تايلاند... ضلع واعد في مثلث المصرفية الإسلامية الآسيوي
تسير تايلاند بخطوات متسارعة وواثقة في مجال تنمية صناعة المصرفية الإسلامية الناشئة فيها. وعلى الرغم من حداثة التجربة نسبياً إلا أنها أثبتت نجاحها إلى حد كبير في الوقت الراهن، مع وجود مؤشرات على قفزات مستقبلية ترفع كثيراً من مستوى هذا النظام المصرفي في البلاد.
وتسعى بانكوك لأن تكوِّن مثلثاً مع ماليزيا وإندونيسيا للاستفادة من خبراتهما من ناحية، والعمل على بناء كيان مصرفي إسلامي قوي تفيد منه تايلاند التي يعيش غالبية المسلمين فيها تحت خط الفقر.
يعد الإسلام ثاني أكثر الديانات انتشاراً في تايلاند المعروفة بتعدد الأديان، حيث يربو عدد المسلمين على ستة ملايين نسمة. وتتمركز أغلبية المسلمين في المنطقة الجنوبية من البلاد وهي متاخمة للحدود مع ماليزيا. ولهذا فإنه من السهل التعرف والتأثر بالنظام المصرفي الإسلامي لماليزيا ومن ثم تحقيق جزء كبير من النجاح الذي حققته كوالالمبور. وقد بدأت إرهاصات التجربة التايلاندية في عام 1987 بإنشاء مؤسسات تعاونية قائمة على الشريعة الإسلامية كانت أولاها تعاونية ابن عفان للادخار في ولاية بتاني. وبحلول 2001 تم تدشين تعاونيات أخرى في جنوب البلاد وهي: “الصدِّيق” في ولاية سونجلا، و”الثقافة” في ولاية كرابي، و”الإسلامية” في ولاية بوكت. وقد نجحت تلك الجمعيات الصغيرة نسبياً في تقديم نفسها بقوة كمؤسسات مالية واقعية وتجربة قابلة للتطبيق في مجال إدارة وجمع ودائع المسلمين في المنطقة.
وعلى سبيل المثال؛ بلغ حجم الأصول في تعاونية بتاني الإسلامية 90 مليون باهت ـــ العملة المحلية ـــ وذلك بنهاية عام 2001. فيما بلغ إجمالي الأصول في تعاونية ابن عفان 60 مليون باهت حتى نهاية 2002.
وفي 1997 بدأ بنك بانكوك متروبوليتان توفير خدمات مالية مطابقة لأحكام الشريعة إلا أنه تعثر وواجه صعوبات مالية في إعادة تمويل ودائع المستهلكين.
وكانت البداية الحقيقية للعمل المصرفي المطابق للشريعة في عام 1998 حيث ظهرت لأول مرة المنتجات والخدمات المصرفية الإسلامية. جاء ذلك بافتتاح نافذة إسلامية لبنك GSB ثم تلاه بنك التعاون الزراعي BAAC في 1999. وبعد عامين ظهر الفرع الإسلامي لبنك Krung Thai. وقدم الفرع كافة المنتجات والخدمات طبقاً لمبادئ الشريعة.
وكان عام 2002 علامة فارقة في صناعة المصرفية الإسلامي في تايلاند إذ شهد إصدار القانون الخاص بإنشاء بنك تايلاند الإسلامي. وقد مهد القانون الطريق أمام إنشاء أول بنك يعمل بالكامل وفقاً لأحكام الشريعة في تايلاند. ويعتزم البنك الذي يقع في العاصمة بانكوك افتتاح عدة فروع في أربع ولايات أخرى.
وقد أسهمت تلك البنوك الإسلامية في دفع عجلة التنمية في المجتمع التايلاندي بصورة كبيرة وذلك عن طريق تولي مسؤولية توزيع الزكاة على المحتاجين والتركيز على طلبة المدارس الإسلامية. ومن أنشطة البنك أيضاً تقديم القروض الحسنة وتسهيلات الحج والعمرة، يضاف إلى هذا الإسهام في صندوق العقارات المخصص لبناء منازل على أراضي الوقف.
وفي ربيع العام الماضي تم إطلاق مؤشر تايلاند المتوافق مع الشريعة الإسلامية. وهو عبارة عن مجموعة مختارة من الشركات التي قامت لجنة من علماء الشريعة الإسلامية بالتحقق من ميزانياتها العمومية والتأكد من موافقة أنشطتها للشريعة وعدم مخالفتها أياً من مبادئ الشريعة ـــ كما هو الحال في الشركات التي تعمل في مجالات الخمور والتبغ ولحوم الخنازير وغيرها، ويضاف إليها الشركات التي تتعامل بسعر الفائدة. وتقوم اللجنة باستبعاد أية مؤسسة مالية تعمل في أي من تلك الأنشطة.
ويرجع المحللون إنشاء هذا المؤشر إلى الرغبة في تشجيع مزيد من المستثمرين من دول الشرق الأوسط. كما أنها تسعى إلى تكوين مثلث مع ماليزيا وإندونيسيا اللتين تسبقان بكثير في هذا المجال بهدف الاستفادة من خبراتهما وتعزيز وجود قوة إقتصادية إسلامية في المنطقة.
#2#
ويرى المراقبون أن تايلاند تعتبر أرضاً خصبة لانتشار صناعة المصرفية الإسلامية حيث توقع الكثيرون أن يتم افتتاح عديد من البنوك الإسلامية هناك. ومن جانبه أعرب محمد ليبا ـــ الأستاذ المساعد في كلية الحقوق في الجامعة الإسلامية العالمية ـــ عن طموحه إلى إنشاء عدد من البنوك الإسلامية في تايلاند وتحدي العقبات والتحديات التي تقف أمام هذا الطموح. وأشار إلى أن إنشاء بنك إسلامي في بلاده التي تخضع لحكم غير الملسمين يعتبر إنجازاً يجب عدم التقليل من شأنه، ولا سيما في ظل التحديات التي يواجهها المسلمون للحفاظ على هويتهم. ودعا ليبا ـــ في تصريحات لوكالة الأنباء الكويتية ـــ إلى إصدار قانون خاص بالعمل المصرفي بشكل عام والبنوك الإسلامية بشكل خاص بما يتيح إنشاء عدد أكبر من تلك البنوك، حيث إن البنك الموجود حالياً تم تأسيسه بقانون خاص ينص على إنشاء بنك إسلامي واحد.
ويقترح الخبراء أن يتم منح جهة ما صلاحية السماح بإنشاء بنوك إسلامية جديدة، وأن يفتح المجال أمام رجال الأعمال للإسهام في تلك الصناعة.
ومن شأن هذه الاقتراحات أن تضع إطاراً محدداً لإنشاء وعمل البنوك الإسلامية، حيث يعتري القانون المشار إليه قصور من عدة أوجه. من أهم نقاط القصور تجاهل استخدام كلمة “الشرعية” في وصف الهيئة الاستشارية للبنك مع عدم اشتراط كون أعضائها متخصصين في الشريعة وفقه المعاملات. يضاف إلى هذا أن القانون لم يمنح قرارات الهيئة الاستشارية صفة الإلزام.
ونظراً لحداثة التجربة التايلاندية أعلنت ماليزيا من جانبها استعدادها التام للمساعدة في تأسيس نظام مصرفي إسلامي قوي في تايلاند. وأعلنت كوالالمبور عن نيتها إرسال خبراء مصرفيين للمساعدة في إنشاء بنوك إسلامية في ثلاث ولايات في جنوب تايلاند. من جانبها أكدت وزارة المالية الماليزية أن إنشاء البنوك لن يستغرق شهراً أو شهرين ويبقى الأمر في إمضاء هذا العرض مرهوناً بموافقة الجانب التايلاندي. كما أن حكومة بانكوك هي المخولة بتحديد طبيعة المساعدة بين جهود مشتركة أو مساعدة فنية قصيرة المدى إلى أن يتمكن قاطنو الولايات المعنية من إدارة البنوك بأنفسهم.
الفرص والتحديات
يتوقع الخبراء أن تصبح المؤسسات المالية الإسلامية في تايلاند قادرة على تقديم المنتجات المطابقة للشريعة لا للمسلمين فحسب، بل لكل العملاء من غير المسلمين أيضاً. ويراهن هؤلاء على قدرة تلك المؤسسات على تقديم المصرفية الإسلامية كبديل ناجح وآمن لنظيره التقليدي، ومن ثم اجتذاب أكبر عدد من العملاء من مختلف التوجهات.
ويأمل المراقبون أن تنجح تلك المؤسسات في تحقيق الأهداف التي تضمن لها الوجود القوي الفاعل في الساحة المصرفية الآسيوية. أول هذه الأهداف أن تلبي الاحتياجات المصرفية والائتمانية للسكان المسلمين، على أن يكون ذلك من خلال إطار عمل يتفق مع أحكام الشريعة. ومن تلك الأهداف أيضاً غرس عادة الادخار بين المسلمين في تايلاند وبصفة خاصة عندما يتعلق الأمر بالادخار من أجل أداء فريضة الحج أو العمرة. وثمة هدف يتعلق بتقديم المساعدات المالية للشركات والهيئات التي تعتزم تنفيذ مشاريع استثمارية ولا سيما في المقاطعات الحدودية في الجنوب، إضافة إلى هدف جذب المدخرات والاستثمارات من الدول الإسلامية الأخرى ولا سيما دول الخليج العربي. وأخيراً تشجيع المؤسسات المالية غير الإسلامية على الانضمام إلى القطاع المصرفي الإسلامي.
ومثل عديد من البنوك الإسلامية في العالم يعتمد مستقبل المصرفية الإسلامية في تايلاند على الأفراد والهيئات الإسلامية. ولهذا فإن الخبراء يثمنون غالياً الدعم الذي تقدمه المدراس الإسلامية الخاصة، والمساجد، والمراكز الإسلامية، والتعاونيات الادخارية، فضلاً عن أموال الزكاة. ويعتبر هذا الدعم فاعلا إلى حد كبير خاصة في مرحلة النمو لتلك البنوك. وبحسب إحصاءات عام 1999 يوجد في تايلاند 128 مدرسة إسلامية خاصة يدرس فيها 70 ألف طالب وتعمل في خمس ولايات على الحدود الجنوبية للبلاد. وهناك 3018 مسجداً و33 لجنة إسلامية إقليمية من مجموع 74 إقليماً. وتعتبر هذه الأرقام مؤشراً للإمكانات التي تؤهل صناعة المصرفية الإسلامية للعب دور بارز في الاقتصاد التايلاندي.
وثمة فرص لاحت لتلك الصناعة الوليدة من خلال إدراج برنامج تحويل الإقليم الجنوبي لمركز إنتاج الأغذية الحلال ضمن البرنامج الحكومي التنموي الموسع. ويمكن للبنوك الإسلامية أن تشارك في هذا البرنامج بتقديم رأس المال للمؤسسات المشاركة فيه بصيغة عقود المضاربة أو المشاركة.
كما تتم حالياً دراسة فكرة تمويل خطوط النقل ومشاريع أخرى تنفذها الخطوط الجوية التايلاندية من خلال التمويل الإسلامي بحسب تصريحات بونجبانو سفيتاروندرا مدير عام مكتب إدارة الدين العام. وأضاف أن السندات الإسلامية هي أهم الخيارات المطروحة لجمع رأس المال من أجل تمويل المشروعات الاستثمارية الحكومية الضخمة، فضلاً عن مشروعات البنية التحتية الضخمة التي يقوم بتنفيذها القطاع الخاص.
#3#
وقال إن الشراكة بين القطاعين العام والخاص تمثل استراتيجية أخرى سوف يتم استخدامها للمساعدة على تمويل برامج البنية التحتية الجديدة. ويمكن استخدام نظام الشراكة بين القطاعين العامي والخاص من أجل خطوط النقل الجماعي المخطط إنشاؤها في بانكوك بقيمة إجمالية 80 مليار باهت (2 مليار دولار)، إضافة إلى الطريق السريع الذی يربط بين عدد من المدن المخطط إنشاؤه بتكلفة إجمالية 50 مليار باهت (1.1 مليار دولار). وستمثل الشراكة بين القطاعين العام والخاص نموذجا للمشروعات التنموية في تايلاند، حيث ترتكز شروط هذه المشروعات على المخرجات، لا الأصول.
تجدر الإشارة إلى أن وزارة المالية تعكف حاليا على مراجعة القوانين الضريبية من أجل استبعاد العقبات التي تقف في طريق تطوير سوق للسندات الإسلامية. ومن بين القضايا الضريبية ذات الصلة بالتمويل الإسلامي كون الصكوك عادة ما تستخدم أصول المشاريع والعوائد المستقبلية كضمان مقابل الالتزام الأصلي. وبموجب القانون التايلاندي فإن مثل هذه التحويلات قد تترتب عليها أعباء ضريبية.
وهناك عديد من التحديات التي تواجه صناعة التمويل الإسلامي في تايلاند، يأتي على رأسها الإمكانات الاقتصادية، ومدى قبول المجتمع لها، والقواعد التنظيمية، والموارد البشرية.
بالنسبة للإمكانات الاقتصادية يلاحظ أن أغلبية السكان المسلمين في تايلاند يعيشون في المناطق الريفية ويحترفون الأنشطة الزراعية بصورة رئيسة. وتصنف هذه الفئة ضمن الطبقة الأكثر فقراً في البلاد. وتعتبر ولايات سونجلا وبتاني ويالا ونارسيوات الأفقر بين ولايات تايلاند، حيث ترتفع معدلات الفقر فيها إلى أعلى مستوياتها. كما أن الولايات التي يتمركز فيها المسلمون بشكل عام تعاني تدني معدلات النمو وهي الأقل دخلاً بين الولايات الأخرى. وبالطبع فإن هذا الوضع يمثل تحدياً للبنوك الإسلامية التي سوف تواجه صعوبات بالغة في جذب الودائع المحلية وسط هذا التدني في الأحوال الاقتصادية. ونتيجة لهذا الوضع فإن البنوك التي تعمل وفقاً للشريعة ستعمل على اجتذاب أصحاب الودائع من مناطق أخرى لتمويل الأنشطة التي تتم في تلك الولايات الفقيرة.
وثمة تحدٍ آخر يتمثل في مدى قبول المجتمع التايلاندي فكرة المصرفية الإسلامية. في 1998 أجرت شعبة السياسات النقدية والمؤسسات المالية في وزارة المالية مسحاً لاستبيان مدى قبول المواطنين فكرة إنشاء بنك إسلامي في تايلاند. وقد أكد 98 في المئة من مجموع 452 نصفهم من خريجي الجامعات أنهم يرحبون بتأسيس بنك إسلامي، بل ذهبت أغلبيتهم إلى التأكيد أنهم سيكونون من عملائه. كما أشاروا إلى أن هذا البنك يجب أن يكون له هيكل تنظيمي مستقل.
وفي إطار بيان مدى تقبل المواطنين المنتجات التي يقدمها البنك الإسلامي والنوافذ الإسلامية للبنوك التقليدية العاملة في البلاد أظهرت البيانات أن 81 في المئة من عملاء بنك GSB يفضلون الوديعة مقابل 94 في المئة في بنك BAAC. و17 في المئة المضاربة، فيما لم تتجاوز نسبة المتعاملين بالادخار بغرض الحج 2 في المئة.
ويعتبر وضع قواعد وهيكل تنظيمي من التحديات الجدية أمام المصرفية الإسلامية في تايلاند. وفي الوقت الحالي يوجد كيانان يقومان بتنظيم المؤسسات المالية في البلاد: وزارة المالية، وبنك تايلاند (البنك المركزي). ويلاحظ أن المؤسسات المصرفية التي تقدم خدمات ومنتجات مطابقة للشريعة يتم تنظيمها من قبل أكثر من جهة مختلفة. وعلى سبيل المثال فإن كلاً من بنك GSB وبنك BAAC يخضعان لإشراف وزارة المالية من خلال قانون بنك الادخار 2489 لسنة 1949. ويخضع بنك BAAC للقانون 2509 الصادر في 1966، في حين يخضع بنك Krung Thai الذي أنشئ طبقاً للقانون 2505 لعام 1962 لإشراف البنك المركزي.
ونظراً لأن النظام المصرفي الإسلامي في مراحله الأولى في تايلاند فإنه بحاجة إلى هيكلة قانونية تضمن توفير نظام مصرفي قوي وموثوق، وطرق تتيح للبنوك الإسلامية التنافس مع المؤسسات المالية التقليدية، وكذلك سبل استثمار فاعلة، وآلية قانونية تحمي كلا من البنوك الإسلامية وعملاء تلك البنوك في آن واحد.
وتدار البنوك الإسلامية في تايلاند بالقانون الذي صدر في 2002 لتأسيس بنك تايلاند الإسلامي الذي وضعته وزارة المالية.
ويتولى البنك المركزي مسؤولية وضع السياسات المالية وعملية التنظيم للبنوك التجارية. ومن ثم فهو يعتبر في وضع أفضل للإشراف على البنوك الإسلامية وهو ما يوصي به عدد من الخبراء.
ويوصون أيضاً بألا يقتصر القانون الصادر في 2002 على البنوك الإسلامية فحسب، بل أن يتعداها لكل المؤسسات المالية التي تقدم منتجات أو خدمات تحت مظلة المصرفية الإسلامية.
ويكمن التحدي الأخير في الموارد البشرية. وقد نجح بنك GSB منذ ظهوره في تقديم الخدمات المالية الإسلامية من خلال فروعه السبعة التي تعمل في ست ولايات مختلفة. ويوفر البنك أماكن مخصصة في فروعه للمنتجات المطابقة للشريعة يعمل فيها موظفون من المسلمين. والأمر نفسه بالنسبة لبنك KTB الذي يقوم بتوظيف طاقم مسلم في فروعه السبعة المنتشرة في سبع ولايات. ولا يختلف الأمر كثيراً في بنك BAAC الذي يقدم منتجات إسلامية في 45 فرعاً من فروعه منتشرة في 14 ولاية على امتداد البلاد.
ونظراً لأن صناعة المصرفية الإسلامية حديثة إلى حد ما في تايلاند، ولا سيما بالنسبة للمصرفيين، تظهر الحاجة الشديدة لتعليم العامة والمتخصصين وصناع القرار على حد سواء مبادئ تلك الصناعة الوافدة. وحتى الآن لا توجد أية مؤسسات تضطلع بدور تعليمي في هذا التخصص. كما لا توجد شعبة متخصصة في البنك المركزي تتعلق بالمصرفية الإسلامية. ومن ثم يوصى بأن يتم استحداث شعبة داخل البنك المركزي تتخصص في قضايا الاقتصاد الإسلامي للتأكد من استمرار نمو تلك الصناعة في إطار سليم.