحة الإسرائيلية، ما الحدود الفاصلة بين ظاهرتين السلطة السياسية والسلطة الدينية؟.

#2#

ومن المعلوم أن علاقة الديني بالسياسي شغلت حيزا كبيرا من اهتمامات الفلاسفة ورجال الفكر والسياسة ورجال الدين, وأسهمت جهود كل من رواد فكر التنوير الغربي أمثال ميكيافيليي، وجون لوك، في الحد من سلطة الكنيسة بشكل أو بآخر، وإضعاف المركز السياسي للبابا فيها من خلال كتبهما التنويرية، كما أسفرت جهودهم إضافة إلى فولتير وهيجل وجان جاك روسو واسبنوزا وكونت وكانط... إلخ عن حركة تحديث شاملة امتدت إلى كل ميادين الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية، دعت إلى وضع حد في العلاقة بين الديني والسياسي في الفكر الغربي.

وعلى الرغم من الأساس التاريخي الذي يمتد إلى عدة قرون خلت لفصل الديني عن السياسي إلا أن تلك الجهود التي بذلها الفكر الغربي بدا من الواضح أنها لا تستطيع الصمود طويلا أمام قوة وانتشار الديني فواقع الأمر في الوقت الراهن يشير إلى عكس ذلك تماما فخلال العقود الأربعة الأخيرة بدأ الخطاب الديني يعزز مكانته في الحياة العامة، وبدأ يظهر بشكل أكثر قوة وثقة بنفسه، ساعده على ذلك استفادته من أزمة الحداثة الغربية المنفصلة عن القيم الإلهية, ومن تزايد الشكوك حول مستقبل العلمانية والحداثة الغربية التي أدت إلى موت الإنسان في الثقافة الغربية بعد أن أفرغت من روحها الحضارية، واختزلت في أبعادها التقنية، وغلبت عليها العدمية والإداتية والوظيفية.

في هذا السياق الذي أعلن موت الإنسان في الثقافة الغربية نتيجة للقيم المادية التي أصبحت تتحكم في كل مسار حياته نشطت الأصولية المسيحية، وكثفت من مساعيها الرامية لإعادة إنتاج أوروبا والغرب، وما قد يقال بشأن الفصل بين الديني والسياسي في التجربة الأوروبية الحديثة وعزلها الدين إلى الحياة الخاصة أو الدائرة الفردية مجرد فرية كبرى، الحقيقة أن أوروبا لم تفصل الديني عن السياسي ولا يمكن ذلك، وإنما صنعت لها من الحداثة دينا وضعيا له مقدساته ومنطلقاته ويرتبط ارتباطا عضويا بالسياسة, فالدين لم يتوقف بشكل نهائي عن التدخل في الأمور الدنيوية، وأن الكنيسة في الغرب لم تسلم من الاستغلال السياسي والدين لم يتوقف كليا عن التدخل في الأمور الدنيوية بدليل قرار مؤتمر الفاتيكان الثاني القاضي بتبرئة اليهود من دم المسيح وبكتابة عبارة "في الرب نضع ثقتنا" على الدولار الأمريكي والصراع البروتستانتي الكاثوليكي في أيرلندا الشمالية، والهجوم المبرمج حاليا على الحجاب والمساجد والمآذن والمصاحف في أوروبا والولايات المتحدة!
ضمن تلك السياقات مجتمعه التي تجعل من الديني تابعاً للسياسي يمكن فهم طبيعة التصريحات التي أطلقها أخيرا رئيس طائفة اليهود الشرقيين في العالم، الرئيس الروحي لحركة "شاس" الدينية، الحاخام عافوديا يوسف، التي دعا فيها إلى قتل الرئيس عباس، وقتل الفلسطينيين جميعا، لأن قتلهم أصبح الآن مشروعا من وجهة نظره التي تحمل في طياتها رؤية التلمود للبشر من غير اليهود، وهذه الدعوة ليست بالدعوة الجديدة للفكر الديني والسياسي الذي ينطلق منه "الحاخام عافوديا"، فقد سبق تلك التصريحات تصريحات لا تقل خطورة عن تلك التصريحات، وذلك عشية عيد الفصح اليهودي أخيرا عندما ألقى في خطبة تقليدية التي تبث عبر الأقمار الصناعية إلى شتى أنحاء العالم كل أسبوع، التي تحدث فيها "عافوديا يوسف" عن العرب الذين "يناصبون العداء لإسرائيل منذ 100 سنة ويحاولون تدميرها". وقال في إرشاداته للمؤمنين اليهود: أكثروا من ذكر هذه الآية من التوراة خلال عيد الفصح: "صب غضبك على الأغيار" فهذه مناسبة جدا لأوضاعنا، لأن أعداءنا يحاولون القضاء علينا منذ خروجنا من مصر حتى اليوم، من دون توقف.

ودعا عافوديا يوسف الحاخام اليهودي الله أن "ينتقم من العرب ويبيد ذرّيتهم ويسحقهم ويخضعهم ويمحوهم عن وجه البسيطة". وأوصى اليهود بالشدة مع العرب "ممنوع الإشفاق عليهم، يجب قصفهم بالصواريخ بكثافة وإبادتهم. إنهم لشريرون"، وهو بتلك التعبيرات يقترب بشكل مباشر من روايات الثأر والانتقام والاعتداء والقتل التي تطغى على كلّ ما يرد في النصوص التوراتية والتلمودية المتداولة حالياً، وهي لا تخلو من الغدر والخيانة والحضّ على الاستعلاء والعدوان والتسّلط والعزلة وضرورة التوّجس من الأغيار والتّرفع عنهم، وهو ما اتخذته الصهيونية منهجاً رئيساً وأعادت تشكيله بما يتّفق والواقع الراهن.

هذه الروايات التوراتية تنسب تلك الروح العدوانية إلى "يهوه" الإله المسّمى "ربّ الجنود"، وليس هناك سبب منطقي لهذه الروح العدوانية إلاّ الروح العدوانية نفسها ورغبة يهوه أن تعرفه الشعوب والأمم على أنّه القادر القوي المتّميز الحامي لشعبه المقّدس. وحسب الرواية التوراتية نجد أنّ الإله اليهودي ومنذ بدء الخليقة مّيز بين الإنسان وأخيه الإنسان.
وما يعبر عنه الحاخام عافوديا يوسف هو تعبير حقيقي للبنية وتفكير المجتمع اليهودي، فالحالة الدينية والسياسية اليهودية تتميز بعدة خصائص، كما يشخصها الدكتور عبد الغفار الدويك في كتابه "الحالة الدينية في إسرائيل": الأولى أن نمو الحركة الدينية في إسرائيل أخذ اتجاها عكسيا لنمو الحركات الاجتماعية عامة والدينية خاصة، إذ يؤكد النظير السوسيولوجي أن الحركة الاجتماعية تنمو إلى أعلى من السياسة إلى العقيدة، حيث تجمع الحركة عناصرها وأعضاءها، على ما يؤكد "تالكوت بارسونز" من هؤلاء المغتربين عن النظام القائم، الذين يعانون الفشل في إشباع حاجاتهم الأساسية، ثم يشكل هؤلاء المغتربون جماعة فرعية تتطور وتنضج، حيثما تحتل أيديولوجيا تشكل عقيدة لها، على خلاف ذلك كان تطور الحركات الدينية في إسرائيل.

فيما تطورت من أساس عقيدي ثابت وقوي تمثل في الديانة اليهودية، وبسبب ظروف اجتماعية غير مواتية عاشتها الجماعات اليهودية في الشتات، شكلت المعتقدات الدينية أساسا لعقيدة أيديولوجية، حتى تأسست الصهيونية في ظل المعتقدات الدينية التي تسعى إلى التجسد المادي على هيئة المجتمع الإسرائيلي والدولة الإسرائيلية في المكان والزمان المحدد، وتتمثل الخاصية الثانية في أنه حينما تأسس التيار الديني في بناء المجتمع الإسرائيلي، تعاملت معه اليهودية السياسية بمنطق نفعي، حيث التداخل الكبير بين السياسة والاقتصاد، ومن ثم نجد أن التيار الديني حاضر أبدا وبقوة في اللحظات المهمة والتاريخية من تاريخ المجتمع الإسرائيلي. وتتمثل الخاصية الثالثة في الحضور الدائم للتيار الديني على الساحة لكنه حضور دينامي في الغالب في لحظات الخطر يقتحم عالم السياسة ليتولى تعبئة يهود العالم وراء الفعل السياسي الإسرائيلي، حيث يوظف العقيدة لتنظيم الفعل السياسي أو النتائج المنزلة عليه في لحظات الاسترخاء.

وفي السياق الذي يبحث في جدل الديني والسياسي ذاته يستدعي الأمر منا الوقوف عند جدلية الديني والسياسي في الغرب عموما، وفي الولايات المتحدة على وجه الخصوص، فالخطاب الديني بدا موقعه يتعزز، ويظهر بشكل أكثر قوة وثقة بنفسه بشكل لافت للانتباه في الولايات المتحدة، ففي كتاب "مقدمة في الأصولية المسيحية في أمريكا والرئيس الذي استدعاه الله وانتخبه الشعب الأمريكي مرتين"، استفتح الكاتب والناشر عادل المعلم الطبعة الثالثة للكتابة بتقرير لـ"نيوزويك" التي خصصت نصف عددها لتحليل نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية ودور الأصولية والإينجليكية في الدفع الجماهيري لصالح بوش الابن الذي فاز بفارق ثلاثة ملايين صوت على المرشح الديمقراطي جون كيري, وأن 22 في المائة من الناخبين كان محور اهتمامهم الأساسي في الاختيار "القيم الأخلاقية". والكتاب يتحدث عن "حروب الرحمة" وهي ترجمة لمقالة نشرت في مجلة "دير شبيجل الألمانية" في 17/2/2003 (قبيل الغزو الأمريكي للعراق). توضح كيف يربط "بوش الابن" وإدارته اليمينية بين المصالح القومية الأمريكية والأصولية الدينية على نحو غير مسبوق، وإن كان لا يمثل خروجاً عن مسلك سابقيه من رؤساء الولايات المتحدة، إذ يرونها "بلد الله" ذات مهمة "جلب السلام للعالم من خلال الحرب"، كما تتبعت السيرة الذاتية لبوش الابن مقارنة بحياة أبيه، والفصل الثاني هو ترجمة لمقالة من مجلة "نيوزويك" الأمريكية عدد 10/3/2003 (أيضاً قبيل العدوان) بعنوان "بوش والله"، وكيف يرى نفسه مبعوث العناية الإلهية في العالم...، والفصل الثالث يمثل مقتطفات من كتاب "بوش الابن": "مهمة للأداء: لأحقق إرادة خالقي"، وهي مذكراته التي يشرح فيها سيرته الذاتية ورؤيته لمهمته ومهمة بلاده في العالم. ثم في الجزء الثاني من الكتاب يأتي بيان موقع الأصولية الدينية المسيحية وارتباطاتها بالأصولية اليهودية، وكيف تؤثران في سياسات الولايات المتحدة ورؤيتها للعالم ولمنطقة الشرق الأوسط.

وتؤكد الخلفية التاريخية للولايات المتحدة وشعبها تغلغل كثير من قيم الأصولية اليهودية في عقلهم الجمعي، فنظرة الأمريكيين لليهود مقابل نظرتهم للعرب والمسلمين، ترتكز على مقولات العهد القديم التي تحكي القصة الشهيرة لولدي سيدنا نوح: "كنعان" و"سام"، إذ ترى الأول "كنعان" (أبو العرب) استحق اللعنة، وأن يكون هو وبنيه عبيدًا "لسام" (أبو اليهود) وذريته، فضلًا عن المقولات الخاصة بوعد الله بني إسرائيل بأرض الميعاد ( فلسطين حسب زعمهم)، واعتبارهم أن الله قد حثهم على قتل غيرهم من الأمم وتدمير ما يدخلونه من مدنهم.. ثم كيف كانت إقامة دولة إسرائيل التطبيق العملي لتلك المقولات، مقابل اعتبارهم أن العرب والمسلمين ما هم إلا همج ملعونون لا يستحقون الرحمة.
وفي تلك الرؤية تجاه العرب تتطابق نظرة اليمين المسيحي مع المقولات التوراتية المحرفة التي يرددها الحاخام عافوديا يوسف مع وجهة النظر التي يحملها اليمين الديني المتطرف في الولايات المتحدة، ولكن رغم كل ذلك هل يمكن الحديث عن ديني منفصل عن السياسي في الغرب عموما؟ نقول لا ينفصل الديني عن السياسي في الغرب وكل يتمم الآخر ويجد فيه العون والمدد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي