من الاستهتار إلى النجومية (3)
استهترت شركات النفط العالمية وحكومات الدول المستهلكة ووسائل الإعلام العالمية بخبر إنشاء ''أوبك'' يوم 14 أيلول (سبتمبر) من عام 1960 لدرجة أن الصحف العالمية تجاهلتها تماما إلا صحيفة ''نيويورك تايمز''، التي أفردت لها خبرا صغيرا في صفحاتها الداخلية. واستمرت الدول المستهلكة في تجاهل المنظمة لمدة 14 سنة، حيث انتبهت لها فجأة على أثر حرب رمضان عام 1973 ميلادية. ويدل على هذا التجاهل وعدم الاهتمام التغطية الإعلامية البسيطة التي حصلت عليها المنظمة في تلك الفترة والعدد المحدود للدراسات والكتب التي ركزت على المنظمة. لكن الدول المنتجة نجحت خلال هذه الفترة في تعديل العقود وتحسين وضعها عن طريق زيادة الضرائب والمشاركة في الأرباح وجعل الريع الذي تتسلمه الحكومات جزءا من التكاليف. ولمعرفة أهمية إنجاز ''تنفيق الريع'' سيتم استخدام المثال الافتراضي التالي:
لنفرض أن النظام القديم أعطى الحكومات 5 في المائة من الإنتاج كريع، ثم قامت الحكومات بفرض ضرائب إضافية قدرها 10 في المائة. الحكومات كانت تهدف إلى تحصيل 15 في المائة من هذه الحالة، إلا أن الشركات أصرت على دفع 10 في المائة فقط، حيث احتسبت الريع الذي تدفعه للحكومات ضمن الضرائب. عندما نجحت الحكومات في ''تنفيق الريع'' أجبرت الشركات على اعتبار الريع كنفقة من نفقات الإنتاج، الأمر الذي أجبر الشركات على دفع 15 في المائة بدلا من 10 في المائة، فالحكومات تحصل على 5 في المائة؛ لأنها سمحت للشركات بالتنقيب، ثم 10 في المائة ضرائب على الإنتاج، والأمر نفسه ينطبق على الأرباح أيضا.
وكانت ''أوبك'' قد اتخذت قرارا في عام 1971 يشجع الدول الأعضاء على المشاركة الفعلية في الامتيازات النفطية من خلال التأميم أو المشاركة عن طريق زيادة حصة الحكومة في شركات النفط الأجنبية العاملة في هذه البلاد (الواقع أن ''أوبك'' بدأت تشجع الدول الأعضاء على المشاركة الفعلية منذ عام 1968). وبناءً على ذلك قامت النظم الجمهورية مثل ليبيا والجزائر والعراق بتأميم النفط، بينما قامت النظم غير الجمهورية مثل السعودية والكويت بالسيطرة على شركات النفط الأجنبية عن طريق زيادة حصص الحكومات تدريجيا حتى تم شراء الشركات الأجنبية بالكامل. وتمكنت دول ''أوبك'' من السيطرة على احتياطياتها النفطية في أواخر السبعينيات. ولا تعد هذه التطورات من إنجازات ''أوبك'' كمنظمة؛ لأن قرارات التأميم والمشاركة كانت فردية ودون تنسيق مع الدول الأخرى ضمن إطار اجتماعات المنظمة، كما أن هذه التطورات كانت تحصيل حاصل بسبب انتشار موجة التأميم في العالم وانحسار الاستعمار بصيغته القديمة في جميع أنحاء العالم تقريبا. وهنا لا بد من التذكير بأن أحد الأمور الرئيسة التي شجعت الدول العربية على التعاون مع فنزويلا وإنشاء ''أوبك'' هو انتشار الوعي القومي في العالم العربي وتأميم قناة السويس. ويمكن اعتبار تأميم القناة عام 1956 عاملا رئيسا في تأسيس ''أوبك''. بعبارة أخرى، كان تأميم حقول النفط سيحصل حتى لو لم تؤسس ''أوبك'' على الإطلاق. ويكفي أن نذكر هنا أن النفط أُمّم في إيران في بداية الخمسينيات قبل إنشاء ''أوبك'' بعدة سنوات، وكانت هناك جهود كبيرة في العراق لتأميم النفط قبل إنشاء ''أوبك''.
ونتج عن تأميم حقول النفط في بعض الدول، والحرب العربية ـــ الإسرائيلية عام 1973، والمقاطعة النفطية التي تلت ذلك، وارتفاع أسعار النفط بمقدار أربعة أضعاف بين عشية وضحاها، فورة في التغطية الإعلامية لـ ''أوبك''. كما نتج عن ذلك اهتمام ضخم من قبل الباحثين في علوم السياسة والاقتصاد والقانون بـ ''أوبك'' وسلوكها، في محاولة لشرح أسباب ارتفاع أسعار النفط وآثارها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في الدول المستهلكة. ولما استمرت أسعار النفط في الارتفاع في السبعينيات زاد اهتمام الباحثين والمؤسسات البحثية الخاصة والعامة بـ ''أوبك''، الأمر الذي نتج عنه ظهور مئات المقالات والبحوث والكتب التي تعالج موضوع أسواق النفط العالمية ودور ''أوبك'' فيها، لدرجة أن أكثر الصور انتشارا في وسائل الإعلام العالمية في تلك الفترة كانت لوزير دول نفطية، وليس لقادة العالم، أو مشاهير هوليوود. عندها تحولت ''أوبك'' من مرحلة الاستهتار إلى مرحلة النجومية. ورغم خفوت نجمها أحيانا، إلا أنها تعود من فترة إلى أخرى أكثر إشعاعا من قبل.
ويذكر أن ارتفاع أسعار النفط عام 1973 لا يعود إلى المقاطعة النفطية فقط، إنما إلى قرار ''أوبك'' رفع أسعار النفط من طرف واحد بمقدار 70 في المائة عشية الإعلان عن المقاطعة. والأسئلة الذي تطرح نفسها في هذا السياق هي: لماذا تضاعفت أسعار النفط بمقدار أربع مرات في نهاية عام 1973 وبداية عام 1974؟ إذا كانت المقاطعة هي السبب، لماذا لم تعد الأسعار إلى مستواها السابق عند انتهاء المقاطعة فعليا خلال فترة قصيرة من الإعلان عنها، ورسميا بعد نحو خمسة أشهر؟ بعبارة أخرى، لماذا بقيت أسعار النفط في مستوياتها العالية رغم انتهاء المقاطعة؟
ومن المعروف أن هناك عاملين يحكمان أسعار النفط وتتركز حولهما أغلبية البحوث المتعلقة بأسواق النفط العالمية هما الندرة والاحتكار. ويقصد بالاحتكار هنا قدرة عدد محدود من الدول المنتجة على التحكم في الأسعار. وتوضح الأحداث خلال 90 سنة الماضية أن التحكم في أسواق النفط سواء من قبل هيئة تكساس لخطوط الحديد أو شركات النفط العالمية التي كانت تعرف بـ ''الأخوات السبع''، أو من منظمة ''أوبك''، له دور أكبر بكثير من الندرة في تحديد أسعار النفط؛ لذلك فإن معظم الباحثين في أسواق النفط العالمية خلال 40 سنة الماضية ركزوا على دور ''أوبك'' في هذه الأسواق. وهنا لا بد من ذكر أن عدد البحوث والمقالات المتعلقة بـ ''أوبك'' مرتبط ارتباطا كليا بمدى نجوميتها، حيث تندر هذه البحوث والمقالات عندما يخبو نجمها. وسيتم في الحلقات القادمة شرح دور ''أوبك'' في أسواق النفط العالمية منذ عام 1973 وتقديم الشروحات المختلفة التي قدمها الباحثون لسلوك ''أوبك'' من خلال النماذج الرياضية والتحليلات الإحصائية التي استخدموها في بحوثهم. كما سيتم نقد هذه النماذج للوصول إلى شرح مقبول لسلوك ''أوبك'' بعيدا عن التأثيرات السياسية التي كان لها دور كبير في هذه البحوث وتمويلها.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي الشركة التي يعمل فيها.