إعادة التوازن إلى الخلل التجاري العالمي؟

في اجتماعها الأخير الذي استضافته تورنتو في ربيع هذا العام، اتفق أعضاء مجموعة العشرين على أن يختلفوا. ورغم أن الاقتصاد العالمي بات في حاجة ماسة إلى إعادة التوازن، فإن إعلان مجموعة العشرين جاء غامضاً على نحو متعمد وبالدرجة الكافية للسماح بأي مجموعة من السياسات المحلية التي قد يختارها أي بلد لنفسه. ثم تفرق الجمع والكل يتصور أنه خرج فائزاً، ولكن العالم عموماً خسر إلى حد كبير.
إن التجارة العالمية تعاني من خلل شديد في التوازن. فالأسر الأمريكية أصبحت الآن مثقلة بالديون بسبب إفراطها في الإنفاق قبل الأزمة. والبلدان المصدرة في أوروبا وآسيا أصبحت معتمدة بشكل مفرط على بيع منتجاتها إلى الولايات المتحدة وغيرها من البلدان التي بات اقتصادها اليوم ضعيفاً مثل إسبانيا والمملكة المتحدة. كما ساعدت الإجراءات التي تفتقر إلى بُعد النظر على ترسيخ نمط أطول أجلاً من السلوك الذي يزيد من صعوبة الابتعاد عن التوازن غير المستدام السائد اليوم.
وكما هي الحال دوماً فإن التغيير يزعج الوضع الراهن المريح وأصحاب المصالح الذين يستفيدون من استمراره. على سبيل المثال، من الواضح أن جماعات الضغط في القطاع العقاري في الولايات المتحدة لا ترغب في اضمحلال الدعم الحكومي للإسكان على الرغم من حقيقة مفادها أن الولايات المتحدة ربما بات لديها مخزون من المساكن يفوق طاقتها. وعلى نحو مماثل، لا ترغب جماعات الضغط في مجال التصدير في الصين في رنمينبي قوي، رغم أنه من مصلحة الصين في الأمد البعيد أن تسمح لقيمة عملتها بالارتفاع.
وما زلنا نتمسك بالأمل في أن تنتهي اجتماعات رؤساء الدول بطريقة سحرية إلى إنتاج السياسات القادرة على إعادة التوازن إلى التجارة العالمية. ولكن من المؤسف أن التغييرات التي يتعين على البلدان أن تُدخلها على الاقتصاد الكلي تشتمل على إجراءات لا يستطيع حتى رؤساء الدول أن يتعهدوا بالالتزام بها.
فلا يستطيع أي رئيس للولايات المتحدة أن يوافق من جانب واحد على تغيير نمط الدعم الحكومي والإنفاق؛ فهو قرار راجع للكونجرس الأمريكي. وبالمثل، لا يستطيع أي رئيس صيني أن يوافق من جانب واحد على السماح لقيمة الرنمينبي بالارتفاع بشكل أسرع؛ فهو قرار يتخذ بالإجماع بين مختلف أعضاء مجلس الدولة والحزب الشيوعي. فضلاً عن ذلك فإن الإصلاحات الضرورية في كل من أمريكا والصين تتجاوز هاتين الخطوتين. فهي تتطلب أيضاً تغييرات جوهرية عميقة.
وهذا يعني أننا أصبحنا محصورين بين نمط غير مستدام مالياً من الطلب العالمي والحاجة إلى تغيرات عصيبة سياسياً في السياسات الداخلية لعديد من البلدان. والواقع أن كل السياسة محلية، ولن نجد جماهير انتخابية محلية للاقتصاد العالمي.
ولقد طالبت مجموعة العشرين صندوق النقد الدولي إعداد خريطة طريق للسياسات التي يتعين على البلدان أن تتبناها حتى يصبح في الإمكان استعادة النمو العالمي المستقر. ولكن لا مجموعة العشرين ولا صندوق النقد الدولي يستطيع أن يفرض إرادته على الحكومات الوطنية ـ ولا ينبغي له ذلك. كيف إذن قد يتسنى لنا أن نذهب إلى ما هو أبعد من الاجتماعات التي أصبحت أشبه بالطقوس والتي لا تساعد في تقدم الأجندة العالمية إلا قليلا؟
من الواضح أننا في احتياج إلى المزيد من الدعم السياسي لهذه الأجندة. ولعل المنظمات غير الحكومية، مثل جمعية أوكسفام أو جمعية "أمهات ضد الألغام الأرضية"، قادرة على إرشادنا إلى الطريق السليم. إذ إن هذه الحركات تستخدم الضغوط من أجل إقناع القادة السياسيين بوجود دعم محلي لاتفاق دولي.
من المحتم أن تتعاظم قدرة الحركات الشعبية على التأثير على السياسات. فمع انتشار قوة الإنترنت عن طريق مواقع الشبكات الاجتماعية والسياسية، ومع تنامي الديمقراطية الافتراضية، فمن المرجح أن ينمو هذا التأثير الصاعد من القاعدة إلى القمة. ويتعين على هؤلاء الذين يريدون التأثير على الزعماء السياسيين أن يتعودوا على إقناع سادتهم، أو الناس، بشكل مباشر.
ولكن من المؤسف أنه من الصعب على المنظمات غير الحكومية القائمة أن تتناول قضية تحويل عملية تنسيق السياسات الاقتصادية العالمية إلى عملية شعبية. فخلافاً لقضايا مثل الجوع أو الألغام الأرضية، فإن قضية إصلاح الاختلال في التوازن التجاري العالمي لا تمس عامة الناس بالقدر الكافي لاجتذاب التبرعات اللازمة لمنح المنظمات غير الحكومية القدرة على الاستمرار في العمل.
ولكن هناك منظمة قادرة على القيام بهذه المهمة: صندوق النقد الدولي. فإذا عمل صندوق النقد الدولي على إعادة توجيه جزء كبير من أنشطته نحو التأثير على أصحاب النفوذ بين جهات تشكيل الرأي العام العالمي، فقد ينجح في التأثير بصورة أعظم كثيراً على سياسة الاقتصاد الكلي العالمية، وخاصة السياسات التي تتبناها بلدان لا تحتاج إلى قروض الصندوق عادة بشكل أشد من احتياجها إليها اليوم.
والواقع أن صندوق النقد الدولي في وضعه الحالي غير مجهز للاضطلاع بهذه المهمة. وإذا كان راغباً في تحسين قدراته على الإقناع، فلابد وأن يتعلم كيف يصبح أكثر شبهاً بالناشطين العاملين على مستوى القاعدة الشعبية، فيستعين بالخطابة القوية، والتوصيات السياسة الواضحة، والحوارات التلفزيونية. ويتعين عليه أن يتوجه إلى الجماهير مباشرة ـ بما في ذلك الأحزاب السياسية، والمنظمات غير الحكومية، والشخصيات المؤثرة ـ في كل بلدان العالم وأن يسعى إلى تفسير وشرح مواقفه. ويتعين على الصندوق أيضاً أن يبذل المزيد من الجهد لتعزيز وجوده على شبكة الإنترنت وفي المدارس والجامعات، خاصة وأن الطلاب هم أكثر الفئات تقبلاً لأفكار المواطنة العالمية عادة.
وفي المقام الأول من الأهمية، يتعين على صندوق النقد الدولي أن يسعى إلى تغيير الكيفية التي ينظر بها الناس إليه من الخارج. فلابد وأن يُرى باعتباره مؤسسة تحترم سيادة كل بلد ولكنها تعمل من أجل الصالح العالمي. وإنه لشرط أساسي أن يتبنى الصندوق عملية تتسم بالنزاهة والشفافية في نقل توصياته السياسية إلى الراغبين في الحصول عليها، استناداً إلى البحوث الاقتصادية المقنعة وتحليل البيانات. ويتعين على البلدان أن تتقبل وتيسر المشاركة المباشرة من جانب صندوق النقد الدولي مع مواطنيها من ذوي النفوذ، ما دام هذا يتم في إطار من حسن النوايا. ولابد وأن يكون تعبير الصندوق عن وجهات نظره الاقتصادية للرأي العام المحلي محمياً بموجب اتفاقية دولية، كما هي الحال بالنسبة للسفارات والأنشطة التي تمارسها.
وإذا تمكنا من تحقيق هذه التغييرات ـ ولا ينبغي لنا أن نستهين بجسامة هذه المهمة ـ فربما نتمكن من إقناع قادة مجموعة العشرين حين يجتمعون في المستقبل بالتخلي عن اعتقادهم بأن مواطنيهم لا يهتمون إلا قليلاً بالنتائج التي يتوصلون إليها. بل وسوف يكون لديهم بدلاً من ذلك تفويض سياسي بالاهتمام جدياً بتحقيق ما هو في صالح الاقتصاد العالمي.

خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2010.
www.project-syndicate.org

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي