تخلص الأمة من العالة والتبعية هو قتال شريف وعظيم

تخلص الأمة من العالة والتبعية هو قتال شريف وعظيم

استشهد الدكتور عبد العزيز الحميدي الباحث الشرعي والمتخصص في العقيدة بعدة دلائل من السيرة النبوية التي تدل على أن الجهاد هو القتل, لكن ليس هو القتل بعينه. موضحاً أن الجهاد وسيلة من وسائل إيصال الخير والهدى والحق للناس.
وأكد أن تخلص الأمة من العالة والتبعية هو قتال شريف وعظيم. وركز الحميدي خلال مواصلته تحليلاته العلمية في برنامج «همومنا», الذي عرض على التلفزيون السعودي, أمس, على القوة الغضبية التي تتحكم في دوافع الإنسان ونوازعه، إذ ذكر قصة حدثت في عهد النبي ـ صلي الله وعليه وسلم. شدد على أن فيها عبرة وأنها استوقفته كثيرا، حيث إن هذه القصة أدت إلى هلاك أحد المسلمين ولفظته الأرض خلال دفنه، بسبب دعوة النبي ـ صلي الله وعليه وسلم عليه ـ بعد معرفته أن هذا المسلم قتل مسلما آخر نطق الشهادتين أمامه تحت راية الإسلام. وخلص الحميدي من هذه القصة إلى أنه: «من يركب سيارة ويفجرها في سوق أو يفجرها في مجمع سكني ويحصد أرواحا وخلائق لا ذنب لهم من مسلمين ومسالمين وغيرهم، كم سيجني على اسم الإسلام واسم الجهاد من جناية فادحة وخطيرة وعظيمة».
ويرى الحميدي أن القوة الشهوانية مثل حب المال والنساء والشهرة إذا تحكمت فيه صارت مسيطرة عليه وأصبح لا يرعى شرعا ولا يرعى حرمة الله ولا حدود الله. وكذلك القوة الغضبية إذا لم تنضبط بالحفاظ على حدود الله، تصبح مثل القوة الشهوانية وتدفع الإنسان إلى تجاوز حرمات الله. ويبين الدكتور الحميدي أن اجتماع القوة الشهوانية مع القوة العقلية يدفع للاعجاب بالرأي ليقود إلى القوة الغضبية، بالتالي سينغلق عليه الهدف الحقيقي من الجهاد فتتحول نوازعه النفسية إلى الانتقام بالقسوة وبإحداث أكبر قدر ممكن من الرعب مثلا وبإثبات الوجود للموجودين ويخرج هنا بالجهاد عن هدفه الأسمى. إلى التفاصيل:

مفهوم الجهاد

أكد الحميدي أن الجهاد كلمة عظيمة وجذابة ومغرية, وهو ذروة سنام الإسلام, ولا يستطيع أحد مهما كان أن يقلل من شأنه أو يحجمه. ويستطرد: «لكن الجهاد شعيرة مشروعة تخضع كغيرها من التعبدات الكبرى لشرع الله وضوابطه وتحقيق مصالحه، فليس القتل كقتل مقصودا في الجهاد، فضلا عن التدمير والقتل العشوائي وإحداث الرعب، إنما هو وسيلة من وسائل إيصال الخير والهدى والحق للناس ـ وهذا الكلام لا أقوله أنا ـ إنما هو الفهم بنص كتاب الله ـ عز وجل ـ في سورة الحديد، قال الله تعالى: «لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان (الميزان هو الشريعة) ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز».
وفسر الحميدي هذه الآية بالقول: «بين الله (جل وعلا) أنه أرسل الرسل والأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وأنزل معهم البينات وهي الحجج الواضحات، الدالة على صدقهم والدالة على وجوب عبودية الله، وأنزل معهم الكتب والشرائع والميزان ليوزن به الحق والباطل والهدى والضلال، ليؤمن من يؤمن عن بصيرة، ويكفر من يكفر عن بينة، فيحيي من حيا عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، ثم أخبر ـ عز وجل ـ أنه أنزل الحديد الذي هو آلة الحرب الأساسية ومنه تصنع جميع أنواع الأسلحة التي يتقاتل بها الناس ويتحاربون عبر التاريخ البشري كله، وأخبر أن هذا الحديد فيه بأس شديد وفيه منافع للناس وليعلم الله ـ سبحانه وتعالى ـ من ينصره ورسله بالغيب، لذلك يقول الشيخ ابن تيمية في هذه الآية كلاما عظيما ـ مذكوراً في جزء الجهاد في مجموع الفتاوى ـ متى اجتمع الكتاب الهادي مع الحديد الناصر حصلت المقاصد العظمى في ظهور الحق ودفع الباطل، والضرر كل الضرر والخطر إذا افترق الكتاب الهادي عن الحديد الناصر عندها يتحول الحديد ليس إلى ناصر للكتاب ومثبت للحق ودافع للباطل، وإنما آلة قتل وتدمير عشوائية لتفريغ أحقاد وإحن وثارات وغارات تلبس ربما بلبوس المقاصد الشرعية».
وأضاف: «يؤكد هذا المعنى إمامنا البخاري ـ رحمه الله ـ ونرجع له لأنه مصدر عظيم من مصادر العلم، وضع كتابا ضخما جدا ضمن كتابه الجامع اسمه كتاب الجهاد والسيّر، قال هكذا كتاب الجهاد والسيّر، والسيّر جمع سيرة، لذلك يقول شراح الحديث كالحافظ وغيره السيّر جمع سيرة ومنها سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ باعتبار أن الجهاد إنما يكون جهادا على منهاج الله ومراد الله إذا كان على سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومنهجه وطريقته ـ وما وضعه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أهداف وغايات ومن وسائل محققة لتلك الأهداف والغايات، أما إذا افترق اسم الجهاد عن المنهج كما افترق الحديد الناصر عن الكتاب الهادي صار اسمه جهادا اسما، وهو في الحقيقة قتل عشوائي وتدمير وإثارة للأحقاد وتأليب لشعوب الأرض لا معنى استعدائها إلا المزيد والمزيد من القتل من كلا الطرفين».
وزاد: «وصدّر البخاري ـ رحمه الله ـ وهذه نقطة جدا مهمة كتاب الجهاد والسير بآية من سورة براءة العظيمة التي تعتبر من أعظم الآيات الدالة على فضل الجهاد، قال الله تعالى: «إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك الفوز العظيم», ثم وصف هؤلاء المجاهدين من هم؟ قال: «التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر» ثم قال: «والحافظون لحدود الله».
وعبر الحميدي في رؤيته حول الأدلة التي ذكرها: « لو لاحظنا سياق الآية في صفات هؤلاء الذين وصفهم الله، جميع الصفات ذكرت دون حرف عطف: التائبون العابدون الحامدون دون ذكر الواو، إلا لما جاء عند «والحافظون لحدود الله» أدخل حرف العطف الواو وهذا ـ كما يقول أهل التفسير ـ زيادة المبنى لا بد أن تدل على زيادة المعنى، فلا بد هنا من معنى زائد وهدف قرآني في كلام الله ـ جل وعلا ـ لما أدخل حرف العطف عندما ذكر الحافظين لحدود الله، وإدخال حرف العطف الواو. هنا له وجهان في التفسير كما ذكره أهل التفسير، الوجه الأول: أنها عطف على الصفات السابقة, لكن أدخل حرف الواو لينبه على عظيم هذه الصفة، وأنها هي الضابطة والموجهة لحفظ حدود الله وشريعته ومقاصد الشرع في فكرة الجهاد، وفي أعمال المجاهدين وفي أخلاقهم وتصرفاتهم وما يحقق هذه الحدود وهذه الضوابط دون ما لا يحققها، وأعجبني كلام للقرطبي قال: إنما جاء هنا بكلمة «بحدود الله» ولم يقل والطائعين لله مثلا، وإنما ليبين الجهاد كغيره محدود بحدود وضوابط وقواعد وشرائع».

القوى التي تتحكم في الإنسان

وأشار إلى أن: «الوجه الثاني من تفسير الواو قد يجيب عن بعض سؤالك, وهو أنه أتى بهذه الواو لأنها ليست حرف عطف ـ كما اختاره بعض المفسرين ـ إنما استئناف، ذكر الجهاد والمجاهدين في آية «إن الله اشترى» وذكر شيئا من صفاتهم التوبة وكذا ثم ذكر فئة أخرى هي القيمة على أعمال هؤلاء، هي الموجهة لها، المبينة لها، ما الحدود، وما الشروط، وهم الحافظون لحدود الله وهم العلماء الحافظون لشرع الله ودينه وشروط الأعمال التعبدية، كما حفظوا تفاصيل الصلاة وما ينقضها وما يبين صحتها، وأمور الصيام وأمور الحج، فإذا استرشد أولئك المجاهدون وضبطوا أفعالهم بتوجيه أهل الكتاب الهادي، الحافظين لحدود الله حصلت المقاصد الكبرى، وهنا في قضية جدا مهمة، أرجو أن نعطيها قدرا من التأمل، الإنسان كإنسان تتحكم فيه دوافع ونوازع ما يستطيع هو، هكذا كان من أصل خلقته وجبلته، يقول علماء سابقون وأصحاب دراسات نفسية، أيضا يؤكدون ذلك ممن درسوا علم النفس والدوافع التي تتحكم في الإنسان، تتحكم في الإنسان دوافع تخرج وتتفرع من ثلاثة دوافع أساسية يسمونها القوة الشهوانية أو القوة الغضبية أو القوة العقلية».
وأوضح أن القوة الشهوانية هي : «الإنسان مجبول على حب الشهوات، يحب المال، والظهور، يحب مثلا النساء، ويحب كذا ويحب كذا، فإذا استجاب لشهواته وتحكمت فيه هذه الشهوات صارت مسيطرة عليه القوة الشهوانية عنده، فهذا في الغالب لا يرعى شرعا ولا يرعى أن هذا ما حرمه الله ولا أن هذا حد من حدود الله لأن القوة الشهوانية تدفعه إلى ذلك».
بينما القوة الغضبية التي عدها بأنها القوة التي تتعلق بباب الجهاد قتال وحرب: «كره للنفوس» كتب عليكم القتال وهو كره لكم «فلا يتقدم له في الغالب إلا من هم مجبولون أصلا على الشجاعة والقوة، قوة القلب وقوة النفس لأنه أهوال عظيمة، فصارت القوة لمن يفعلون هذا الأمر هي القوة الغضبية، والقوة الغضبية إذا ما انضبطت بالحافظين لحدود الله، تصبح مثل القوة الشهوانية تدفع إلى عدم تجاوز حرمات الله وحدوده في هذا الباب، وبني على ذلك مقصد كبير من مقاصد الجهاد، الجهاد شرع لتكون كلمة الله هي العليا، شرع حتى لا يعبد إلا الله ـ سبحانه وتعالى ـ بشرع الله، شرع لاستنقاذ المستضعفين «ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان حين لا يستطيعون ولا يهتدون سبيلا»، شرع لمقاصد عظيمة فإذا كان القائمون به تغلب عليهم القوة الغضبية وتجتمع معه القوة العقلية بالإعجاب في الرأي ليقود إلى القوة الغضبية، بالتالي سينغلق عليه الهدف الحقيقي من الجهاد فتتحول نوازعه النفسية بالانتقام بالقسوة وبإحداث أكبر قدر ممكن من الرعب مثلا وبإثبات الوجود للموجودين, وبالتالي أن نحدث أكبر قتل للموجودين». لافتاً إلى أن هذه القوة تبتعد عن الضوابط الشرعية.
وفيما القوة العقلية هي: «العقلية يفلسف ويلبس هذه القوة الغضبية الشهوانية مقاصد شرعية ويعجب بها، فينغلق عليه الصناع من غيره من الحافظين الحقيقيين لحدود الله من العلماء، وربما انقلب عليهم متهما لهم فتقع المفاسد الكبرى ويتجه من الجهاد المرضي لوجه الله، ومن ذروة سنام الإسلام ويحقق الغايات الكبرى, إلى أداة قتل مع ما يجتمع على ذلك من التشويه العظيم وإساءة الظن بهذا الاسم العظيم الذي اسمه الجهاد، لأنه وظف في غير مكانه بدافع القوة الغضبية والقوة العقلية بإلباس المقاصد الشهوانية والمقاصد النفسية الانتقامية وغيرها من لبوس المقاصد الشرعية، ويصبح في موضع التهمة، وفي موضع سوء الظن سواء من كثير من أصحابه حتى من خصومهم وأعدائهم من الكافرين، فيلصق بالإسلام سوءا عظيما وشرا كبيرا, وقد يقول قائل، قد يسأل الشاب هل يعقل أن شخصا يقدم على الحرب ويقدم على الوغى ويلقي بنفسه في مواضع الهلاك، وتكون له أغراض نفسية وشهوات ولا يكون مقصده الفعل العظيم، القتل فيه إزهاق للنفوس، القتل والموت من أعظم المكروهات، نعم قد يتجرأ عليه وهو قد يكون أكثر حماسا له من أن تدفعه القوة الغضبية، وليس هذا الكلام من فراغ أو كلاما خياليا، إنما واقعي ويصدقه الواقع».
وشدد على «أن الجهاد اسم عام تدخل فيه فروع كثيرة أولها وأساسها جهاد النفس في طاعة الله ومجاهدة النفس عن الوقوع في معصية الله». موضحاً أن:» الجهاد هو البراق (النصر) الذي يجلب نصرة الإسلام والمسلمين».

معنى الهجرة

وفي رده على سؤال هل المفهوم موجود الآن في المجتمع عندما نقول الجهاد لنصرة الإسلام والمسلمين ولنصرة المستضعفين لا يتجه مطلقا في فكر كثير من الناس إلا إلى القتال بالذات ليس إلى القتال فقط إلى القتل بالذات، هل هذا المفهوم صحيح؟ قال: «لا، الجهاد جهاد النفس، كما قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» مع أن الهجرة قد يفهم منها الانتقال من مكان إلى مكان، لكن المهاجر عما نهى الله عنه هو مهاجر في كل حياته إلى أن يموت، وما نهى الله عنه هو شهوات في الغالب، كذلك ليس القتل من القتال في شيء قد يستوجب القتال لدفع عدو صايل، لدفع شر معين، لدفع فئة باغية بقدر ما يدفع الشر ويوقف، أما القتل العيني بذات الشخص غير مقصود حتى في حروب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع الكفار ما كانوا يجهزون على جريح، ولا كانوا يقتلون أسيرا، ولا كانوا يتبعون مُدبرا في الغالب، وإنما اكتفوا بكسر شوكة الكفار عندما يصلون عليهم دون القتل العيني المقصود بذاته، والأبلغ من ذلك وهو عبرة عظيمة تؤصل إلى ما تدعو إليه».

عتاب النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم

وأضاف: «نحن نعرف ما حصل للنبي والصحابة يوم أحد انقلبت المعركة رأسا على عقب عليهم، ووقعت مقتلة عظيمة لكبار الصحابة على رأسهم سيد الشهداء حمزة ـ رضي الله عنه ـ ووصل الأذى إلى شخص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شج وجهه الشريف ـ عليه الصلاة والسلام ـ وكسرت رباعيته وأسنانه ودخلت حلقتان من حلقات النبغة في وجنتيه، وجعل يمسح الدمع عن وجهه ـ هكذا في البخاري ـ هذا موضوع الشاهد، جعل يمسح الدمع عن وجهه، يعني أي بلاء أشد من أن يتمكن الكفار والمشركون من أذية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في شخصه حتى أسالوا دمه وكادوا يقتلونه لولا أن الله ـ عز وجل ـ حماه وحفظه، قال كلمة فقط فيها نوع ـ ما نقول انتقام ـ فيها نوع يعني الحكم على هؤلاء الكفار بأنهم كفر وشرك وقتل المؤمنين، وكادوا يقتلون سيد المرسلين، فما بعد هذه الجريمة من جريمة، يمسح الدمع من وجهه ويقول اللهم كيف يفلح قوم أدموا وجه نبيهم ـ هذا حديث البخاري حديث ابن عمر وغيره ـ فينزل القرآن عليه يعاتبه حتى في هذه ـ هذا أغرب مما وقفت عليه, عجيبة جدا ـ فينزل عليه قوله تعالى «ليس لك من الأمر شيء» يعني حتى وأنت الرسول الكريم ـ عليه الصلاة والسلام ـ حتى وقد بلغ الأذى إلى شخصك، لا تجعل لنفسك في هذا حظا مطلقا».
وعلق الحميدي على الآية التي عاتبت النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم: «ليس لك أو يتوب عليهم، يتوب على بعض هؤلاء الذين يقاتلونك أو يعذبهم، هذا أمره فيهم فإنهم ظالمون قد يعذب بعضهم، قد يسلم بعضهم، وهذا الذي حصل, يعني خالد بن الوليد الذي قلب المعركة على المسلمين، ماذا كان منه بعد ذلك لما أسلم، كان هو سيف الله المسلول، الحكم والغايات الكبرى هذه تلغي فيها الحدود».
وأشار إلى أن الجهاد مفهومه واسع: «يستطيع المسلم أن يجعل كل ما يفعل وكل ما يأتي يدخل في باب التعبد والعبادة لله، ويحقق له أعظم الثواب والأجر عند الله ـ سبحانه، حتى أفعاله التي يفعلها بحكم الطبيعة والجبلة البشرية كطعامه وشرابه ونكاحه وزواجه ومعاشرته أهله ونومه, فضلا عن ممارسته التجارة وكسبه الرزق الحلال، وتعليم الجاهل وطبابة المريض ونقله الأمة إلى مستوى من الوعي والتخلص من العالة والتبعية التي تعودناها منذ سنين على غيرنا، مثلا في أمور الطب أو في أمور الصناعات أو في أمور الهندسة أو في غيرها من العلوم، هذا عمل شريف عظيم إذا كان نومك وطعامك ونكاحك اكتسبت به أجر الله وانضبطت فيه بشرع الله انقلب في حقك إلى عبادة عظيمة».
وأوضح أن قضية الجهاد هو القتل, لكن ليس للقتل, ولا حتى القتال هدف, إنما هو وسيلة لغاية، وهي نصرة الكتاب الهادي لإبلاغه لمن يمنعه ويحرم الناس منه، لا لقتل الكفار كقتل مقصود بذاته لأشخاصهم وأفرادهم».
وخلص الحميدي إلى هذا المفهوم بعد استدلاله على قصة استشهاد عم الرسول ـ صلى الله وعليه وسلم ـ حمزة: «وحشي بن حرب العبد الحبشي الذي قتل سيد الشهداء حمزة (عم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم) يوم أحد بأمر هند بنت عتبة انتقاما، لأن حمزة قتل أباها وعمها يوم بدر ولم يقتله فقط بل مزقه، ذكرت هذه القصة مفصلة في الصحيح في باب حمزة في غزوة أحد، ولما فتح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكة خاف وحشي وقال الآن سينتقم مني وأنا فعلت شيئا، فهرب إلى الطائف، وقال له بعض من كان في الطائف له: إذا أردت أن تسلم فاذهب مع وفد سنبعثه إليهم إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه لا يهيج الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ و يحدث عنده بطء، فذهب مع الوفد إلى المدينة، فلما رآه الصحابة استوقفوه، ثم قالوا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يا رسول الله هذا وحشي، يعني ماذا تأمر الآن، يعني إنا نفرمه فرما لو شئت جزاء وفاقا، حتى يعني ما فيها لو كان قتل، قتل المقصودة، فقال عليه الصلاة والسلام: دعوه، قال: وقد جاء يريد الإسلام، قالوا: نعم، قال: دعوه».
وأضاف: «هذا عند الترمذي وعند الطبراني وبأسانيد حسنة للحافظ وصححه في الفتوى ـ دعوه فإن إسلام رجل واحد أحب إلي من قتل ألف كافر، هذه قاعدة، قاعدة عظيمة، شرعية، المقصود إسلام الخلق، المقصود هداية الخلق لا قتلهم بدليل أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو الموتور من قتل عمه من هذا الشخص، لو كان هناك مجال لأي غرض نفسي أو من اختصار القضية الكبرى هذه من قتل، القتل وهو الآن المنتصر والظاهر ومن سيسأله إذا قتل عبدا حبشيا أو سيسائله، لكن إسلام رجل واحد، لأنني بعثت رحمة للخلق وهداية لهم وهو أحب إلي من قتل ألف كافر».
وأشار الحميدي إلى أنه: «تقع الكوارث العظيمة على الأمة والإسلام بحيث ربما يظن الظان أن هذا من أعظم النصرة لله ونزل القرآن، الآية نزلت في هذا «يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل فتبينوا ولا تقولوا» حتى لو كنتم باسم سبيل الله وباسم الجهاد تبينوا انضبط بضوابط الشرع في مقاصدك وأعمالك ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا، تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا».
وسبقت هذه الإشارة من قبل الحميدي إعادة تفسير للقوة الغضبية الذي شاء تفسيرها ببعض قصتين ذكرهما من الصحيح البخاري، القصة الأولى هي: «حديث سهل بن سعد الساعدي قال: التقى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه مع المشركين وتحاربوا وتقاتلوا وكان في أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجل لا يدع (شوف باسل مرة) لا يدع للمشركين شاذة ولا فاذة إلا تتبعها بسيفه، حتى قال الصحابة وهم كبار المجاهدين وكبار الشجعان، قالوا يا رسول الله ما أبلى أحد اليوم مثل ما أبلى فلان، فصعقهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويفاجئهم بخبر ما يخطر على بال هذا المقاتل الصنديد والمجاهد العنيد مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتحت رايته الشريفة المباركة وبذل الجهد العظيم في قتال الكفار، يقول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أما إنه من أهل النار، فصعق القوم حتى قال بعضهم ـ كما في بعض ألفاظ الحديث ـ ومن سيكون منا من أهل الجنة إذا كان هذا من أهل النار ـ وأنا قلت قبل قليل قد يستغرب كيف رجل يقاتل الكفار ويكون مقاصده فاسدة وقوة غضبية، ويغلف بهذا ويفلسف وهذا شاهد حي ـ فقال بعض الصحابة لا بد هناك أمر سأتبع أمره، وأنظر ما شأنه، فتبعه وكان على حاله حتى كان من آخر النهار، أصابته جراح فوضع نصل سيفه في الأرض وذبابة، فاتكأ فقتل نفسه، فمات منتحرا قاتلا لنفسه، فجاء ذلك الصحابي للنبي ـ صلى الله عليه وسلم وقال: أشهد أنك رسول الله، قال وما ذاك، قال: الذي قلت عنه في النار حصل له كذا وكذا، قال: قم يا بلال فإذن في الناس إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة، وإنما الأعمال بالخواتيم، وإن الرجل ـ وهذا موضوع شاهد عظيم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة».
بينما القصة الثانية التي فيها عبرة استوقفته كثيراً بعد أن قرأها وجمع أسانيدها وحلل فيها، ودفعته للنظر في قضية وصفها بـ «الخطيرة» وأبعادها العظيمة قضية وهي قصة عجيبة جدا، ولأنها عجيبة نزل القرآن فيها على حد وصفه، هي قصة محلم بن جثام الليثي: «الحديث أخرجه الطبري في التفسير بسند صحيح من حديث ابن عمر، وأحمد في المسند في حديث عبيد الله بن عبد الله الحضرمي الأسلمي، والقصة في صحيح البخاري أصلها من حديث ابن عباس، وهذا تخريجها، بعث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سرية قِبل أضم ناحية من نواحي العرب في الحجاز، وكان فيهم في هذه السرية رجل من أصحابه اسمه مُحلم بن جثام الليثي ـ وهو أخو الصحابي صعب بن جثام الليثي المشهور ـ فنزلوا واديا، فمر بهم رجل اسمه عامر بن الأضبط الأشجعي وكان مسلما ولا يعرفون كونه مسلما، فسلم عليهم وقال: السلام عليكم إني أخوكم المسلم ـ هكذا في الطبري وفي غير الطبري وعند إسحاق في السيرة ـ السلام عليكم، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا، يخبرهم بأنه مسلم فالقوم كلهم لأنهم عقلاء، أهدافهم واضحة، كفوا عنه، أما محلم فكان بينه وبين هذا الرجل عامر بن الأضبط إحن وثارات في الجاهلية، فثارت عنده هذه القوة الغضبية الانتقامية لبعض إحن الجاهلية التي من المفترض أن الإسلام أبطلها وأفسدها، ويريد أن يستغل كونه الآن مجاهدا في سرية نبوية بعثها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعقد رايتها بيده الشريفة، فمن الذي سيتهمه، ومن ذا الذي سيكشف خبيئة نفسه ـ عرفت ـ فقام إليه فقتله وأخذ بعيره وما معه من متاع، لما رجعوا وأخبروا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقصة عامر بن الأضبط». وزاد: «أهمه هذا الأمر هما عظيما لماذا؟ لأن أهل القتيل ما ذهبوا إلى محلم القاتل، وإنما ذهبوا إلى قائده وإلى رئيسه وإلى نبيه الذي عقد له الراية وبعثه مجاهدا، ليقولوا له هكذا: إن صاحبنا قتل تحت رايتك وباسمك ـ وبعض ألفاظ الحديث عند أبو إسحاق ـ أبعثت، يقولون للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا صار اتهاما للإسلام وليس للنبي، مش للنبوة، يعني هذا القاتل ما انضبط لأمر الله، غلبت عليه شهوته الغضبية، قالوا: أبعثت لقتل المسلمين، يعني نحن في حيرة من أمرنا، قال ابن عمر فأهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر هذه القضية هما عظيما، ودخله كرب شديد، وقد يسأل سائل أين وجه الهم؟ أين الهم؟ وأين وجه الخطأ العظيم؟ لنجعلها جريمة قتل، وجريمة قتل رجل موجودة ومطروقة كثيرا، يعني لماذا تقع القضية الكبرى، واهتم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسينزل القرآن فيها، وسيقع لـ«محلم» المصير المظلم كما سأذكر ـ لأنه حمّل جريمته على اسم الشريعة، سيقول الناس كلهم هذا قتله المجاهدون، لا تقول قتله رجل من العرب لثارات عربية، قتل باسم الإسلام، قتله أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم، قتل تحت راية النبي، هذا ما صنعه أهل القتيل جاءوا وقالوا: أبعثت لقتل المسلمين؟ فما زال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يداريهم فقبلوا الدية، وذهب ما في نفوسهم لما رأوا ـ كما يقول ابن عمر ـ مما وقع عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الهم والكرب الشديد، فهنا تقع الكارثة العظيمة على هذا الذي أراد أن يحمل جريمته النكراء على اسم الشريعة الغراء، فجاء محلم ـ كما جاء في الحديث ـ وهو يلبس ثوبين، إلى النبي ليستغفر له فلما رآه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: اللهم لا تغفر لمحلم، اللهم لا تغفر لمحلم ، اللهم لا تغفر لمحلم، ثلاث مرات».
وأكمل سرده لهذه القصة: «لا تغفر ثلاث مرات يكررها، فقام محلم وهو يتلقى دموعه بثوبه، وعرف أنه خسر خسارة عظيمة ولم ينتهِ الأمر عند هذا الحد ـ يقول ابن عمر في هذا الحديث فهلك بعد سبعة أيام، قضى الله أمره بعد سبعة أيام هما وغما، فذهبوا ليدفنوه فلفظته الأرض ـ شوف الأمر العجب هذا ـ لفظته الأرض أكثر من مرة فجاءوا وقالوا يا رسول الله دفناه فلفظته الأرض، قال: أما إن أبا فرية هو شر منه، لكن الله أراد أن يعظكم للمستقبل للقادم لتكون عبرة وموعظة فلا تفعل أمورا».
وحلل الحميدي هذه القصة بالقول: «أنا في قراءتي البسيطة لا أعرف أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعا على رجل ينتسب للإسلام وحتى على من لا ينتسب بهذا الجزم، وهذه الصرامة بعدم المغفرة، وهذه القوة حتى كان يصلي على المنافقين كأبي واستخرجه من قبره وألبسه قميصه وقال أعلم أن الله يغفر له لو استغفرت أكثر من سبعين مرة لاستغفرت له إلا هذا، لا لأنه قتل فقط لا، لكن لأنه غلف جريمته باسم الإسلام ويدخل ضررا عظيما، وكارثة وهو قتل شخص واحد، فقس على هذا من يركب سيارة ويفجرها في سوق أو يفجرها في مجمع سكني ويحصد أرواح وخلائق لا ذنب لهم من مسلمين ومسالمين وغيرهم، كم سيجني على اسم الإسلام واسم الجهاد من جناية فادحة وخطيرة وعظيمة».

الأكثر قراءة