النظرية الاقتصادية الإسلامية تستعيد ألقها بعد انهيار الاشتراكية وتراجع الرأسمالية
يبدو أن التوجهات الاقتصادية العالمية تنقاد نحو تبني مفهوم الوسطية والاعتدال الاقتصادي بديلا عن المنهج الاقتصادي للشيوعية والرأسمالية اللتين فشلتا في فهم خصوصية الإنسان وحاجاته وطبيعته وفهم المقصد الاجتماعي من هذا المفهوم، فأوغلت كثيرا في ملكية الدولة ملغية الملكية الفردية، ومهمشة جانبا مهما من النشاط الإنساني، بينما بالغت الأخرى في التملك الفردي والاحتكار والتوسع في الربا على حساب الأمن الاجتماعي والاقتصادي والإنساني فنشأت حالات من الظلم والتعثر الاقتصادي، وقد عبر عن ذلك الانهيار الاقتصادي والسياسي للمنظومة الاشتراكية الشيوعية في وقت سابق.
اليوم تظهر على نحو واضح المشكلات الكبيرة في النظام الرأسمالي الذي منح الفرد مكانة وأهمية على حساب المجتمع، ما أدى إلى حدوث أزمة مالية عالمية بسبب غياب الأخلاقيات والقيم الناظمة والحاكمة والموجهة للاقتصاد.
هذا الفشل دعا خبراء غربيين للتأكيد على أن أزمة الرأسمالية ستؤدي إلى نشوء اقتصاد جديد مختلف في طبيعته عن الرأسمالية، فقال أليكس نايت في حوار نشرت «الاقتصادية» ملخصا شاملا له إن « فقدان الثقة بالنظام الرأسمالي يحمل في طياته فرصة هائلة لإرساء أسلوب جديد، وغير رأسمالي لحياتنا هذه. ويشير نايت إلى أن «الأزمة المالية العالمية تقدم فرصة للذين يرون في الرأسمالية قوة مدمرة، وأن بالإمكان إيجاد عالم جديد. وهو يجادل على الدوام بأن علينا أن نتحدث إلى الناس بلغة تتضمن قيمنا المشتركة من ديمقراطية، وحرية، وعدالة، واستدامة. فماذا لو استعاد التقدميون في هذا العالم هذه القيم المشتركة، وجعلوها منابر إرشاد في الطريق لتحقيق مجتمع أفضل؟ ويرى نايت «إن الحلول الحقيقية للمشكلة تكمن في إيجاد ترابط بين العدالة البيئية والعدالة الاجتماعية. وإذا ما فضلنا واحدة على الأخرى فإننا سنسبب أضرارا إضافية، فيجب أن تشفى الكرة الأرضية وتشفى المجتمعات». ويقترح هذين الهدفين كنقطة بداية للنقاش، ويقدم نايت وصفة سحرية بالنسبة له لحل الأزمة تستند إلى إرشادت خمسة لعالم جديد هي: الحرية والديمقراطية والعدالة والاستدامة والحب، وهي إرشادات تأتي في صلب النظرية الاقتصادية والاجتماعية في الإسلام.
وعلى الرغم من الصعود الكبير للمصرفية الإسلامية إلا أن ثمة مخاوف مشروعة لدى بعض الخبراء والمختصين من الإقبال الغربي عليها لغايات سد العجز في السيولة المالية ولمواجهة أزماتهم المالية لفترة مؤقتة، لا بل ذهب بعضهم للقول إن هناك مؤامرة تجري ضد النظرية الاقتصادية الإسلامية ومحاولة تشويه تطبيقاتها، وهناك محاولة لتفريغ تجربة المصرفية الإسلامية من مضمونها من خلال جرها أكثر إلى مربعات الاقتصاد التقليدي ومشكلاته، وهو ما أشار إليه الخبير في الصيرفة الإسلامية لاحم الناصر في حوار تنشره مجلة «المصرفية الإسلامية»، حيث بدأت مرحلة الحديث عن مشتقات إسلامية في ذروة أزمة الغرب الاقتصادية التي كانت ناجمة عن المشتقات أيضا، كما أوضح الناصر أن المصرفية الإسلامية توقفت عند حدود الإقراض الخالي من الربا لكنها لم تتكامل بعد لتكون معبرا ومنفذا لمقاصد الشريعة في إطار النظرية الاقتصادية الإسلامية المتكاملة، وبرر الناصر أن هناك اختلالات كبيرة في سوق المنتجات نابعة من عدم فهم شرعي حقيقي لمقاصد الشريعة، وإلا كيف يأتيك شخص من ديانة أخرى ويعمل لك خلطة سحرية يسميها منتجا إسلاميا.
الانتقادات الداخلية للمصرفية الإسلامية والتحذيرات من كونها صناعة وتطبيقا مشوها للنظرية الاقتصادية الإسلامية بتركيزها واعتمادها على محاور محددة دفعت بالدكتور يوسف القرضاوي ـــ على هامش ندوة البركة (31) التي انعقدت بداية شهر رمضان ـــ إلى توجيه النقد لما عليه المصارف الإسلامية اليوم من تغليبها المرابحة على حساب مكونات أصيلة كالمشاركة والمضاربة والتجارة والإجارة والمعاملات الإسلامية، وهو ما يعني أنها لا تعمل على تطبيق التصور الكلي للنظرية الاقتصادية الإسلامية ومقاصدها الشرعية.
القرضاوي قال إنه غير راض تماما عن المصارف الإسلامية لأنها قامت لتكون بديلا عن الربا والمعاملات المحظورة التي جلبت على المسلمين والعالم الشرور، مبينا أن البنوك الإسلامية قامت أساسا على أن البديل هو في المشاركة والمضاربة والبيوع والتجارة والإجارة والمعاملات الإسلامية الحقيقية وغيرها، لكنه عبر عن أسفه لأن المصارف الإسلامية أصبحت أسيرة «المرابحة» ، مشيرا إلى أنه للأسف أصبحت المصرفية الإسلامية سجينة للمرابحة وأصبحت 95 في المائة من عملياتها في المرابحة ـــ بحسب تقديراته ـــ فغابت منتجات المضاربة والمشاركة وأشياء من هذا النوع.
واعتبر القرضاوي أن من يقول ويبرر السلبيات من أن البنوك الإسلامية صغيرة في عمرها وتحتاج إلى وقت حتى تنضج غير صحيح، وأنه على المصارف الإسلامية أن تتقدم إلى الأمام ولا تقف عند حدود العمر لتبرير الأخطاء، موضحا أنه إذا نظرنا إلى مسيرة البنوك الإسلامية ومسيرة الفكر الإسلامي الاقتصادي نجد أنهم في أول الأمر قالوا إننا لا نستطيع أن نخرج عن الحضارة الغربية ويجب أن نأخذ هذه الحضارة بخيرها وشرها وحلوها ومرها وما يحب منها وما يكره وما لنا غير أننا نسير في ظل الغرب وتحت سلطانه. هذه كانت فترة، بعد ذلك كانت فترة تبرير نحاول نبرر ما جاء به الغرب ونحاول إعطاءهم الفتوى الشرعية، وكان بعض الناس يقول إن الربا الذي حرمه الإسلام هو ربا الجاهلية وغيره من الكلام والتبريرات.
وأكد الدكتور القرضاوي في معرض نقده أنه في مرحلة أخرى كان الحديث فيها بأسلوب الاعتذار عن الإسلام وكأن الإسلام وضع في قفص الاتهام، وأنهم يحاولون الدفاع عن الإسلام وكأنه متهم، وبعد ذلك جاء أسلوب المواجهة قلنا لنا حضارتنا وشريعتنا وفلسفتنا الاقتصادية والاجتماعية وبدأنا البحث عن البدائل مثلا هل نستطيع أن نوجد بدل البنوك الربوية بنوكا بديلة بلا فائدة وبدأت حملة نظرية فكرية قادها علماء اقتصاد وعلماء شريعة وقالوا إنه ممكن إنشاء بنوك وهناك بدائل وبرروا هذا من الناحية النظرية ثم جاءت فكرة إيجاد البدائل حيث تعاون رجال الأعمال ورجال الاقتصاد ورجال المال مع رجال الاقتصاد الإسلامي ورجال الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي وتم إنشاء أول بنك في دبي ثم أنشئت بنوك إسلامية أخرى.
وطالب القرضاوي بتحسين وتطوير البنوك حتى لا تقع فيما وقعت فيه المؤسسات المالية الغربية، في فخ النهي الوارد في حديث «لا تبع ما ليس عندك» وهذا ما حدث في الأزمة المالية العالمية الأخيرة. ووجه القرضاوي نقدا لبعض أعضاء الهيئات الشرعية الذين أسهموا في انحراف المصرفية الإسلامية عن جوهر الاقتصاد الإسلامي.
وأوضح القرضاوي أن انتشار المصرفية الإسلامية عالميا وتحديدا في بلد مثل فرنسا، أن هذا نجاح من ناحية، ولكن الخطر في أننا لا نصل بهذا النجاح إلى نجاح آخر، ونحاول أن نحسن البدائل ببدائل إسلامية عما يجري في الغرب.
وسجل القرضاوي عتبه على بعض الهيئات الشرعية، بقوله “لا أعتب على الكل فهناك علماء محترمون جدا وحريصون على التطبيق والالتزام”، ولكن العتب على بعض العلماء الذين يتبعون مسيرة التسهيل الزائد وإيجاد الحيل والتوسع في الإباحة وهذا الذي يحدث الآن.
وتأتي تحذيرات العلماء والمشايخ حرصا منهم على التطبيق الحقيقي للنظرية الاقتصادية الإسلامية وبخاصة بنموذجها المصرفي الإسلامي وشركات التكافل الإسلامية وغيرها من القطاعات، خاصة في ظل الإقبال العالمي والتعرف الفكري الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي على مكانة النظرية الإسلامية في مختلف جوانبها، ما يتطلب تقديم صورة أفضل عن الفكر السياسي والاقتصادي الإسلامي، وكي لا تصدر أحكام جائرة على المصرفية الإسلامية وشخوصها مثل مشايخ البزنس أو يبيعون دينهم لأجل الصناعة المالية الإسلامية.